
باتت عبارات النداء للدخول إلى الخنادق هي الأكثر تداولاً بين سكّان الفاشر حاضرة شمال دارفور، مُختلطةً بأصوات دويّ الانفجارات، وروائح البارود المنتشرة في طرقاتها، في الوقت الذي تتساقط فيه الأرواح كأوراق الشجر. ومع بداية التدوين، وخاصة إن كان من مدفع «40 دليل» الذي أصبح السكان يُميِّزون صوته بسبب قوّته، يَهرَعُ الجميع إلى المطمورة، وأثناء ذلك قد يُستشْهَدُ أحدُهم قبل أن يصل إليها.
«يا أنفال! التدوين بدا، شِيلِي عمر وأدخلوا الحفرة»، لكنّ القذيفة كانت أسرع من خطى أنفال ذات الثماني سنوات، وشقيقها عُمر ذي الربيعين، وقد راحا ضحية قصف مدفعي لقوات الدعم السريع على أحد أحياء الفاشر. تروي والدتهما حواء الزبير لـ «أتَـر»، وقائع مقتلهما، قائلةً إنها كانت داخل الغرفة حينما بدأ التدوين تجاه الحي، وعندما سقطت أول قذيفة طلبت من طفلتها حمل شقيقها والتوجّه نحو الخندق، لكن قبل أن تصل أنفال إلى الخندق أصابتهما القذيفة. لم تدرك حواء لأول وهلة أنّ طفليها قد راحا ضحية للقصف، حتى رأت أشلاءهما تُغطي المكان.
لم تكن أنفال وشقيقها الوحيدين اللذين حصدت المدافع روحيهما، لكنهما وبحسب مقولة أهل الفاشر صادفا «دانة الشهيد»، أي أول موجة قذائف تطلقها قوات الدعم السريع أثناء الغارة، لتأخذ أرواح من تصادفهم، ثم يهرع الباقون نحو الخنادق للاحتماء من بقية القذائف.
كانت حواء قد انتقلت من بيتها في حي السلام جنوب إلى بيت والدتها عند بداية تصاعد العمليات العسكرية بالفاشر، ثم اضطرّت إلى الفرار مع أسرتها نحو معسكر شالا، ثم أبو جربون ثم سلّومة، وأخيراً معسكر نيفاشا، قبل أن تعود إلى جنوب غرب الفاشر لتلاقي قدَرها المشؤوم.
بالطبع لم تكن أنفال وشقيقها الوحيدين اللذين حصدت المدافع روحيهما، لكنهما وبحسب مقولة أهل الفاشر صادفا «دانة الشهيد»، أي أول موجة قذائف تطلقها قوات الدعم السريع أثناء الغارة، لتأخذ أرواح من تصادفهم، ثم يهرع الباقون نحو الخنادق للاحتماء من بقية القذائف.
هكذا هو الحال في الفاشر حاضرة شمال دارفور، منذ اشتداد وتيرة الصراع. وقد ظلت المدينة تُواجه هجمات متتالية من قوات الدعم السريع منذ أبريل الماضي، والتي اتجهت إلى استهداف المدنيّين والمرافق العامة خاصة الصحّية، بالقذائف المدفعية المختلفة، ما أدّى إلى فرار أعداد ضخمة من السكّان إلى ريفي الفاشر والمحليات المجاورة، ولبث من تبقى منهم داخل المدينة يُواجهون القذائف المدفعية والمُسيّرات لنحو 10 أشهر متواصلة، فلجأوا إلى المباني المشيّدة بالسيخ والأسمنت ملاذاً، لكنها لم تَحْمِهمْ مع تطوّر أنواع الأسلحة والمدافع المُستخدمة في الحرب، وأصبحت القذائف تهدم حتى المباني المُحصَّنة القليلة في الأحياء الشعبية ودُور الإيواء، ولم يبقَ أمام السكّان سوى أن يحذوا حذوَ الجيش والكتائب المتحالفة معه بحفر الخنادق في الطرقات والساحات ليحتموا بها ومعهم كلّ عابر بالمكان.
رغم ذلك تقول «رسالة»، إنّ الخندق أتاح مساحة للتعارف، وتجاذب أطراف الحديث والسؤال عن الحال، وكلٌّ يسأل عن رفيقه، هل استطاع النزول أم أنّ «دانة الشهيد» قد أدركته في الخارج، ولا تخلو لحظات الهرع إلى الخندق من الضحك رغم الخوف الذي يَستولي على نظرات الأعين ونبض الأفئدة
«رسالة» سيّدة أربعينية من حي برنجية جنوب الفاشر، تقول متحدثةً لـ «أتَـر»، إنها ورغم التدوين المكثّف والعنيف تجاه الأحياء السكنية، أصرّت على البقاء بمنزلها والاحتماء بغرفة الطوب الأخضر «الجالوص» ذات السقف البلدي، حتى استطاع شباب الحي حفر خندق في أحد الطرقات القريبة منها، وتضيف أنّ الحفرة رغم ظلمتها قد باتت بمثابة الحضن الحنون، إذ تحميهم من خطر الدانات، وتقول إنها تسع قرابة العشرين شخصاً، لكن أحياناً يحتمي بداخلها 15 شخصاً وأحياناً أخرى 50 شخصاً، بحسب عدد العابرين في الشارع.
وتقول إنّ سقف الخندق قد يهتزّ إذا سقطت قذيفة بالقرب من سطحه، كما أنّ التراب يتساقط عليهم بالداخل أثناء القصف، وقد يخشى البعض من انهيار الخندق، لكن لا حلّ سوى البقاء تحت الأرض والتوكل على الله.
لكن رغم ذلك تقول «رسالة»، إنّ الخندق أتاح مساحة للتعارف، وتجاذب أطراف الحديث والسؤال عن الحال، وكلٌّ يسأل عن رفيقه، هل استطاع النزول أم أنّ «دانة الشهيد» قد أدركته في الخارج، ولا تخلو لحظات الهرع إلى الخندق من الضحك رغم الخوف الذي يَستولي على نظرات الأعين ونبض الأفئدة.
لقد أصبح مشهد الخنادق في طرقات المدينة وساحاتها جزءاً من تشكيلها الجديد خلال الحرب، خاصةً في الأحياء المُكتظّة بالفارين من أحيائهم التي سقطت في قبضة الدعم السريع. ويُحفَر الخندق بعمق مترين إلى ثلاثة أمتار أو أكثر، ويُوسَّع لاستيعاب أكبر قدر من السكان. وتختلف التوسعة باختلاف عدد الموجودين بالمكان المُحدَّد، وعادة ما يُسقَف بأعواد الأشجار أو الزنك أو برصّ الأعواد عليها ثم تغطيتها بجوالات ممتلئة بالتراب، مع تضييق المدخل ليسع شخصاً واحداً في الدخول.
لكن اختلف الأمر مع تقدّم قوات الدعم السريع إلى داخل الأحياء، واستخدامها أنواعاً مختلفة من الأسلحة، حاصدةً بذلك عدداً أكبر من الأرواح. وبحسب شاهد عيان، تحدث لـ «أتَـر» أصبح السكان يتمكّنون من تمييز اتجاهات المقذوفات وأنواعها؛ وبُعيْدَ انفصال القذيفة وانطلاقها في سماء المدينة، يستطيعون توقُّع موقع سقوطها ومن ثم يُقرّرون النزول إلى الخندق أم يبقون بالخارج.
قد يظنّ الذي يدخل أولاً أنه هو الناجي، لكنه يُدرك خطأ ذلك ما إن تمتلئ الحفرة بالآخرين، لأنه سيكون في مؤخّرة الخندق، حيث يواجه سخونة الجو والظلام الدامس، وكذلك فإن التعجّل في الخروج ليس محموداً، فهنالك دانة شهيد أخيرة أيضاً قد تصطاد أول المغادرين.
هذا ما يحدث عندما كانت الدعم السريع تستخدم مدفع 40 دليل (مدفع روسي الصنع GRAD BM 21)، لكن مع تعدُّد الأسلحة واستخدام مدفع هاوتزر ودبابة تي 55 و120 وقرب مكان الإطلاق، أصبح تحديد الاتجاه مستحيلاً، فيضطرّون إلى إبقاء النساء والأطفال داخل الخنادق طوال اليوم.
رغم أن الخندق يَحمي أغلب السكّان من قصف الدعم السريع، يضطرُّ أصحاب أمراض الجهاز التنفسي إلى البقاء خارجاً، أو مواجهة الموت داخل الخندق، بسبب الضيق والازدحام وقلّة الأوكسجين، فضلاً عن تساقط الغبار.
قد يظنّ الذي يدخل أولاً أنه هو الناجي، لكنه يُدرك خطأ ذلك ما إن تمتلئ الحفرة بالآخرين، لأنه سيكون في مؤخّرة الخندق، حيث يواجه سخونة الجو والظلام الدامس، بعكس الذي يدخل أخيراً أو يكون عند المدخل، فيكون أقرب إلى مدخل الهواء ويخرج أولاً بعد توقّف التدوين، وكذلك فإن التعجّل في الخروج ليس محموداً، فهنالك دانة شهيد أخيرة أيضاً قد تصيب أول المغادرين.
الراحل أحمد، أحد شبّان الفاشر، لقي حتفه بعد خروجه من الخندق بدقائق قليلة فقط من توقّف القصف: مع ازدياد عدد الداخلين إلى الخندق، شعر أحمد بضيق تنفّس فاضطرّ إلى الخروج طلباً للهواء النقيّ، وليرتاح قليلاً ثم يعود مرة أخرى إلى الداخل، لكن مع خروجه وقعت قذيفة بالقرب منه ففارق الحياة، نتيجة إصابته بشظايا اخترقت جسده في عدة أماكن.
روَت شقيقته «سميرة» لـ «أتَـر» تفاصيل رحيله المحزن؛ وقالت إنها بقيت داخل الخندق لزمن طويل حتى انقضت الغمةّ ثم خرجت تبحث عنه، فرأت حذاءه ملطّخاً بالدماء، وعرفت عندها أنه راح ضحية لقذيفة اليوم. وأضافت في حزن وألم: «بقيتُ أبحث عن جثمانه لمواراته الثرى، ومن ثم الاستعداد من جديد للعودة إلى الخندق إذا استمّر التدوين، أو إلى المنزل إذا توقّف».
قامت مبادرة غرفة طوارئ معسكر أبو شوك، بالمجهود الذاتي وجمع التبرّعات، وحفرت نحو 15 خندقاً في البلوكات المختلفة بالمعسكر، يتسع الواحد منها لنحو 50 شخصاً، لكنْ توقَّف العمل بسبب ارتفاع أسعار المواد المُستخدَمة، مع انعدام النقد الذي أثّر سلباً على السوق
إبراهيم الفضل، مُستنفَر بالفاشر، تحدّث لـ «أتر» عن أنواع الخنادق ومدى قدرتها على حماية اللائذين بها، قائلاً إنها تختلف باختلاف المواد، فهنالك خنادق برميلية تتسع لشخص واحد إلى ثلاثة، وتكون مفتوحةً من الأعلى وتُعمَّق بحسب الرغبة، وتحمي من شظايا القذائف المنطلقة من جميع أنواع السلاح، إلا إذا سقطت القذيفة عليها مباشرة، خاصةً أن قوات الدعم السريع أصبحت ترصد مواقع التدوين عبر المُسيّرات، وتحدِّد أماكن التجمّعات والخنادق لاستهدافها. أما النوع الثاني فهو الأقل حماية والأشدّ تأثراً بما يحدث، ويُسمّى «قدّر ظروفك»، ويكون على هيئة راكوبة تحت الأرض مسقوفة بأعواد الأشجار، لذا فإنّ احتمال تهدّمه على رؤوس المحتمين به أكبر، خاصةً إن كانت القذيفة قوية مثل قذائف 120، إلا أنّه رغم ذلك يحمي من الشظايا الأخرى. والنوع الثالث هو الخندق المحميّ، وهو مشيد من الحديد والزنك، ويُثبَّت جيداً ثم يُغطَّى بجوالات التراب من الأعلى والجوانب، ويُدفَن بالتراب. يقول الفضل إنّ هذا الخندق يحمي من جميع أنواع القذائف حتى الدبابة.
وبعد اشتداد القصف تجاه مراكز الإيواء ومعسكرات النزوح بشمال دارفور وسقوط مئات الضحايا جراء التدوين، ظهرت فكرة المبادرات التطوعية لحفر الخنادق، فتولّت غرفة طوارئ معسكر أبو شوك مبادرة الحفر لعدد من سكان المعسكر.
متحدّثاً لـ «أتَـر»، يقول محمد صالح عضو غرفة طوارئ معسكر أبو شوك، إنّ المبادرة قامت بالمجهود الذاتي وجمع التبرّعات، عبر نشر رقم حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، وأضاف أنهم حفروا نحو 15 خندقاً في البلوكات المختلفة بالمعسكر، وأنّ الواحد منها يتسع لنحو 50 شخصاً، لكنْ توقَّف العمل بسبب ارتفاع أسعار المواد المُستخدَمة، مع انعدام النقد الذي أثّر سلباً على السوق، فأصبح سعر جوال الخيش عبر بنكك أضعاف سعره بالنقد، ورغم ذلك ما زالوا يجمعون التبرّعات، وعندما تُستكمَل تكلفة خندق واحد سيبدأون بحفره.
كذلك حفرت مبادرة ميارم للتغيير 15 خندقاً، وما زالت تجمع التبرّعات لحفر مزيدٍ منها.
إلى ذلك، ظلّ المستشفى التخصّصي لأمراض النساء والتوليد «السعودي» صامداً طوال الفترة الماضية بفضل الملاجئ التي حفرتها لجنة الإسناد بوزارة الصحة، لحماية العاملين والمرضى والمرافقين، وأصبح هو المستشفى الوحيد الذي يقدّم الخدمات العلاجية لمواطني الفاشر، رغم ما يُواجه من هجمات من قِبلِ قوات الدعم السريع عبر التدوين المدفعي والمُسيّرات الانتحارية والاستراتيجية ذات القنابل الموجّهة والتي تنفجر بقدرة أكبر لإسقاط أكبر عدد من الضحايا.
بعد استمرار القصف على الفاشر، أصبح الخندق أو «المطمورة»، هو الحامي والمنقذ للسكّان من حصباء القذائف، ومع ذلك يظلّ الخطر مُحْدقاً بالجميع، والموت في كلّ مكان، ولا يزال المستشفى السعودي مكتظّاً بالمصابين. رغم ذلك يظلّ الصمود هو السِّمة الأساسية لقصة الفاشر وأهلها طوال هذه الفترة، إذ يهرعون إلى الخنادق مع كلّ دويّ انفجار ليمارسوا حياتهم الطبيعية بعد توقّف القصف.