
أدناه موجز تقرير «آثار الحرب على مدخور التنوّع الوراثي للمحاصيل الزراعية في السودان: وَصف لما حدث، ووقفة عند الدروس المستفادة»، الذي كتبه الباحث الزراعي والمدير السابق لمركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية بهيئة البحوث الزراعية، د. الطاهر إبراهيم محمد، وخصَّ به «أتر». للإطلاع على النسخة الكاملة من التقرير، يُرجَى النقر ههنا.
سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، لمدة قاربَت ثلاثة عشر شهراً، حتى استعادَها الجيش الذي انسحب منها سابقاً في 11 يناير 2025. وطوال هذه الفترة توالت موجات نزوح كبيرة لخارج الولاية، وتعرَّضت عدة منشآت لصنوف من النهب والانتهاك، وكان من بينها مركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية «بنك الجينات»، التابع لهيئة البحوث الزراعية، والذي يقع مقرّ رئاسته ومنشآته داخل مجمع الهيئة في أقصى غرب مدينة ود مدني.
ويعدّ مركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية أحد المراكز البرامجية لهيئة البحوث الزراعية في السودان. وتتمحور أهدافه ومهام عمله حول حفظ وتعزيز فرص استخدام التنوع الوراثي المتوارث والمستحدث، والذي يحتوي على منظومة المحاصيل والنباتات الزراعية المتباينة، بما تضمّه من أجناس وأنواع وأصناف وسلالات، منها المزروعة في الحقول، أو التي تنمو برّياً في موائلها الطبيعية، في مختلف البيئات والأنظمة البيئية على امتداد أراضي السودان.
يتجاوز العدد الكلي من عينات البذور المدّخرة العشرين ألفاً من العينات، التي تمثل أكثر من 15000 مدخل من الأصناف التقليدية «أصناف المزارعين»، ومن بذور الأقارب البرية للعديد من المحاصيل، ومن غيرها من الأنواع والسلالات، هي حصاد عمليات جمع وإكثار على مدى أربعين عاماً. وتُركت الصناديق ومظاريف البذور مبعثرةً على أرضيات غرف بنك البذور، وتُرك بعضها في العراء خارج الغرف.
ويعود تاريخ مركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية إلى العام 1982، حين جرى الاتفاق بين هيئة البحوث الزراعية في السودان، ممثلّة في قسم بحوث البساتين آنذاك، والمجلس الدولي للموارد الوراثية النباتية، لتمويل أنشطة يقوم بها قسم بحوث البساتين لجمع وصيانة الموارد الوراثية المحلية من المحاصيل البستانية، عبر تمويل رحلات يقوم بها باحثون من القسم، لجمع عينات من بذور الأصناف المحلية والقديمة المعروفة لمختلف محاصيل الخضر والنباتات الطبية والعطرية ونباتات الفاكهة، والعمل على تخزينها وإكثارها وحفظها للمدى الطويل، عن طريق بنك للموارد الوراثية، يُعرَف اختصاراً باسم «بنك الجينات»، وقد أنشئ تحديداً لهذا الغرض.

مقر بنك الجينات قبل الحرب
مرّت الأيام، واستُبيحت المدينة كلّها، ولاحظ البعض أنه قد جرى الاعتداء على منشآت المركز من معامل ومكاتب، وعلى بنك الجينات نفسه: نُهبت جميع الثلاجات، التي يربو عددها على الثلاثين وحدة، وفُرّغت من محتوياتها التي كانت تضمّ عينات بذور المحاصيل والأنواع النباتية المتباينة، معبأة في مظاريف محكمة الإغلاق. ويتجاوز العدد الكلي من عينات البذور المدّخرة 20 ألفاً من العينات، التي تمثل أكثر من 15 ألف مدخل من الأصناف التقليدية «أصناف المزارعين»، ومن بذور الأقارب البرية للعديد من المحاصيل، ومن غيرها من الأنواع والسلالات، هي حصاد عمليات جمع وإكثار على مدى أربعين عاماً. وتُركت الصناديق ومظاريف البذور مبعثرةً على أرضيات غرف بنك البذور، وتُرك بعضها في العراء خارج الغرف. كذلك نَهَب المعتدون جميع أجهزة الحاسوب وملحقاتها من طابعات وماسحات ضوئية، وماكينات تصوير من غرفة إدارة المعلومات بالمركز، ومن المكاتب والمعامل المختلفة. كما نُهبت جميع المخدّمات التي كان يُدار عبرها نظام توثيق الموارد الوراثية بالمركز، إضافة إلى أثاثات المكاتب والغرف المختلفة، ومحتويات المكتبات الداخلية للمركز التي تضمّ كثيراً من الإصدارات والمراجع المهمة في مجالات إدارة الموارد الوراثية النباتية وبحوثها، بما في ذلك بعض إصدارات المركز من كتالوجات للموارد الوراثية لبعض المحاصيل، ومن ملفّات تحتوي على المداولات والمحاضرات، التي ألقيت في العديد من المنتديات وورش العمل والدورات التدريبية التي كان ينظّمها المركز، كما شملت عمليات النهب كذلك السيارتين الوحيدتين بالمركز.
ترتّب على نهب ثلاجات بنك الجينات أن بقيت عينات البذور في ظروف سيئة، خاصة من حيث درجات الحرارة المرتفعة، ما أنذر بتسارع تدهور حيويتها وموتها، حتى جرى التواصل مع البعض ممن كان لا يزال موجوداً في ود مدني لأجل العمل على لَمِّ شتات عينات البذور هذه، وضمّها ووضعها جميعاً داخل غرف بنك الجينات، والعمل على تشغيل أجهزة تكييف الهواء التي كانت مركّبة في تلك الغرف، لتبريد الجو، وإغلاق الغرف عليها، وطُلِبَ من الموجودين هناك حراستها. وقد تناهت الأنباء وقتها، أنّ ذلك قد جرى حينها.
وترتّب على نهب وفقدان أجهزة الحاسوب والمخدمات فقدان الوصول من خلال نظام المعلومات بالمركز إلى جميع البيانات المُتعلِّقة بمداخيل الموارد الوراثية المختلفة، وتشمل ما يُعرف بالبيانات الأساسية، والتي كانت تُسجّل أثناء عمليات الجمع حول كلّ عينة مدخل يجري جمعها، مثل البيانات المتعلّقة بالأسماء وبمواقع الجمع الجغرافية وتواريخها؛ وكذلك بيانات التوصيف والتقييم، التي كانت بمثابة نتائج للأنشطة البحثية لدراسات حجم التنوع الظاهري والوراثي وطبيعته ما بين المداخيل المختلفة، وما تتضمّنه من صفات مرغوبة؛ إضافة للبيانات الإدارية مما سُجّل أثناء عمليات إعداد البذور في بنك الجينات للحفظ.


مظاريف البذور قبل وبعد الحرب
إنّ استمرار فقدان الوصول لهذا الكمّ المتنوّع من المعلومات، بسبب ما حدث من نهبٍ للحواسيب والمخدّمات، سيمثّل ضرراً فادحاً، إذا لم يُتدارَك؛ إذ إنّ القيمة الحقيقية لكلٍّ من هذه الموارد الوراثية المدّخرة للأجيال الحاضرة والمستقبلية، لا تتكشَّف إلا عبر هذا الكمّ من المعلومات والبيانات المُتصلة بها، كما أنّ عمليات إدارتها على نحو عام أو تفصيلي، وبكفاءة عالية، لا تتأتى إلا عبر توفر البيانات والمعلومات ذات الصلة بكلّ منها.
مع العجز التامّ عن الوصول إلى مقرّ المركز من قِبل إدارته أو أيٍّ من العاملين الرسميِّين فيه، بدأ المهتمون بالأمر يدقّون ناقوس الخطر، فتوالت المنشورات عبر بعض منصّات التواصل الاجتماعي، مُنذرة بالخطر الذي يُواجهه مدخور التنوع الوراثي النباتي الزراعي في السودان بسبب ما يحدث في ود مدني، وخاصة في مركز الموارد الوراثية تحديداً، مُنادية بضرورة التدخل السريع والعاجل لحماية وإنقاذ هذا الموروث القومي ذي الأهمية الخاصة لشعب السودان وللبشرية أجمع، لما يُمكن أن يحتوي عليه من أنماط وراثية متنوعة ومهمة لتحقيق الأمن الغذائي والبيئي وغير ذلك من منافع، في الوطن والإقليم والعالم.

بعض مظاهر تنوع محصور الذرة في السودان
وُجّهت النداءات إلى أطراف الحرب وإلى السُّلطات المسؤولة، والمنظمات والجهات ذات الصلة في العالم والإقليم. تجاوبت العديد من أجهزة النشر والإعلام داخلياً وخارجياً، ونشرت في الشهور الأولى أخباراً عن ذلك. وأبدى كثير من الأفراد اهتماماً بالأمر وشاركوا في نشره عبر حساباتهم الخاصة في المواقع الإسفيرية المختلفة، أو عبر التواصل والحديث المباشر مع عدد من المتصلين بالعمل في بنك الجينات. كما أطلَقت مبادرة صون التراث السوداني في 23 يناير 2024 نداءً بهدف تأكيد المحافظة وحماية مركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية. كذلك تواصلت إدارة المركز حالياً وسابقاً مع بعض الجهات ذات الصلة عالمياً، بغرض إخطارها بهذا الخطر الداهم، ولحثّها على التحرّك خاصة مع الأطراف المتقاتلة لأجل حماية هذا الموروث، مع العمل على نقله مؤقتاً إلى مكان أكثر أمناً داخل البلاد. ومن تلك الجهات الصندوق الاستئماني العالمي للتنوّع المحصولي، وسكرتارية المعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعية، وأبدَيَا اهتماماً خاصاً بالأمر، وساهما لاحقاً في معالجة بعض آثاره. كما تواصلت إدارة هيئة البحوث الزراعية مع ممثلية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في السودان. وأبدت المنظمة بناءً على ذلك استعداداً للتدخل المباشر لأجل نقل جميع محتويات بنك الجينات، بما في ذلك من عينات بذور ومعدات متبقية، إلى خارج ود مدني، وتجهيز مقر مناسب لوضعها فيه، وتوفير الحدّ المناسب من المعدات اللازمة للحفاظ على عينات البذور في المكان المؤقت الجديد. وبدأت ممثلية المنظمة في السودان إجراءاتها في التواصل مع طرفَي الحرب للحصول على الموافقة اللازمة، ولتأمين هذه العملية وتيسيرها، كما استَأجرت عدداً من الناقلات المُناسِبة لشحن هذه المواد وترحيلها، وبدأت في تحريكها. وتلقّت المنظمة الموافقة المطلوبة من قبل القوات المسلحة، إلا أنها لم تتلقَّ مثلها من قبل قوات الدعم السريع التي كانت مسيطرة على ود مدني، ما أحبط هذا المسعى، الذي عُوِّلَ عليه كثيراً لإنقاذ هذا المدخور الوراثي المهم وحمايته.
أثبتت تجربة الوحدة الفرعية بالأبيض جدواها بوضوح شديد بعد اندلاع الحرب وما حدث لبنك الجينات المركزي في ود مدني، إذ مثّلت خط دفاع آخر، عن جزء معتبر من الموارد الوراثية التي بحوزة المركز، ما استرعى الانتباه إليها من بعض الجهات العالمية، وهي تحاول تقديم يد العون لإنقاذ الموارد الوراثية النباتية المحفوظة في السودان، والمُهدَّدة بسبب الحرب
أخذت الأوضاع منحىً جديداً في السوء بعد انقطاع شبكة الاتصالات في ود مدني بدءاً من شهر مارس 2024 وما تلاه، فتعذّر التواصل مع المدينة لمعرفة ما يجري هناك، من خلال الأشخاص الذين ظلوا مقيمين فيها بعد وقوعها في قبضة قوات الدعم السريع. وازدادت الأوضاع سوءاً بعد الانقطاع الكامل للكهرباء من أنحاء المدينة في حوالي شهر يونيو 2024، ولاح في الأفق أن مصير عينات البذور، التي ربما لا تزال موجودة داخل غرف بنك الجينات، يزداد قتامة بالتوقف الحتمي لأجهزة التكييف وتبريد الهواء، التي كان العشم أنها لا تزال تعمل داخل تلك الغرف. انقطعت الكهرباء في فترة فصل الصيف، الذي شهد ارتفاعاً كبيراً واستثنائياً في درجات حرارة الطقس، ما أنذر بتدهور مُتسارع يمكن أن يحدث في حيوية بذور بعض الأنواع من المحاصيل والنباتات على الأقل؛ إذ إن درجات الحرارة المناسبة التي تضمن استمرار مستوى عال من حيوية البذور في المدى القصير الذي لا يتجاوز الثمانية عشر شهراً (عاماً ونصف العام) هي في حدود 250، بعدها يمكن أن يتسارع تدهور الحيوية وموت البذور بمعدلات أكبر، الأمر الذي تنذر بحدوثه الظروف التي يمكن أن تتعرض لها عينات البذور داخل غرف بنك الجينات خلال الفترة التي تلت انقطاع الكهرباء، واستمرت حتى بعد استعادة الجيش للمدينة، قبل أن تبدأ عودة الكهرباء تدريجياً.
زار المجمع فريق بقيادة مدير عام الهيئة وعضوية عدد من مديري المراكز البحثية فيها، ومن ضمنهم مدير مركز الموارد الوراثية، للاطّلاع على الأوضاع داخل المجمع، وتكشّف لهم ما جرى من عمليات نهب وتخريب طالت العديد من منشآت الهيئة من مكاتب ومعامل، وتجهيزات أخرى، ومساكن العاملين، وغيرها.
أهم الدروس في ما حدث للمركز، ما هو متعلق بضعف حجم التأمين والاستنساخ الآمن لمجموعة الموارد الوراثية التي بحوزته، وهو ما كان يمكن تفاديه لو أُودعت نسخ منها في بنوك أخرى، خاصة خارج السودان، وهو أمر متاح حالياً عبر ما يُعرف بقبو سفالبارد العالمي للبذور بالنرويج «القطب الشمالي». وسعى المركز لعمل ذلك عبر نهج تدريجي امتد لأعوام، لكن بأعداد محدودة من المداخيل لم يتجاوز مجموعها حتى نهاية 2023 الثلاثة آلاف. على الرغم من ذلك، فإنّ المركز لم يكن غافلاً تماماً عن ضرورة إيداع نُسخ مما يحتويه بنك الجينات في مواقع أخرى، بما في ذلك داخل السودان؛ وأصاب فيه النجاح من خلال إنشاء وحدة فرعية للموارد الوراثية بمحطة الأبيض للبحوث الزراعية منذ 2005، بهدف إيداع نسخ مما يُجمع من إقليم غرب السودان لأغراض الاستخدام والتأمين. وفاق ما أودِع هناك حتى 2023 الخمسة آلاف مدخل. كما استُفيد من مواعين التخزين الموجودة هناك في إيداع نسخ صغيرة من مداخيل أخرى جُمِعت من أقاليم عدا غرب السودان، وبلغ في مجموعها أكثر من ألفي مدخل. وقد كان من قصص النجاح في ظلّ الحرب الحالية ما قامت به إدارة مركز الموارد الوراثية بإرسال جزء كبير من هذه المجموعة الأخيرة، بلغ أكثر من 1800 مدخل إلى القبو العالمي للبذور، حيث أودعت بالفعل هنالك في فبراير الماضي.
أثبتت تجربة الوحدة الفرعية بالأبيض جدواها بوضوح شديد بعد اندلاع الحرب وما حدث لبنك الجينات المركزي في ود مدني، إذ مثّلت خط دفاع آخر، عن جزء معتبر من الموارد الوراثية التي بحوزة المركز، ما استرعى الانتباه إليها من بعض الجهات العالمية، وهي تحاول تقديم يد العون لإنقاذ الموارد الوراثية النباتية المحفوظة في السودان، والمُهدَّدة بسبب الحرب. وأبرز مثال على ذلك ما حدث في الشهور الأخيرة من تركيب نظام للطاقة الشمسية لمدّ بنك البذور داخل هذه الوحدة الفرعية بالكهرباء، وذلك للمساهمة في علاج مشكلة الانقطاع شبه الدائم للكهرباء عن مدينة الأبيض في الشهور التي تلت الحرب، وقد مُوّلت من احتياطي التمويل الإسعافي لبنوك الجينات. وعليه فإن المستفاد من التجربة يُحتّم العمل على تكرارها في أقاليم السودان الأخرى، وفقاً لما هو مخطّط له سلفاً ضمن رؤية المركز المستقبلية، بإنشاء وحدات فرعية في الشمال والشرق والأواسط، لتمثل احتياطياً يمكن اللجوء إليه، إضافة إلى ما يمكن أن تقوم به هذه الوحدات الفرعية من أدوار في إكثار وتجديد وإجراء البحوث على مختلف الموارد بحوزتها، وإتاحتها للاستخدام هناك.
إنّ فقدان الوصول إلى نظام معلومات الموارد الوراثية بالمركز، من أبرز الأضرار التي ترتّبت على دخول الحرب لمدينة ود مدني. ومما يُخفّف من هذه الأضرار هو ما أُنجز منذ بضع سنوات بربط نظام المعلومات داخل المركز بالمنصة العالمية لمعلومات الموارد الوراثية النباتية «Genesys»، ما مكّن من رفع كثيرٍ من البيانات الأساسية لما يفوق الـ 15 ألف مدخل، وبالتالي أمكن تأمين هذا النوع من البيانات. وهذا يحتّم حالياً ومستقبلاً إيلاء عمليات التوثيق وإدارة معلومات الموارد الوراثية اهتماماً أزيد، بما يضمن توثيق جميع أنواع البيانات، وكذا استنساخها عبر أي نظام أو وسائل مناسبة.