أتر

وداعاً مسيو موديمْبي (1941-2025)

عرض كتاب:

Africa Beyond Inventions: Essays in Honour of V.Y. Mudimbe. Zubairu Wai (Ed.). (2024). Palgrave Macmillan, Cham. 365 pages

إلى عمّار جمال

رحل الفيلسوف الكونغولي ڤالنتين موديمبي، في الثاني والعشرين من أبريل الماضي، بعد أن وَضَع بين أيدينا أسئلة عديدة مفتوحة، إلى أنْ تحين لحظة «رسم خرائط معرفيّة من أجل خلق ذات أفريقية» مُتحرِّرة من باثولوجيا الاستعمار، ومن الخطاب الإثنو-فلسفي، ومن الأصداء السامّة لدعوة عرّاب الفلسفة الأوروبية الحديثة «هيغل»؛ إلى ضرورة إخراج السود والعبيد من التاريخ، وذلك حتى يَتجنّب العالم «البداية غير التاريخية لحركة الروح»!

وُلد السيد ڤالنتين موديمبي عام 1941، في لوكاس في الكنغو البلجيكية، ودرَس حيناً في معاهد وكليات اللاهوت، إلى أن تمرَّد عليها، وتحوَّل لدراسة الأدب والتاريخ والفلسفة، ونال درجة الدكتوراة من جامعة لوفين البلجيكية 1970. عاد إلى بلده لمدة قصيرة، ليبدأ بعدها أزمنةَ منفىً استمرَت لأكثر من ستة عقود، عمل خلالها أستاذاً للأدب والأدب المقارن والعلوم الاجتماعية في باريس، مع المفكّر بولين هونتونجي (1942-2024)، من جمهورية بنين.

طالت تأثيرات موديمبي عدداً من الحقول المعرفية، وذلك بحكم إسهاماته المحورية فيها: الدراسات الأفريقية والفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات والأدب، إضافة إلى مُنجزه الإبداعي من شعر وروايات. وكان يُردِّد طوال حياته أنه رجل تربية وتعليم؛ مُدرِّس أقصى طموح له «ربط إنتاج المعرفة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية»، لأنّ «استقلال الدولة في أفريقيا لم يكن سوى أكذوبة سياسية».

يَستعيد هذا الكتاب، الذي نحن بصدد عرضه، حياة موديمبي وطرائق تفكيره الفلسفي المتميّزة والتي تجاوز بها، حسب أحد المشاركين في هذا المجلّد «مزالق كونه مُختلفاً». وفي ما نزعم هنا، تأتي أهمية هذا الكتاب في كونه غطّى جوانب عدَّة من فلسفة موديمبي وكتاباته.

مُستلهماً عنوان كتاب موديمبي المحوريّ الموسوم «اختراع أفريقيا» (1988)، جاء هذا الكتاب بعنوان «ما وراء اختراع أفريقيا»، من تحرير أحد تلاميذه، زبيرو واي، ويضمّ اثنَي عشر فصلاً، قوامها اثنتا عشرة ورقة بحثية، قدّمها أكاديميون مُتخصّصون في مختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية، في ندوةٍ عُقدت افتراضياً يوم 21 أبريل 2022، وفاءً واحتفاءً بإسهاماته وما جاد به على القارة الأفريقية من معرفة وجمال.

في الفصل الأوّل من الكتاب، رصَد محرّرُه زبيرو واي تاريخ الفلسفة الأفريقية وتطوّرها باتجاهاتها المختلفة، وموديمبي في قلبها بإسهاماته في تفكيك ما سَمّاه «المكتبة الكولونيالية»، ونقده للرقوق والصحائف الكولونيالية، وكيف أنّ المدينة الأفريقية ظلّت كما كانت عليه منذ أيام الاستعمار، وحتى هذه اللحظة: قصة وسيناريو وحوار كولونيالي بامتياز. كذلك أفاض المُحرِّر في سيرة موديمبي الفكرية، بحسبانه مفكّراً متعدد الأصوات وعابراً لحقول معرفية متنوّعة، بتركيز خاصّ حول ما حاق به في عالم الأكاديميا، في مركز العالم ومحيطه، من تهميش مُتعمَّد في سياق المُمارسة، تحديداً في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي أسهم فيها بقدر كبير.

كتب بيير فيليب، في الفصل الثاني: موديمبي الخفيّ وإعادة التفكير في خطاب العلوم الإنسانية، عن كيفية استعادة مشروع موديمبي الفلسفي. والأهم في حسباننا هو عرضُه الرصين لذلك المشروع بدرجات متفاوتة من الاشتباك، بتركيز خاص على إسهامات موديمبي في مجال الأدب المقارن واستراتيجياته في نقد العلوم الإنسانية في سياق أفريقي، مُلتفتاً إلى إحالات موديمبي إلى فوكو وتبنّيه الإطار النظري في كتاب فوكو «هرمنيوطيقا الذات» في تحليل التطوّر المعرفي للذات الأفريقية.

في الفصل الثالث: «اللاهوت الجمالي للتماثل وإنتاج المعرفة والاختلاف الكولونيالي والوعي الممكن بالترجمة الأخلاقية» – يا له من عنوان! -؛ نرى كيف تمحورت فلسفة موديمبي حول سعيه إلى كشف خبايا المكتبة الكولونيالية؛ أرشيف صنعه الآخر المستعمِر للذات المُحيطية. ويمضي كاتبه زاهر كوليا مُوضّحاً كيف أنتج المستعمِر معرفةً حول أفريقيا، تنطوي على أكواد ناشطة وذات صلة بعلاقة السُّلطة والمعرفة، وكيف كانت تلك الأكواد بمثابة آليات لاختزال الجغرافيا السياسية وأهلها إلى محض حالات للدراسة. ولتفكيك هذا الخطاب الكولونيالي نذَر موديمبي نفسه، بكشف البنيات المعرفية والأيديولوجية لإنتاج المعرفة في أفريقيا.

في الفصل الرابع «أفكار حول الأفريقانيّة»، تناولت الباحثة سانيا أوشا كتاب موديمبي المهمّ «فكرة أفريقيا»، والذي تناول فيه الفيلسوف عدداً من النظريات حول الفكرة، مُنقّباً في الأرشيف. وألمحَت الباحثة إلى أنّ موديمبي يَستدعي في عمله عدداً من الأطر المفاهيمية والنظرية من حقول معرفية مختلفة ومُتنوّعة، مبتكراً بذلك منهجَه البينيّ. ومرة أخرى، كما هو شأن العديد من الكُتّاب والباحثين في هذا الكتاب، تَستدعي أوشا فكرة موديمبي المحورية: «نقد المكتبة الكولونيالية» بغرض تأسيس «فكرة أفريقيا»، لتختم بالملامح العامة لمشروع موديمبي الفكري.

أما الناشطة النسوية أليريو كارينا، فقد شُغلت في الفصل الخامس بأمر الخطاب السياسي والأيديولوجي ونقده في كتابَي موديمبي «اختراع أفريقيا» و «فكرة أفريقيا». تبدأ الكاتبة هنا حديثها من أنّ ثمة حالة حزنٍ وتساؤلٍ تخترق الكتابين، أحزان معرفية، وأسئلة وجودية: هل من الممكن إنتاج معرفة أفريقية أصيلة؟ صنع حياة؟ خطاب؟ وبعيداً عن المكتبة الكولونيالية؟ وحاصل جمع وطرح كل ذلك، وفقاً للكاتبة وعلى لسان موديمبي، أننا لا نستطيع تجاوز تلك الأحزان الاستوائية، إلا بنقد الذات وتفكيك الإرث الكولونيالي، خاصة الأنثروبولوجي الذي شوّه الهوية الأفريقية. أما الأحزان الأخرى، فقد كانت سياسية وأيديولوجية، إذ إنّ موديمبي كان من أشرس نقّاد الدولة ما بعد الكولونيالية والدّين والأنثروبولوجيا. ومن أحزانه المقيمة، كما زعمت الكاتبة هنا، أنه كان على الدوام غير مُتفائل البتّة بمسار السياسة والممارسة السياسية في أفريقيا.

جاء الفصل السادس لكاتبه غيرڤايز يامب، بعنوان «تحرير المعرفة الأفريقية من الاستعمار: مشروع موديمبي حول تفكيك الخطاب الكولونيالي». بدأ الكاتب بالإشارة إلى تعقيد مشروع موديمبي الفلسفي وعزاه إلى انشغالاته المعرفية المُتنوّعة من الفلسفة والنقد الأدبي وكتابة الشعر والرواية، وحالة كونه كاتباً ناشطاً في جميع المجالات تلك. وشدّد على ضرورة النظر إلى مشروعه من مواقفه مفكّراً سياسياً واجتماعياً، إذ إنه اشتبك مع المفاهيم الكلاسيكية لطرائق التفكير ما بعد الكولونيالي، وقارَبَها بوصفها حالة وجودية، وكانت لحظة التقاطع مع الغرب المسيحي، مُتجذّرةً في ما هو كولونيالي محض، ومُتجذّرة في الوقت ذاته في قعر الخطاب «ضد الكولونيالي» والصراع ضد الإمبريالية العالمية.

ويأتي الفصل السابع امتداداً للسادس، فقد تناولَتْ سالي ماثيوس هنا بدَورها إعادة التفكير في المعرفة المُنجزة حول أفريقيا من واقع ما سَمّاه موديمبي «المكتبة الكولونيالية».

أما في الفصل الثامن، فقد أوغل دوناتين سيكورا، في مقارنات بين نظرية المعرفة عند أفلاطون وفينومينولوجيا موديمبي، ليَخلص إلى أنّ الفلسفة، من واقع تاريخها وتطوّرها، تظلّ ابنة اللحظة، ابنة زمان ومكان محدَّدين؛ سياق إنتاج المعرفة ولحظته التاريخية.  

من أمتع فصول هذا الكتاب، في حسباننا، هو الفصل التاسع الذي كتبته الناقدة الأدبية والناشطة النسوية غيرترود مياندا، التي قدَّمَتْ دراسة رصينة حول منجز موديمبي الروائي، وأوضحت أنها سعت إلى كشف تعقيدات صورة المرأة أو تمثيلاتها في متون سردياته، وكيف أنّها تحتلُّ مساحة واسعة في هذه الجغرافيا المُنهكة وفي ذاكرة أفريقيا، وقد نضّدها موديمبي سردياً في رواياته. ومن ثمّ وصلت الباحثة بسجالها إلى ما سَمّته «حساسية موديمبي بالغة العمق» في كون مواقفه الفكرية / السردية هي مواقف نسوية بامتياز، إذ استعادت رواياته في متونها مملكة المجاز الشهرزادية كما يقول النقاد، بخاصة أنه كان ينظر بعين النقد إلى جميع الظواهر، سواءٌ أكان ذلك من منظور فلسفي أم أدبي أم حتى من وجهة نظر المعرفة الاجتماعية. إنه بحثٌ في «نسوية» الأدب عند موديمبي.

نعود إلى الفلسفة واللاهوت مرة أخرى في الفصل العاشر، حيث رَصَد الكاتب كاسيريكا كاڤواهيريكي ظاهرتَي الدِّين واللاهوت، بحسبانهما ظاهرتين سياسيتين وثقافيتين، في أصلهما، وذلك وفقاً لطرائق التفكير الفلسفي النقدي عند موديمبي، وجزءاً من «تأويل الذات» ومحاولة فهم الصيرورة الثقافية والسياسية والاجتماعية في أفريقيا منذ لحظة تقاطعها مع الغرب المسيحي وأجندته الإمبريالية. كذلك أوضح الكاتب اختلاف موديمبي عن معاصره الفيلسوف البنينيّ بولين هونتونجي، في سياق السّجال عن أصل الفلسفة الأفريقية وفصلها، بعد صدور كتاب القس تيمبل «فلسفة البانتو» (1940)؛ السّجال الذي آلَ لاحقاً إلى ما عُرف بالإثنو-فلسفة، وكان الاثنان من أشرس النقّاد في مناهضة ذلك الاتجاه الفلسفي الذي اعتبراه من أعراض «باثولوجيا الاستعمار».

أما في الفصل الحادي عشر، فقد التقط كاتبه، تيناشي جاكوا، ملامح الفلسفة السياسية في فكر موديمبي بتناوله لمفهوم الدولة والمجتمع في أفريقيا، وإثارة أسئلة وجودية حول «ضعفها أم هشاشتها؟»، في السياقين الاستعماري وما بعد الاستعماري، إذ يتردد صدى صوت سيزار وفانون حينما يأتي الحديث عن الاستعمار وخطاب الاستعمار. وفي سياق مناقشة فلسفة موديمبي السياسية، أحال الكاتب هشاشة الدولة في محيط العالم وفي أفريقيا على وجه الخصوص، إلى كونها نتاجاً لسياسات الإمبريالية وأذرُعها في أنحاء العالم، وإلى أفعال فاشية تخترع دولاً وتُطيح بأخرى وتُعيد إنتاج أخرى، وكيف أن كل تلك القضايا تمثّل جزءاً أصيلاً من الفلسفة السياسية عند موديمبي.

عودة مرة أخرى إلى محرّر الكتاب زبيرو واي، وخاتمة توجّه رسالة مفتوحة ودعوة إلى نقد فلسفي أصيل ومتجذّر في هذه الجغرافيا، أفريقيا، ومتحرّر من الذهنية المركزية التي سيطرت على مشهد الفكر والفلسفة وإنتاج المعرفة، وهذه قضايا الفصل الأخير؛ الثاني عشر، حيث يدعو الكاتب إلى التقاطع مع الفكر المركزي الأوروبي ومع لحظاته النقدية الجوهرية تقاطعاً نسبياً، دون التماهي في مقولاته التي هي أصل المكتبة الكولونيالية وفصلها. على أنّ أهمّ ما في هذه الخاتمة، هو رَصْدها وجهاً من وجوه الاستجابة لفلسفة موديمبي أو قل تلقّي فكره وكتاباته وفلسفته، من قِبل الذين أسَّسوا نقدَهم على مزاعم تأثّره بكلٍّ من ماركس وألتوسير وهوسرل وهايدغر، وتذكيرها من ثمّ بأنّ جوهر مشروعه هو نقد الذهن المركزي، وتأسيس الاختلاف، وتحرير الذهن المحيطي من أوضار وباثولوجيا الاستعمار.

هكذا، بذكاء، غطَّى الكُتّاب والباحثون معظم جوانب فكر وفلسفة وكتابات ڤالنتين موديمبي، وقد ذيّله المحرّر بـ بيبليوغرافيا عظيمة لأعماله الكاملة وكل ما كُتب عنه.

رحل الفيلسوف، المثقّف الثوري، الذي صار إلى مثقّف عامّ مُنخرطاً في قضايا اليومي والمعيشي وظلّ يدعو حتى اللحظات الأخيرة من حياته إلى فلسفة أفريقية نقدية واجتماعية وبألسُن أفريقية مُبينة.

Scroll to Top