
«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
فرَز المرحومان ماركس وإنجلز، في لهيب الثورة والثورة المضادّة في فرنسا، خلال أعوام 1848-1849، صفَّ البروليتاريا من البروليتاريا الرثَّة، فقَرَّظا الأولى وقالا إنها «ثوريّة» وإنْ أخطأَت التصويبَ وانحبَسَت ببطش الثّورة المضادَّة في كواليس التاريخ تتحيَّن فرصةً أخرى للنهوض. وسَفَّهَا الأخيرةَ وقالا إنها كتلة ملتبسة الهويّة، متفسِّخة، من كَرُور الطبقات الأخرى، صارت بالرّشوة وحصائل «الشَّفشَفة» حزباً مقاتلاً لبونابارت في هيئة «الحرس المتنقّل» فضرَبَ بها خصومَه وأوَّلهم قرينتَها البروليتاريا صاحبة الراية الثوريّة. بل رفعت في وجهها البروليتاريا الباريسيةُ شعار «الموت للشَّفشافة» ليَصحَّ بدنُها من هذا الأذى.
لكن، لم يَطرح المرحوم ماركس مسألةَ «البروليتاريا الرثّة» السياسيّة بقوّة، لكنْ كان تشخيصُه أنّ اتجاهَها الرئيسَ أْن تكون «الأداةَ المُرتشية للتآمر الرّجعي»، وأمَلُه أنّ الثورة متى نضجت قد تكتسح البروليتاريا الرثّة هنا وهناك إلى داخل صفوفها. فالبروليتاريا الرثّة عند الشيخ الإزيرق لا تقود الثورةَ، ولا تبادر بها، وإنما تركبها «بوكسي» من مواقع رجعيّة، رشوة و«شَفشَفة». لكن لم ينكفئ المرحوم ماركس يتأمّل كفقيهٍ هندوسيّ في «الرَّحِم» الخاصّة التي خرج منها «الحرس المتنقّل»؛ الخصم العسكري المباشر للبروليتاريا الباريسية، والقوّة ملتبسة الهويّة التي جنّدها ضبّاط الحرس الوطني النظاميّون من حلفاء لويس بونابارت من الحثالة الرثّة التي أثارت غثيانه. استغنى المرحوم ماركس عن هذا التفسير «التناسلي» للتاريخ، ردّة ورشوة وخيانة، وهو تفسيرٌ في متناول اليد، حاشاه الشيخ الإزيرق.
ماذا اكتشف إذَن؟ دشَّن المرحوم ماركس تحليله العتيد للثورة والثورة المضادّة في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر، وهي المثال المدرسيّ لشغل الديالكتيك في التاريخ، «الماديّة التاريخية» البِضَوِّي رِشِيمها، بتشريحِ القوى الدافعة لموتورات التاريخ؛ الأزيز الخلفيّ الذي يحجبه ربما صياح الأبطال وصراخ الضحايا. فعَرَض ضمن ما عرَض في «صراع الطبقات في فرنسا 1848-1850» («أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلد 7، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1960، ص 12-107)، إحداثيّات الأزمة الاقتصاديّة التي بلغت ذروتها في أوروبا عام 1847 ومَسَكَت نارْ في فرنسا فسَعَّرت الصّراع بين فئات البرجوازية، الحاكمة منها والخاضعة، بالدرجة الأولى، وبين البرجوازية والبروليتاريا بالدرجة الثانية.
ميَّز المرحوم ماركس واقعتين اقتصاديّتين، قال كان لهما الأثر الأعظم في حشد عناصر الأزمة ثم تفجيرها: الواقعة الأولى الوباء الذي أصاب محصول البطاطس في العاملين 1845 و1846، وكان سبباً مباشراً لتصاعد الأسعار وتدهور غذاء عامّة الناس، والجوع الذي دفع بهم إلى الشوارع يسعون السياسة عام 1847 في فرنسا وفي كلّ القارّة. والواقعة الثانية: الأزمة التجاريّة والصناعيّة العامةّ التي ضربت إنجلترا في تلك الأعوام، وكانت إشارتها الأولى كسادُ أسهم السكك الحديديّة في خريف العام 1845، ثمّ إفلاس تجّار المستعمرات الكبار في خريف العام 1847، وتبعتهم البنوك الصغرى التي أفلست بتعاظم الخسارة، ثمّ الصناعات التي أغلقت أبوابها بانعدام التمويل وكساد التجارة. وقال ماركس كان لهذه الأزمة ظلٌّ طويلٌ في فرنسا، فأخرجَت جمهوراً كبيراً من الصناعيّين وتجّار الإجمالي من سوق التجارة الخارجيّة خاسرين، وأجبرتهم على العودة بأموالهم ومصالحهم إلى الداخل الفرنسي يبحثون عن موطئ قدم ومصدر ربحيّة، فكانوا من أشدّ العناصر ثوريةً في صراعهم ضدّ مُلك لويس فيليب، وأشدّهم حماسةً للجمهورية الثانية في فبراير 1848.
وتقدير المرحوم ماركس أنّ ملكيّة لويس فيليب التي أزاحتها الجمهورية الثانية في فبراير 1848 كانت دولةً لرجال البنوك وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. وجاء بنادرةٍ تقول إنّ المسيو جاك لافيت؛ المصرفيّ العَلَم، طَنْطَن وهو يصعد عتبات بلديّة باريس يومَ قامت ملكيّة لويس فيليب بالمؤامرة والانقلاب على شارلس العاشر في يوليو 1830: «الحكومة حكومتنا»، وكشف بذلك سرّ الثورة! ووضّح المرحوم ماركس أنّ البرجوازية الفرنسية لم تَطْغَ كطبقة تحت سلطان لويس فيليب، وإنما كان الأمرُ لفئةٍ منها، «شِقّ من المصرفيّين ومكوك البورصة ومكوك السكك الحديديّة ومُلّاك مناجم الفحم والحديد ومُلّاك الغابات، إلى جانب قسط من كبار مُلاّك الأراضي – ما تُسمَّى الارستقراطية المالية. تمكَّنَت هذه من العرش، وأمْلَت القوانين في حجرات البرلمان، ومَنَحت وظائف الدولة، من الوزارات حتى مسؤولية التبغ».
أمّا البرجوازية الصناعية التي قالت بالجمهورية، في العاقبة عام 1847، فقد شكّلَت طرفاً من المعارضة الرسمية في واقع الأمر، وكانت أقليّة برلمانية. وبرزت معارضة البرجوازية الصناعية للملكيّة بقوّة كلما صَفَت السُّلطة للأرستقراطية المالية واشتَدّ بأس البرجوازية الصناعية في وجه البروليتاريا التي أضعفها الوأد المتكرّر لهَبَّاتها في 1832 و1834 و1839. أما طبقة البرجوازية الصغيرة، بجميع درجاتها المتعدّدة وطبقة الفلاحين، فكانتا كطبقتين خارج مدار السُّلطة، إمّا رَكَنَتا إلى المعارضة الرسميّة أو وَلَجَ أعلامٌ منهما السياسةَ بصفتهم «كفاءات» موكولين بتسطير أيديولوجيا الفئات الطبقية المتصارعة على الحُكم وترويجها؛ شُغل المتعلّمين، دكاترة ومحامين.
شرَح المرحوم ماركس باستفاضةٍ أنّ شِقّ البرجوازية المالية، ملوك المال، أحكَمَ قبضتَه على الدولة بإغراقها في الدّيون، فكان الدَّين المتعاظم هو الرّسَن الذي قاد به الدولةَ إذا صَحّ التعبير. وفوق ذلك، كان هذا الدَّين المتعاظم موضوعاً للمضاربة ولجَنْي أرباح هائلة، في استقلالٍ ظاهر الأمر عن الإنتاج، كأنما اختُلِق من عدم. يزداد العجز الماليّ للدولة عاماً بعد عام، وفي كلّ موسم للميزانية يُمْلِي ملوكُ المال من حجرات البرلمان قرضاً جديداً للدولة، يحصدون أرباحَه مضاعفةً، وترتدّ التكلفة على الجمهور، بالدرجة الأولى البرجوازية الصناعية والتجارية التي استثمرت بعض رؤوس أموالها في السّنَدات الحكومية، فتستشيط هذه غضباً من «الشّفشَفة» المواربة في هيئة ألاعيب البورصة، وتركل من جهتها العبءَ إلى أسفل. تحاول جهدَها زيادة أرباحها في مضمارَي الإنتاج والتوزيع، بتقليص أجور العمّال وتزوير السلع، من مثل الدقيق المخلوط بنشارة الخشب واللبن المطَمْبَج موية وجير، وزيادة الأسعار. وبالنتيجة، يتقلّص الاستهلاك من الجهة الأخرى، وينقلب ما كان ربحاً خسارةً مجدّدةً، وهكذا دواليك، حتى انحَلَجَت.
مثّلت المضاربات التي يتحكّم فيها ملوك المال، بمعرفتهم أسرار البورصة، وسيطرتهم على قلم البرلمان، شَركاً لصغار الرأسماليين وناشئة البرجوازية الصناعية، وخربت بيوتهم. وكان هذا الضّررُ البليغ علةَ تحوُّلهم الراديكالي نحو الجمهورية في عاقبة الأمر، جذريّةْ وْجَمَالها فريد، فشحذوا القوى للإجهاز على نظام لويس فيليب؛ النظام الذي صار لهم عدوّاً ياكُلْ عَشَاهُم، فتمكّنوا منه آخر الأمر بضُرَاع بروليتاري في فبراير 1848. ضرَب المرحوم ماركس لهذه المأكلة مثلاً؛ زيادة الصّرف الحكومي في أواخر عهد لويس فيليب إلى حوالي 400 مليون فرنك في العام، بالمقارنة مع 750 مليون فرنك هي جملة صادرات فرنسا. وقال كانت هذه المبالغ التي تمرّ بجهاز الدولة موضوعاً للعقود الهوبلي والرّشوة والاختلاس وجميع صور الاستهبال والفهلوة المالية.
كذلك سادت هذه «الشّفشَفة» في أعلى هيئات جهاز الدولة، وانبثّت حتى أدناها بين كلّ موظف إدارة وعميل صاحب مصلحة في شبّاك. لذلك كان تشخيص المرحوم ماركس أنّ ملكيّة لويس فيليب كانت في واقع الأمر شركةَ مساهمةٍ لنهب الدخل القومي الفرنسي، تتوزّع أسهُمها بين الوزراء والبرلمانيّين وحوالي 240 ألف من الناخبين وأتباعهم، يقوم عليها مديراً لويس فيليب، وتخضع لها مصالحُ قوى الصناعة والزراعة والنقل. وجميع صور الإنتاج مهدّدة محاصرة. حكومة للسماسرة، كما قالت عن نفسها، يومَ وضع مسيو جاك لافيت وزمرتُه لويس فيليب على العرش في يوليو 1830. لكنْ، هذه ربما تضاريس «كُونِكا» باريس في منتصف القرن التاسع عشر؛ «ألم يروا كم أهلكنا قبلَهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون».
يُتبع