أتر

بلا كهرباء: أسرابُ المسيّرات تضرب عصب الحياة

في 8 مارس 2025، استهدفت أسرابٌ من مُسيّرات الدعم السريع مطار عطبرة، الذي كان تحت الصيانة، ومقار حكومية أخرى، ولم تُحدِث خسائرَ تُذكر، لكن تطوّرت الأمور أخيراً إلى الأسوأ، بعد مهاجمة محطة عطبرة التحويلية للمرة الأولى في 14 أبريل 2025، وكذلك مستودع وقود بالمنطقة الصناعية عطبرة، يتبع لشركة سيدون للبترول، وهي مؤسسة ولائية تعمل منذ سنوات بولاية نهر النيل في مجال النفط. تمكَّن الدفاع المدني من إطفاء حريق كلا الموقعين، إلا أنّ الهجوم أدى إلى انقطاع الكهرباء في ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر، وأُصلِح العطل في 20 أبريل، بعد ستة أيام غرقت فيها مدن عطبرة وشندي والدامر وبربر والعاصمة الإدارية بورتسودان في ظلام تامّ. وقد أدّى الهجوم أيضاً إلى انقطاع شبكات الاتصال في بعض القرى.

لم تَدُم فرحة المواطنين طويلاً، إذ تكرَّر هجوم مُسيّرات الدعم السريع الاستراتيجية على مدينة عطبرة للمرة الثانية في صباح الجمعة 25 أبريل 2025، سقطت إحداها على معسكر للنازحين بحي المقرن، ما نجم عنه وفاة 11 مواطناً وإصابات عديدة نُقلت إلى مستشفيات عطبرة.

استطلع مراسل «أتَـر» مصدراً عسكرياً، وهو مهندس متخصّص في الطيران، ذكّر أن المُسيَّرة CH-95 هي مسيرة استراتيجية صينية، تصنعها شركة الصين للعلوم والتقنيات الجيوفضائية  (CASC)، وتعمل بتقنيتَي الستالايت أو محطات إرسال مكرّرة في مناطق تقع قبل موقع الهدف، وقد رُصِدت هذه المُسيّرات لدى الدعم السريع من قَبل، وأُسقِطت واحدة في دارفور عام 2024، حسب قوله. تصل هذه المُسيّرة إلى مدى 4.000 كلم، ويمكنها البقاء في الجو لمدة 20 ساعة، وهي مُصمَّمة لحمل صواريخ تصل إلى وزن 650 كيلوغراماً، وتحمل عدة صواريخ جو أرض من أنواع AKD10, BA7, BRM, FT7, FT10 وغيرها، وتحلَّق على ارتفاع أكثر من 7.000 متر.  

نتجت عن انقطاع التيار الكهربائي بعض الآثار الاقتصادية والاجتماعية، لا سيّما على المزارعين الذين وصلت خسائرُهم إلى مليارات الجنيهات، إذ جفّت قنوات الري، وتلفت محاصيل عديدة. وقد خسروا آلاف الأفدنة بمشاريع الأمن الغذائي في الدامر.

يقول مصطفى وهو مزارع ومالك حوّاشة: «لديّ أكثر من عشرة أفدنة من البصل تعرّضت للتلف بسبب العطش، مع أنّ معدّات ريّ المشروع مصمّمة للعمل بالجازولين أيضاً، لكنّ الإدارة لم تتدارك المشكلة إلا بعد 11 يوماً، إذ وفّرت براميل وقود للتشغيل. وقد تلفت أراضي كانت مفرهدة بالبرسيم والخضروات المختلفة من البامية والطماطم والنعناع. كذلك تأثّر مُلّاك مزارع الدواجن والبيض، وأُحرِقت أطنان من الفراخ بسبب التلف».

وليس هذا الحال ببعيدٍ عن قطاع المخابز، فقد قلّ وزن قطعة الخبز، وقلّ عدد القطع مقابل كل 1000 جنيه. وفي شأن هذه التغييرات، قال عثمان محمد أحمد صاحب مخبز: «لا بدّ من ذلك، لأننا نشتري جالون الجازولين للمولّد الكهربائي بـ 9 آلاف جنيه، وزادت منصرفات الإنتاج والعمّال. لذلك نبيع 6 قطع خبز بمبلغ 1000 جنيه وسابقاً كانت 7».

نار الحطب

كذلك تعاني ربّات المنازل بالدامر أشدّ المعاناة، فبعد أن كُنَّ يعتمدن على أجهزة السخّان الكهربائي في الطبخ؛ والصاج الكهربائي «للعُوَاسة» بعد وصول سعر أسطوانة الغاز إلى 50 ألف جنيه، عُدْنَ من جديد لجمع الحطب للطهي، مع ما ينطوي عليه من صعوبة على مرضى الحساسية والأزمة وحساسية العيون.

عودة المُشْلَعِيب

وعاد «المُشْلَعِيب» من جديد لحفظ متبقي الطعام بدلاً عن الثلّاجة، وصينية الألمونيوم لتبريد الماء، ومكواة الفحم. وظهرت خدمات بسيطة في الأحياء والسوق لشحن الهواتف بمقابل مالي بسيط. 

عشرات البَلكّات لشحن الهواتف

بعد أزمة الكهرباء، اشترى الشابّ مجذوب عبد الله مولّداً كهربائياً صغيراً يعمل بالبنزين، بمبلغ 800 ألف جنيه وكمية من الشواحن والبَلكّات، لشحن الهواتف والباوربانك بسعر ألف جنيه. لم يكن هذا العمل مشروعاً ربحياً فحسب، بل أفاد أهالي المنطقة في استمرار حياتهم لارتباط معاشهم باستخدام تطبيق بنكك، ومنهم مَن قال لمجذوب: «يا ابني والله ريّحْتنا الله يريّحك، نحن بناكل وبنشرب من الموبايل دا».

شحن الهواتف في السوق

أُصيبت ترتيل بابكر، صاحبة الـ 15 سنة والطالبة في الصف الأول الثانوي، بمرض السكّر قبل سنة. تقول إنها متفهّمة لطبيعة المرض وتتعامل معه دون أي قلق، إلا أنّ مشكلة الكهرباء قد أثقلت كاهل مرضى السكّر، لصعوبة توفير درجة حرارة ملائمة لحفظ الأنسولين. فسدت بعض عبوات أنسولين ترتيل جراء ذلك، فاضطرّت إلى تبريد الماء في طست ألمونيوم، لكن أخيراً لجأت إلى حفظه مع عمّها المصاب أيضاً بالسكّر.

«أتناول جرعتي من الأنسولين وأذهب إلى المدرسة، وبمعاناة – بسبب الظلام الشديد – أرجع بعد الغروب للجرعة الثانية. تندر المياه في المدرسة، وفي حال توفرها تكون ساخنة، والفصول ساخنة أيضاً، ما يضطرّنا إلى الخروج قبل الوقت المحدّد. بوصفي مريضة سكّر عندما أصل إلى البيت دائماً ما أكون مرهقة، أحاول أن أرتاح قليلاً ومن ثم أراجع دروسي بسرعة قبل حلول الليل». تقول ترتيل، ومن ثم تضيف: «الحمد لله على كل حال، هنالك أناس في السودان يعانون أكثر منّا، أتمنى أن يصلح ربنا حال البلد ويعمّها الأمان والاستقرار والسلام».

تشغيل الصيدليات بالمولدات

يقول د. مدثر عبد الله، من صيدلية ابن النفيس بعطبرة: «إننا نعاني بشدة من انقطاع الكهرباء، لأنّ هناك أدوية تحتاج إلى الحفظ بدرجة حرارة معينة في الثلاجات، وقد تتأثّر بالتلف إذا وصلت إلى أعلى من 25 درجة مئوية، منها الهرمونات وأدوية السيولة والأنسولين وبعض قطرات العيون بالذات الجولوكوما، وحقن ڤيتامين B»، مشيراً إلى أنهم يبذلون أقصى جهدهم للحفاظ عليها باستخدام حافظات النيتروجين وحافظات الثلج. 

ومن مدينة كسلا، يفيد عبد الوهاب آدم، من سكّان حي الحلنقة، بأنّ كسلا تستمدّ خدمتها الكهربائية من «خزان ستيت»، إضافةً إلى الشبكة القومية «خزان الرصيرص»، وأنها تنقطع يومياً لأكثر من 15 ساعة. ويقول ساخراً: «من إيجابيات هذه المشكلة انخفاض سعر اللبن، إذ أصبح سعر الرطل 500 جنيه فقط، وأصبحت هناك وفرة كبيرة».

أما من دنقلا، فقد أفاد المحامي هاني بأنّ المدينة لم ترَ الكهرباء منذ 35 يوماً، بعد استهداف محطة المدينة التحويلية في 20 يناير 2025 بعدد 10 مسيرات، أثّرت على قطاعات الصحة والزراعة والتعليم. واتجه معظم الناس من ميسوري الحال لاستخدام الطاقة الشمسية، التي تبلغ تكلفة ستة ألواح منها وبطاريتين 6 ملايين جنيه سوداني. يقول هاني: «أعتقد أنّ الإنسان السوداني خارج اهتمامات الدولة. أنا أسكن في شقة قد تصل درجة الحرارة فيها مع انقطاع الكهرباء إلى 50 درجة مئوية».

أشار صلاح دفع الله، محاسب بشركة استيراد نزحت من الخرطوم إلى بورتسودان، إلى أنهم يستوردون مواد غذائية عالية الجودة للفنادق والمطاعم والبقالات الكبيرة، والبضاعة التي تتوفر بمخازنهم حالياً لا تحتاج إلى تبريد أو تجميد وتحتمل الأجواء الطبيعية، لكن تأثير انقطاع التيار الكهربائي الكبير واضح أكثر في المبيعات وخاصة المشروبات منها، فقد أصبح الطلب عليها ضعيفاً. وقد أصبح التحصيل المالي يتأخّر، ويتحجّج التجار بأن القطوعات جعلت البيع شبه متوقّف. وفي الوقت ذاته، مُنيت كثيرٌ من شركات الاستيراد بخسائر كبيرة، ثلاجات ممتلئة باللحوم المجمّدة والفراخ ذهبت إلى الشارع، ومنهم من تصرّف بشراء الثلج؛ وهو حلّ غير مستدام.

وأضاف صلاح: «لم يتوقع أحدٌ أن تستمرّ القطوعات كل هذا الوقت. وتأثير هذا الأمر يمتدّ إلى جميع القطاعات في بورتسودان. هناك أثرّ نفسي واضح، إذ يشعر كثيرٌ من الناس بالضيق. وصل سعر لوح الثلج إلى 40 ألف جنيه». وقد لاحظ صلاح أن بعض الطلاب ينتهزون فرصة تشغيل مولّد المسجد ويأتون للمذاكرة، خاصةً وأنّ الامتحانات على الأبواب.

كذلك يعاني المواطنون والنازحون في مدينة سواكن من أثر انقطاع الكهرباء، فقد أفادت سلمى حمزة، نازحة من الخرطوم إلى مدينة سواكن، بأنّ مشكلتهم تكمن في انعدام المياه، التي تأثّرت بانقطاع الكهرباء، فضلاً عن افتقار المنطقة إلى شبكة مياه ورفض بعض السكّان تمديد خطوط المياه، بحجّة أنها قد تُعطّل مهنة كثير من أبنائهم الذين يعملون «سقّايين» للماء. وتضيف: «لذلك نشتري الماء المُحلّى الذي توزعه التكاتك. أما بالنسبة للسوق، فقد اشترك أصحاب الدكاكين مع بعضهم البعض لشراء مولّدات كهربائية لتشغيل الإضاءة والثلاجات الصغيرة، ومع ذلك لا يتوفر الزبادي مثلاً إلا في محلّات معينة فقط».

تذهب مروة، شقيقة سلمى الصغرى، يومياً إلى السوق لشحن الهواتف واللاب توب، بما يكفي لتصفّح السوشيال ميديا لوقت محدود ومتابعة ما يجري في السودان، ومن ثمّ توفير طاقة الهاتف للتطبيقات الأهم، مثل بنكك.

سلمى طالبة طب، وأكبر مشكلة تعاني منها هي شحن الهاتف الذي لا يصمد كثيراً، وسرعان ما تُستهلك البطارية، لأنها تعتمد عليه في الدراسة وسماع المحاضرات، فهي لا تملك كتباً ورقية بسبب النزوح، وجميع كتبها ملفات إلكترونية pdf. تقول سلمى: «لانعدام الكهرباء في البيوت عموماً وجهٌ مختلف، فهو جيّد من ناحية أن الجميع أصبحوا يقتصدون في الوجبات، ولا يشترون من السوق إلا بمقدار ما يستهلكونه في نفس اليوم. أما أختي الصغرى مروة، وهي طالبة جامعية تعطّلت رحلتها الدراسية بسبب الحرب، مثلها مثل آلاف الطلاب، فإنها لا ترى أيّ أثر يمسّها جراء قطع الكهرباء، وتقول إنّ ذلك أفضل، فقد أصبحت تنام باكراً، وتستيقظ باكراً لقضاء احتياجات المنزل بكلّ ارتياح».

تضيف سلمى: «نعاني ارتفاع سعر الثلج الذي يزداد كل يوم. من 8 آلاف جنيه وصل إلى 30 ألف جنيه سوداني، ومع ذلك فهو يُصنَع من ماء به مرارة واضحة، وذلك يتسبّب في مشكلات صحية مختلفة».

تبريد الماء في الصينية

تقول هويدا من الدويم، وتعمل موظّفة في المجال الصحي: «في ولاية النيل الأبيض توجد محطة أم دباكر الحرارية، وتستقبل الوقود مباشرة من الرَّنك، ويعتمد عليها جزءٌ كبير من مدن الولاية وقراها، وهي تعمل الآن بقدرة محدودة، وقد تعوّدنا على انقطاع الكهرباء الذي يصل أحياناً إلى عشرة أيام. وخلال رمضان انقطعت إلى الأسبوع الأول من العيد». وكانت محطة أم دباكر الحرارية قد تعرّضت لقصف المُسيّرات للمرة الثالثة في 6 مارس 2025، ثم عاودت العمل جزئياً.

تقع الدويم بالقرب من نهر النيل الأبيض، لذلك تتمتع بجوّ معتدل نوعاً ما. ومع ذلك، وصل سعر لوح الثلج إلى 24 ألف جنيه، واستغنى عنه أغلب الناس. وبالمدينة خطّ كهربائي ساخن من محطة مشكور التحويلية التي تعتمد على محطة أم دباكر، وهو يشغّل المستشفى ومحطة المياه التي تعمل لمدة أربع ساعات. وقد وصل سعر برميل المياه من عربة الكارّو في الدويم إلى 10 آلاف جنيه سوداني. توفر الإدارة التنفيذية بالمحلية الوقود لمحطة المياه، خاصةً وأنّ المدينة قد تعرّضت من قبل لحالات إصابة بالكوليرا، ما يتطلَّب الاعتناء بمصادر مياه نظيفة.

تقول وصال، من جزيرة أم جر بالنيل الأبيض، إنّ المياه تنقطع باستمرار بمعدل يومين إلى عشرة أيام، فضلاً عن تذبذب التيار الكهربائي الذي يُستمدّ من محطة أم دباكر وأحياناً من الخطّ القومي، وندرة الثلج الذي بات يباع بـ 2000 جنيه سوداني للكيلو.

ومن حلفا الجديدة أفادت الأستاذة الجامعية هُجلة صديق، في حديثها لمراسل «أتَـر»، بأنّ الكهرباء ظلّت تُقطع منذ آخر 10 أيام في رمضان الماضي بمعدل 12 ساعة إلى 18 ساعة يومياً، ما ضاعف معاناة السكّان بسبب السخونة وندرة الثلج. تفاقمت تلك القطوعات اليومية منذ منتصف أبريل، وأصبحت تُقطع لمدة تتراوح بين 38 و42 ساعة، ثم تعود بعدها لمدة 3 إلى 5 ساعات. وشأنها شأن كسلا وخشم القربة، تستمد محلية حلفا إمدادها الكهربائي من خزاني ستيت والرصيرص، ولا يتأثّر إمدادها الكهربائي بتبعات الهجوم على سدّ مروي. وعلى عكس واقع حالها اليوم، لم تكن تشهد انقطاعاً للتيار الكهربائي خلال الأيام الأولى للحرب.

انعكس أثر انقطاع الكهرباء على محطات المياه، وبات السكّان يعتمدون على الجاز لتشغيل محطات الإمداد المائي، واستعاضوا بالأزيار للحصول على ماء للشرب بديلاً للثلاجات، بعد أن بلغ سعر لوح الثلج في الأبيّض 16 ألف جنيه سوداني، وفي نيالا 20 ألف جنيه، وفي الدويم 24 ألف جنيه، وفي سواكن 30 ألف جنيه، بل وبلغ في كسلا 40 ألف جنيه سوداني. وأصبحت ظلال الأشجار هي الملجأ من الهجير.

ولا يختلف حال مدينة كريمة بشمال السودان كثيراً عن المدن الأخرى. فقد ظلّت تعاني جراء انعدام الكهرباء في المنطقة من قبل عيد الفطر. وانعكس أثر انقطاع الكهرباء على الإمداد المائي، الذي يتراوح سعر البرميل الواحد منه ما بين 8 و12 ألف جنيه، وسعر التانكر ما بين 150 و200 ألف جنيه.

ومع كلّ هذا الرّهق الذي يعانيه أهل السودان، لم تتوقّف المُسيرات عن تدمير محطات الكهرباء في بورتسودان وعطبرة وبربر، وما تزال معظم مدن السودان غارقةً في الظلام.

Scroll to Top