أتر

بورتسودان: تحت سماء لا نجوم فيها

عاش السكّان بمدينة بورتسودان يومهم الخامس على التوالي، بدءاً من الرابع وحتى اليوم الخميس الثامن من مايو الجاري، حالةً من الذُّعر والرُّعب جرّاء سلسلة من الضربات الجوية العنيفة، بمُسيّراتٍ تابعة للدعم السريع، استهدفت مواقع مدنية وعسكرية بالغة الحساسية، منها المطار ومستودعات الوقود ومحطة الكهرباء، والقاعدة الجوية العسكرية، وقاعدة القوات البحرية، وفندق مكتظّ بالنزلاء يقع بالقرب من سكن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، وأخيراً مقر الكلية الجوية. وغطى دخان النيران المشتعلة في مستودعات الوقود ومحطة الكهرباء والمقار الأخرى، سماءَ المدينة، التي انتقلت إليها الأعمال الحكومية منذ الأسابيع الأولى للحرب، وشهدت موجات نزوح ضخمة من الولايات التي امتدَّت إليها الحرب.

وظلّت مدينة بورتسودان بعيدة جغرافياً عن الحرب منذ اندلاعها في الخرطوم في منتصف أبريل 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ولم يسبق أن تعرَّضت لأي استهداف من قِبل الدعم السريع، حتى فُوجئ سكّانها منذ مطلع الأسبوع الجاري بعشرات المُسيَّرات.

يقول أحد سكّان المدينة في حديثه لمراسل «أتَـر»: «كنّا نعيش حياةً طبيعية، ولكن الآن أصبحنا نخشى كلّ شيء. الهجمات تأتي دون سابق إنذار وتسبِّب دماراً كبيراً. نحن نخشى على حياتنا ومستقبلنا».

وأعلنت السُّلطات عبر مجلس الأمن والدفاع عن قطع العلاقات مع دولة الإمارات العربية المتحدة، واعتبرتها دولة عدوان، عقب هجمات المُسيَّرات على بورتسودان، وشطب محكمة العدل الدولية الدعوى المقدَّمة من السودان ضد الإمارات باعتبارها ليست من اختصاصها. ويَتَّهم السودان الإمارات بدعم الإبادة الجماعية ضد المساليت في غرب دارفور، وذلك عبر تقديمها المعونات اللوجستية والأسلحة والمرتزقة إلى قوات الدعم السريع في الحرب المندلعة في البلاد منذ منتصف أبريل 2023، وطالبت الخرطوم في شكواها باتخاذ تدابير ضد أبوظبي.

حال المدينة

في اليومين الأوّلين للقصف خلَت عدة أحياء من السكّان، منها حي ترانزيت وحي المطار الراقيَيْن، حيث يقطن أثرياء المدينة، وبهما مقرات البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية والإقليمية والمؤسّسات الحكومية.

ولم تُحرك السُّلطات الرسمية والصحية ساكناً، وفقاً لإفادات مواطنين من بورتسودان، إذ قال شهود عيان لـ «أتَـر»، إنّ السلطات لم تطلق نداءات تحذيرات صحيّة للسكان من أجل الابتعاد عن أماكن انتشار المواد البترولية المحترقة.

وأضاف شهود عيان طلبوا حجبَ هويّاتهم لدواعٍ أمنية، أنّ السُّلطات اكتفت بتكثيف الانتشار الأمني ورَصْد مَا وصَفته بالخلايا النائمة، ولم تلتفت إلى معالجة آثار الحرائق وتهدئة السكّان الذين بدأوا في مغادرة منازلهم.

ومع استمرار قَصْف المدينة وانقطاع الكهرباء، تضاعفت أزمة العطش التي تُعاني منها المدينة منذ أشهر جراء قلّة مياه الشرب، وبلغ سعر برميل مياه الشرب ما يُعادل حوالي 35 ألف جنيه يوم الثلاثاء الماضي.

كذلك واجه السكّان الذين فرَّوا من الأحياء القريبة من المناطق المستهدفة أزمةً حادّةً في غاز الطبخ، وارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية، وتضاعفت تذاكر الحافلات والباصات السفرية واكتظّت محطات الوقود بالمركبات التي تَدافع أصحابها للتزوّد بالوقود قبل نفاده المحتمل.

وفي اليومين الأوّلين للقصف خلَت عدة أحياء من السكّان، منها حي ترانزيت وحي المطار الراقيَيْن، حيث يقطن أثرياء المدينة، وبهما مقرات البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية والإقليمية والمؤسّسات الحكومية. وقرّرت السُّلطات في المدينة إغلاق المقاهي والمتاجر الصغيرة، ومنعت أصحاب المهن والباعة المتجوّلين من العمل في منطقة السوق الرئيسة والمواقع الاستراتيجية، وفقاً لمعلومات حصلت عليها «أتَـر» من مصادر فضّلت حجب هويتها لدواعٍ أمنية.

وتوقّف تلاميذ بعض المدارس ببورتسودان عن الذهاب للدراسة، وتعطّلت عدد من الجامعات، وأصبحت المستشفيات الحكومية تعمل بالحدّ الأدنى، بينما توقّفت عدد من المستشفيات والمراكز الصحيّة الخاصة عن تقديم الخدمة الطبية جراء انقطاع الكهرباء وانعدام المياه.

وتعرَّض فندق مارينا (كورال سابقاً) لاستهداف المُسيَّرات يوم الثلاثاء 6 مايو، وتسبّب في ضرر جزئي في هيكله دون تسجيل إصابات أو قتلى. ويُقيم في الفندق عددٌ مُقدّرٌ من البعثات والشخصيات مثل السفير المصري وأطباء متطوعون من المملكة العربية السعودية.

وقد انقطعت خدمة التيار الكهربائي في بورتسودان كلّياً منذ الثلاثاء الماضي، وكانت مُبرمجة بواقع ستّ ساعات كل يومين، بسبب ضرب المحطة التحويلية للكهرباء بعطبرة بالمُسيّرات في 25 أبريل الماضي.

على الرغم من أنّ عدداً من المحلات التجارية توقّفت عن العمل، لم تتأثر أسعار السلع بشدّة، بحسب أحد التجّار فضّل حجب اسمه، لكنه توقّع أن تَرتفع أسعار ألواح الطاقة الشمسية في مقبل الأيام لأنّ الطلب عليها سيكون كبيراً مع ندرة الوقود.

أزمة وقود

تعرَّضت ثلاثة مستودعات وقود عملاقة ببورتسودان للانفجار جراء قصف المُسيَّرات، من أصل أربعة مستودعات كانت تكفي لتخزين ملايين اللترات من الوقود والغاز. وتصاعدت الأدخنة التي حجبت السماء مع استمرار عجز السُّلطات عن إطفاء النيران التي ظلّت مُشتعلة لليوم الثالث، الذي انفجر خلاله المستودع الرابع، ما زاد من حدّة الخطر. ووفقاً لعدة مصادر، فإنّ المستودعات التي تعرّضت للحريق تحوي مخزون الوقود لجميع المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش.

وتُعدّ مستودعات بورتسودان من أكبر المنشآت الاستراتيجية لتخزين المشتقّات النفطية في السودان، وافتُتحت في ديسمبر 2015 بتكلفة بلغت 100 مليون يورو، وتسع لـ 80,000 متر مكعّب من الجازولين (4 خزانات)، و50,000 متر مكعب من البنزين (3 خزانات)، و21,000 متر مكعب من الغاز البترولي المسال (7 خزانات)، و20,000 متر مكعب من وقود الطائرات (خزانان)، و18,000 متر مكعب من الماء لمكافحة الحرائق. وتُستخدم هذه المستودعات لتأمين احتياجات البلاد من المشتقات النفطية، وتُعّد جزءاً من السعة الاستراتيجية الوطنية التي تبلغ حوالي 875,000 متر مكعب.

رغم التطمينات الحكومية للمواطنين بتوفّر الوقود، تزاحم المواطنون في صفوف الوقود في الطلمبات لساعات، من أجل تزويد المركبات والمولّدات الكهربائية بالوقود، خاصة مع انقطاع الكهرباء كلياً بعد استهداف المحطة التحويلية بإحدى مُسيّرات الدعم السريع.

ورغم التطمينات الحكومية للمواطنين بتوفّر الوقود، تزاحم المواطنون في صفوف الوقود في الطلمبات لساعات، من أجل تزويد المركبات والمولّدات الكهربائية بالوقود، خاصة مع انقطاع الكهرباء كلياً بعد استهداف المحطة التحويلية بإحدى مُسيّرات الدعم السريع. وبلغ سعر جالون البنزين 70 ألف جنيه في السوق الموازي، وكان يُباع قبل الهجوم بـ 20 ألف جنيه، لكن سعر الرسمي في الطلمبات لا يزال ثابتاً بسعر 12 ألف جنيه للجالون.

متحدّثاً لمراسل «أتَـر»، عزا أحد المواطنين الفوضى في صفوف الوقود إلى النظاميّين قائلاً: «العسكري يلبس الكاكي ويجي يملا قبل المواطن القاعد في الصف من أمس». ونتيجة لذلك أصدرت إدارة النقل والبترول في ولاية البحر الأحمر، قراراً بتخصيص محطة الميثاق (راس الشيطان) للقوات النظامية اعتباراً من يوم الخميس 8 مايو، وأعلنت عن استمرار عمل المحطات حتى الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، كما منعت التعبئة خارج التنك.

توقّف الطيران وارتفاع أسعار البواخر

وتسبَّبَ قصف مطار بورتسودان الدولي في حدوث أضرارٍ في عدد من الطائرات المدنية الرابضة في مدرجاته، ما اضطر السلطات إلى تعليق الرحلات منه وإليه، وألغت شركات الطيران حجوزاتها السابقة وامتنعت بعضها عن جدولة رحلات جديدة، ما ضاعف من معاناة المسافرين الذين جاءوا من مناطق بعيدة بغية السفر خارج البلاد. وعقب توالي الهجوم بالمسيرات على المدينة، ارتفعت أسعار تذاكر الطيران إلى الضعف.

وقال أحد المسافرين، عبر المطار، إنه قادم من ولاية شمال كردفان التي تبعد أكثر من ألف كيلومتر من بورتسودان من أجل السفر إلى خارج السودان، لكنه فوجئ بإغلاق المطار. وأفاد المسافر الذي يعمل بإحدى الدول الخليجية، ويفترض أن يغادر في نفس يوم الضربات الجوية، أنه وجد نفسه تائهاً في المدينة ولا يعلم مصيره بعد توقّف حركة الطيران مع صعوبة إيجاد حجز عبر البواخر.

ووفقاً لرصد مراسل «أتَـر»، فقد نفَدت تذاكر البواخر التي ارتفعت أسعارها من 300 ألف جنيه إلى أكثر من 500 ألف جنيه في مقابل الرحلة إلى مدينة جدة بالسعودية.

وقال مسؤول بإحدى وكالات السفر بالمدينة، إنّ آلاف الأشخاص كانت لديهم تصاريح دخول لعدد من الدول، وهرعوا إلى الميناء لشراء تذاكر البواخر من أجل المغادرة إلى جدة وجهةً أولى، ومنها يكملون رحلة سفرهم هرباً من خطر المُسيّرات التي أصبحت تستهدف المدينة لأيام متتالية، بجانب استهداف ولايات أخرى في نفس التوقيت.

وفي المقابل، ارتفعت تذكرة السفر إلى مصر عبر التهريب من 300 ألف جنيه إلى 500 ألف جنيه، وذلك بسبب حالة الهلع التي يعيشها المواطنون الذين تدافعوا لمغادرة المدينة التي باتت مسرحاً لهجمات المُسيَّرات الحربية وتعقيد إجراءات الحصول على تصاريح الدخول الرسمية من سفارة مصر وقنصلياتها بالسودان.

نزوح من المدينة

ولجأت بعض الأُسر إلى عدد من الأحياء على أطراف المدينة، وهي مكتظّة سلفاً بالنازحين، ونزح بعض آخر نحو ولايات الخرطوم والجزيرة ونهر النيل، وبينهم مَن سَلَك طريق السفر تهريباً نحو مصر عبر الصحراء هرباً من تأزُّم الوضع عسكرياً داخل المدينة في ظلّ عدم توفر وسائل النقل وتضاعف أسعار التذاكر.

وفي ظلّ ارتفاع حالة الخطر، مع استمرار استهداف المدينة بالمُسيرات لليوم الخامس، غادرت عشرات الأسر منازلها هرباً من الغازات المُنبعثة من الحرائق والدخان المندلع من مستودعات الوقود ومحطّات الكهرباء. وقالت آمنة إبراهيم وهي أمّ لثلاث بنات وولدين، وتسكن في حي ترانزيت القريب من مستودعات الوقود المحترقة، إنها غادرت شقّتها بعد خلوّ المبني الذي تسكن فيه من جميع السكّان الذي غادروا في وقت مبكر من اليوم الأول لعمليات استهداف المدينة بالمسيرات. وأخبرت آمنة «أتَـر» بأنها نزحت إلى حي ديم مدينة الذي تفصله عدة أحياء عن المواقع المستهدفة لتستضيفها وأبناءها إحدى العائلات.

وتستأجر آمنة وفقاً لإفادتها شقّة في بناية مكوّنة من أربعة طوابق في حي ترانزيت، وفي اليوم الثاني للهجمات وجدت نفسها تقيم وحدها مع بناتها اللائي يدرسن بالثانوية العامة، لذلك غادرت شقتها بدّورها وتنوي النزوح إلى ولاية الخرطوم التي عادت إلى قبضة الجيش في مارس الماضي من الدعم السريع. وتقول آمنة لـ «أتَـر» إنها دفعت إيجار الشقة الشهري قبل يوم واحد من الهجمات، ولم يتبقَّ لها المال الكافي لشراء تذاكر للنزوح إلى أي منطقة خارج مدينة بورتسودان، في ظل ارتفاع أسعار تذاكر وسائل النقل بعد توقف المطار وندرة الوقود.

وبدَورها انتقلت أسرة إبراهيم حامد، التي جاءت نازحة من الخرطوم، من حي المطار الذي أصبح خالياً من القاطنين إلى أحد الأحياء الطرفية بمدينة بورتسودان، وتتهيأ حالياً لرحلة أخرى نحو مصر عبر التهريب بالصحراء. وقال إبراهيم لـ «أتَـر»، إنه قرّر السفر بالطُّرق غير النظامية بأسرته المُكوَّنة من أربعة أشخاص إلى مصر بعد تدهور الوضع بالحي الذي كان يقيم فيه وخلوّه من السكان.

ويصف إبراهيم الوضع بالكارثي قائلاً: «نحن نازحون من الخرطوم، فقدنا جميع مدخراتنا قبل وصولنا إلى بورتسودان، والتي عانينا فيها من دفع إيجارات مرتفعة وتوفير مستلزمات الحياة لأطفالنا، إلا أنّ الحرب لحقت بنا هنا أيضاً، وتحوّلت المدينة التي كانت تنعم بأمان مَشوبٍ بالحذر إلى مسرح عمليات عسكرية مفتوحة بين المُسيَّرات القادمة من مناطق سيطرة الدعم السريع والمُضادّات الأرضية التي يتصدَّى بها الجيش لتلك المُسيّرات».

أما أسرة الطيب المبارك، وهي نازحة من ولاية شمال كردفان، فقد قرَّرَت النزوح عكسياً إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة. ويقول الطيب لـ «أتَـر»، إنّ أسرته مكوّنة من ثمانية أشخاص، وقد جاء نازحاً إلى بورتسودان في يناير 2024، وتمكّن منذ وصوله من بناء حياة جديدة في بورتسودان التي انتقلت إليها الأعمال الحكومية، إذ أقام متجراً صغيراً لبيع المواد الغذائية أصبح كافياً له في توفير قوت أسرته.

وبسبب استمرار استهداف بورتسودان بالمُسيَّرات، لم يكن أمامه سوى النزوح للمرة الثانية إلى الجزيرة التي لا تزال تُعاني من نقص حادّ في الخدمات بعد استعادتها من الدعم السريع قبل أشهر قليلة. ولا يتوقّع الطيب بناء حياة أخرى هناك بعد أن فقدَ مصدر عيشه للمرة الثانية في هذه الحرب.

كذلك تصاعدت وتيرة النزوح الداخلي من وسط المدينة والأحياء المتوقّع استهدافها إلى مناطق أقلّ عرضةً للخطر، وسط أزمة خبز وندرة في مياه الشرب وانعدام الوقود، ما جعل المنطقة تبدو أقرب إلى وضع النكبة، في ظلّ محدودية تدخّل السلطات وغياب خطة طوارئ واضحة وفقاً لوصف سكّان محليين.

ومنذ اليوم الرابع لاستهداف المدينة، بدأ سكّان أحياء الثورة والامتداد وهَدَل وديم النور الواقعة بالقرب من قاعدة فلامنقو البحرية بمغادرة منازلهم، بعد تكرار استهداف القاعدة بعشرات المُسيّرات للمرة الثانية في غضون 72 ساعة من الهجوم الأول.

وقالت إحدى النساء من حي ديم النور، إنّ المُسيَّرات أغارت يوم الأربعاء على القاعدة في تمام الخامسة صباحاً، ما دفع سكان الأحياء المجاورة للقاعدة للفرار من منازلهم. وأشارت المرأة التي فضّلت حجب اسمها لدواعٍ أمنية، إلى أنها غادرت بأسرتها إلى مدينة كسلا التي تعرَّض مطارها لعدة هجمات بالمُسيّرات تزامناً مع هجوم بورتسودان، وأضافت أنها تنوي السفر عبر الطريق البرّي إلى دولة إثيوبيا المجاورة على الرغم من عدم قيامها بالإجراءات النظامية للسفر، وذلك بسبب صعوبة إكمال الإجراءات في سفارة إثيوبيا ببورتسودان حيث عمّ الفزع والهلع.

Scroll to Top