أتر

دفتر أحوال السودان (74): من الضّعين والحصاحيصا وأم درمان

الضّعين: لم تنجُ من قصف الطيران

خلال الحرب التي دخلت سَنتها الثالثة، تجنّبت مدينة الضّعين بولاية شرق دارفور الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع لأشهر، حتى استولت الدعم السريع على مقرّ الفرقة 20 مشاة إثر انسحاب الجيش منها، في 21 نوفمبر 2023. وكان للجهود التي قادها الناظر محمود موسى مادبّو، في الشهور الأولى من نشوب الحرب، أثرُها على استقرار المدينة، بإعلانه منع الاشتباك في ولاية شرق دارفور بين الجيش الذي كان في المدينة وبين الدعم السريع.

ومع ذلك لم تنجُ الضعين من قصف الطيران الحربي، في سبع طلعات جوية متفرقة وفقاً لمصادر عسكرية، أصاب بعضها المستشفى الحكومي ومقرات مؤسسات مدنية منها مبنى رئاسة حكومة الولاية.

تحوّلت الضعين، عاصمة ولاية شرق دارفور، إلى مركز تجاري مهمّ رابط بين ولايات دارفور وكردفان ونهر النيل والشمالية، قبل منع الدعم السريع في أكتوبر 2024 حركة التجارة بين المناطق الخاضعة لسيطرته وتلك الواقعة تحت سيطرة الجيش. رغم ذلك، استمر نقل البضائع من الدبّة إلى الضعين. وبحسب المصادر التي تحدثت لـ «أتَـر»، فإن الشاحنات كانت تعود فارغة عندما تُفرغ شحنتها ولا يُسمح لها بحمل بضائع أو سلع في طريق عودتها. لاحقاً توقفت الحركة من الدبة، وأصبحت نادرة بعد تدخل الأجهزة الأمنية التي منعت بدورها نقل السلع والمواد الغذائية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع، وهو ما دفع التجار في الضعين لاختيار بدائل وأصبحوا يستوردون السلع والمواد الضرورية من الخارج عبر دولتي تشاد وجنوب السودان، من كينيا والإمارات ومصر.

وتنشط حركة وسائل النقل بين جنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى مع الضعين على نحو لافت. ويقول مصدر بالضعين إن سوق النعام على حدود دولة جنوب السودان يُعدّ الرابط الرئيس بين جنوب السودان والضعين. كذلك تمضي الحركة يومياً بين الضعين والجنينة بغرب دارفور، ومنها إلى تشاد. وقال مصدر سافَر عبر ذلك الطريق، إن الحركة مستمرة ولا توجد ضوابط صارمة، ويجري تبادل السلع والمواد وتنقل الثروة الحيوانية باستمرار.

وعلى الرغم من عدم توفر السيولة النقدية وإغلاق البنوك، لا تزال العمليات التجارية مستمرة وفقاً لإفادات حصلت عليها «أتَـر» من المدينة.

وأنشأت الدعم السريع، التي يسيطر عسكرياً على الولاية، سلطة مدنية كونت بدورها جهاز للشرطة وعادت النيابة والمحاكم للعمل، لكن بحسب مصدر تحدث لـ «أتَـر» فإن القضاة في أغلب الأوقات لا يستطيعون إصدار أحكام رادعة على المتهمين، خوفاً من الانتقام في ظل انتشار السلاح وضعف الرصد الأمني.

الحصاحيصا: السكّان يفرّون خوفاً من تهمة التعاون

عندما اجتاحت الدعم السريع بقيادة أبو عاقلة كيكل ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، تعرّضت مدينة الحصاحيصا لعملية انتهاك واسعة، حيث نُهِبَ السوق الكبير بالمدينة ومخازن عشرات المصانع التي تعمل في صناعة الحلويات والزيوت والطحنية، وكانت ممتلئة بالحبوب الزيتية والصناعات الجاهزة للعرض في الأسواق، فضلاً عن استيلاء الدعم السريع على المركبات وممتلكات المواطنين.

وظلّت الحصاحيصا تحت سيطرة الدعم السريع إلى أن استردها الجيش مؤخّراً ضمن مناطق أخرى منها مدينة رفاعة وشرق الجزيرة والخرطوم.

وبعد خروج الدعم السريع منها، تعرّضت المدينة لانتهاكات أخرى مُوجّهة إلى من اصطُلح على تسميتهم بالحواضن والمتعاونين، وهو ما دفع سكان أحياء عريقة مثل حي المصانع إلى مغادرتها خوفاً من أن تطالهم العمليات الانتقامية الإيجازية.

كذلك تفتقر المدينة في الوقت الراهن إلى الخدمات الضرورية، وتنقطع عنها الكهرباء لأيام، وهو ما تسبّب في ندرة حادة في مياه الشرب على الرغم من وقوع المدينة على ضفة النيل الأزرق.

ووفقاً لمصادر تحدثت لـ «أتَـر»، شعر الناس بالأمن عقب خروج الدعم السريع من المدينة، لكن واجهتهم معضلة عدم توفر الخدمات خاصة الكهرباء ومياه الشرب، بجانب توقف الأسواق الرئيسة في المدينة التي أصبحت تعتمد على سوق صغير بأحد الأحياء الطرفية يُسمّى سوق «حي فور»، ليصبح بعد استرداد المدينة إلى سيطرة الجيش السوق الرئيس، إذ تتوفر فيه جميع البضائع والمواد الغذائية والخضروات، وشُيّدت به جزارات عديدة تكفي المدينة حاجتها من اللحوم.

وتقول مصادر إنّ أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى فوق مستوى مقدرة الناس الذين فقدوا مدخراتهم في الحرب، وتضيف أنّ عدم توفر الكاش بالمدينة ضاعف من المعاناة، ووصلت نسبة تحويل بنكك مقابل الكاش إلى ما بين 20% و30% حسب توفر الكاش لدى الأشخاص الذين يتاجرون فيه.

وعلى الرغم من حالة الاستقرار الأمني في المدينة، إلا أن كثيراً من السكّان هربوا من المدينة بعد دخول الجيش، خوفاً من وصفهم بأنهم حواضن للدعم السريع. وذكرت مصادر أنّ سكان حي المصانع الذي يقطنه أغلب عمّال مصانع الزيوت والحلويات والطحنية بالمدينة، فرّوا إلى مناطق كردفان ودارفور بعد انتشار أخبار عمليات الإعدامات الميدانية في ود مدني بحجة أنهم حواضن للدعم السريع. وأفاد أحد العمال الذين فرّوا بأسرهم إلى جنوب دارفور، بأنّ أسرته تعيش في المدينة منذ تأسيسها ويكسبون عيشهم من العمل في المصانع، ورغم أنهم أكثر المتضرّرين من دخول الدعم السريع للمدينة، لكنهم حالياً دفعوا ثمناً غالياً بوصفهم حواضن الدعم السريع، وتجنباً للانتقام فرّوا إلى مناطق دارفور.

مصادر أخرى بالمدينة أفادت بأن نزوح العمّال وانقطاع الكهرباء والمياه والعمليات الانتقامية ضدّ بعض السكان، حالَت دون عودة الحياة إلى المدينة، ووَصَفت الوضع بأنه يسير نحو الهاوية، إذا لم يَجْرِ إيقاف العمليات الانتقامية والسماح للسكّان بمُمارسة حياتهم دون خوف أو رعب من القتل والذبح.

ولا تزال المصانع متوقّفة بعد فرار العمّال المَهرة خوفاً من وصفهم بحواضن الدعم السريع، وفقاً لمعلومات حصل عليها مراسل «أتَـر».

ورافق العمّال في هروبهم أعضاء لجان المقاومة ولجان الخدمات، وتقول مصادر إنهم خرجوا من المدينة خوفاً من وصفهم بالمتعاونين.

أم درمان: انقطاع الكهرباء يشلّ الحياة

شهدَت مدينة أم درمان انقطاعاً كاملاً للتيار الكهربائي منذ منتصف ليلة 8 أبريل. ويأتي الانقطاع نتيجة هجوم قوات الدعم السريع بمُسيّرات انتحارية على محطات كهرباء بولايتي نهر النيل والشمالية.

ونتيجة لذلك، عاشت مدينة أم درمان بلا كهرباء لمدة 12 يوماً، ما فاقم من مُعاناة السُكّان، وتسبّب في توقّف العديد من المرافق الصحّية مع ظهور العديد من حالات الملاريا والحمّيات. ومع انقطاع التيار الكهربائي شحّت المياه، وأضحى السُّكان يشترون المياه للشّرب.

كذلك ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية خاصةً أسعار اللحوم مع توقّف الجزارات خوفاً من فسادها بسبب توقف المبرّدات، ووصل سعر كيلو اللحم الضأن إلى 24 ألف جنيه.

تأثرت المستشفيات العاملة في المدينة بانقطاع الكهرباء. تقول طبيبة تعمل في مستشفى النو التعليمي في أم درمان مُتحدثة لـ «أتَـر»، إنّ المستشفى شهد ازدحاماً نتيجة توقّف بعض الأجهزة الحيوية بسبب انقطاع الكهرباء.

وظلّ مستشفى النو يعمل طوال فترة الحرب منذ اندلاعها في 15 أبريل، يقدّم خدماته بإمكانيات محدودة ومُبادرات ودعم خارجي حتى اليوم.

وتتوفر في مستشفى النو مولّدات كهربائية بديلة، لكنها لا تكفي لتغطية احتياجات المستشفى، ما دفع الطاقم لتقليل استهلاك الكهرباء، ففي قسم المعمل، تُفصَل بعض الأجهزة لتقليل استهلاك الطاقة، ما يتيح تشغيل الأجهزة الضرورية، إضافة إلى إيقاف تشغيل معظم أجهزة التكييف، مع الإبقاء على مكيف واحد فقط لتقليل الضغط على المولد.

وبحسب الطبيبة، فإنّ قسم المعمل هو الأكثر تأثّراً بانقطاع الكهرباء، إذ يؤدّي الضغط الكبير على المولّد إلى توقّفه المفاجئ في بعض الأحيان، وانطفاء الأجهزة أثناء إجراء الفحوصات. هذا يضطر الكادر الطبي إلى إعادة الفحوصات من البداية، ويتسبّب في تأخير تسليم النتائج، وقد يؤثّر ذلك سلباً على سرعة التشخيص وتقديم العلاج المناسب، ما يشكّل خطراً غير مباشر على بعض الحالات.

فضلاً عن أن بعض الأدوية واللقاحات تتطلَّب تخزيناً في درجات حرارة معينة، وانقطاع التيار الكهربائي يؤثر على سلامتها، وقد تصبح بعض الأدوية غير صالحة للاستخدام في حال عدم توفر التبريد اللازم. كما أنّ عدداً من المرضى يعتمدون على ثلاجة صيدلية الطوارئ لحفظ أدويتهم الحساسة، مثل الأنسولين، ويأتون لأخذ الجرعات في أوقاتها المحددة.

تقول الطبيبة إنهم يعملون بنظام التحويل التلقائي إلى المولّد خلال ثوانٍ معدودة في الحالات الطارئة، ما يساعد في استمرارية العمل، خاصة في أقسام الطوارئ والعناية المكثفة، وتضيف أنّ هذا النظام قد أسهم على نحو مؤثّر في تفادي حدوث تأثير مباشر على الحالات الحرجة.

وبعد استعادة مدينتي بحري والخرطوم، يواجه المستشفى ضغطاً عالياً، حيث يتردّد عليه في اليوم ما بين 350 إلى 400 مريض، بعد أن كان يخدم حوالي 100 مريض في اليوم، نتيجة لصعوبة الوصول إلى المستشفى نسبة لإغلاق أغلب الطرق وموعد حظر التجوال المحدّد من الساعة العاشرة مساء.

وتضيف الطبيبة التي تحدّثت لمراسل «أتَـر»، أنّ الظروف الحالية تؤثر على معنويات الكوادر الطبية. ورغم ذلك، يسعى الجميع إلى التأقلم مع الواقع، وتجاوُز التحديات اليومية، بهدف تقديم الخدمة الطبية للمريض في الوقت المطلوب وبأعلى قدر ممكن من الجودة.

Scroll to Top