أتر

الخرطوم: خراب مدينةٍ عمرها قرنان!

تصوير: سامو حسين - ناس شغالة

صمتٌ ثقيلٌ، ووحشة مُرعبة تعلو نهار الخرطوم، عقب استعادتها إلى سيطرة الجيش السوداني، روائح غريبة عالقة في الجوّ، خليطٌ بين رائحة الموت والجثث المُتحلّلة وروائح البارود والدخان. آثار الحرب والدمار والحرائق عالقة بالمباني والأرصفة، مشهد المدينة صادمٌ ومُروّعٌ يُثير الحزن والأسى وكدَر الروح، عربات دفع رباعي نافقة ومُحترقة بالكامل، عربات مدنيّة مُعطّلة تسدُّ الطرقات. البنايات الشاهقة، الفنادق الأنيقة، وسط المدينة المغدورة، مخلوعة الأبواب، منهوبة، وقد بُعثر ما تبقى من أثاثها الفخم؛ حال لم يسلم منها فندق كورال «الهيلتون سابقاً» ولا «برج كورنثيا» ولا «الفندق الكبير» على شارع النيل، ولا «الأكروبول» الذي ظل يعمل دون انقطاع منذ العام 1952.

شارع النيل نفسه، القاعات والمعارض والسفن النهرية، مكاتب الشركات والوزارات والسفارات الفارغة، الحدائق شعثاء ومُهملة، عشبها يابس وأغبر، يتكسّر تحت الخطوات الغاصّة في الرعب. شوارع المدينة، وأنت تتجوّل فيها مذهولاً وحذراً، بعد عامين من الحرب، غامضة ومجهولة وخالية من المارّة، تُصيب بالدُّوار، كأنك لا تعرفها من ذي قبل، تُصيب بالدهشة والخوف والحسرة. البنايات التاريخية، عميقة الأساس والجذور، مُحترقة، تقاذفها لهب الحرب، وكَسَا جدرانَها المُهدَّمةَ الدخانُ وقصفُ الرصاص، المتاحفُ ثمينة المواقع والمُقتنيات، السوقان العربي والأفرنجي بمحالّهما التي هَتكها اللصوص ودمّرتها الحرب. لم تسلم حتى دُور العبادة، المساجد والكنائس وبيوت الأوقاف. الخرطوم مُحطَّمة ومكلومة وفي قبضة الفوضى والخراب والأسى.

هذا ما اعترى مراسل «أتَـر» من مشاعر، أثناء جولته في مدينة الخرطوم، بعد أكثر من شهر من استعادتها من قبضة الدعم السريع، إذ شهدت شوارع المدينة التي أُسِّسَت منذ قرنين، اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023. وبدلاً عن أصوات المارّة وضجيج الأسواق والباعة، سادَت طِوال عامين أصوات الرصاص والقصف والموت.

جولة مراسل «أتَـر»

أعلنت السُّلطات المحلية، من اجتماع عُقِد على الأرض، في مباني ولاية الخرطوم، بعد استعادة وسط الخرطوم من قبضة الدعم السريع، فتْحَ الكباري والطُّرق من المدينة وإليها، يوم 7 أبريل، في إطار استعادة الحياة الطبيعية وعودة المواطنين، مع تنفيذ إجراءت أمنية مُشدَّدة. وأتاحت أذونات وتصاريح أمنية للراغبين في تفقّد منازلهم في الأحياء التي بقي فيها عدد أقلّ من السكان يحرسون المنازل وذاقوا، خلال عامي الحرب، صنوفاً من الويلات والألم والمرض وهتك الحياة.

وفي العاشر من مايو الجاري، أعلنت الوحدة النقابية لعمال وسائقي الحافلات والدفارات والبكاسي، فتحَ خطّ مواصلات بين الجرّافة بمحلية كرري ووسط الخرطوم «السوق العربي»، بدءاً من الأحد 11 مايو بعدد 50 حافلة مروراً بصينية المنارة وشارع الوادي شمال أم درمان.

مطار الخرطوم الدولي

تصوير: سامو حسين - ناس شغالة

لكنّ جولة مراسل «أتَـر» في الخرطوم كانت عبر خطّ مواصلات بدأ عمله قبل القرار الآنف، ليتحرَّك من صينية المنارة بمحلية كرري إلى السوق المركزي بالخرطوم، عبر جسر الحلفايا وشارع الإنقاذ، ومن ثم جسر النيل الأبيض، وحتى شارع الستين، ومن ثم العودة عبر جسر المنشية إلى شرق النيل راجلاً، ومنها إلى كرري مرة أخرى بالمواصلات. وتنتظم عبر هذا الخطّ حافلات كبيرة وصغيرة وعربات «صالون»، تحمل الركّاب بتعرفة تبلغ 5 آلاف جنيه.

يَهرع إبراهيم أبو سارّة، الذي التقاه مراسل «أتَـر»، لرؤية محلّه لبيع طلمبات المياه بشارع الجمهورية. طوال عامي الحرب بقيَ أبو سارة في منزله بكرري، لم ينزح سوى داخل المنطقة حين تشتدُّ حصباء المدافع على الحي. يقول أبو سارة: «في البدء لم أتعرَّف على شوارع وسط الخرطوم. تلفّتُّ يمنةً ويسرةً، وأصابتني الحيرة فقط. أعمل في شارع الجمهورية منذ أن كان عمري 16 عاماً، ووجدتُ دكاني بصعوبة وسط كومة المحال. هرجلة عجيبة!». أخذ أبو سارة تصريحاً لدخول السوق العربي مُصطحباً جندياً من معارفه. وقد وجد محلّه مفتوحاً، وكذا حال جميع المحلات. يقول: «لم تُنهب سوى الخزانة وبعض المقتنيات الخفيفة، ربما لأن الطلمبات بحجم أكبر، لذا نجت من اللصوص. واضحٌ أن جنود الدعم السريع كانوا يقطنون في البرندات المُجاوِرة، فلا تزال آثارهم هنا».

يمضي أبو سارة إلى رئاسة الجيش في معسكر الشجرة، يُريد تصريحاً لنقل البضاعة إلى البيت في كرري، فيُشاهد آثار المعارك والدمار على طول الطريق، موقف جاكسون، المنطقة الصناعية، سكّ العملة، الأحياء الموحشة والصمت المطبق، بقايا روائح الجثث تملأ الآفاق المرعوبة.

ميدان يتحوّل إلى مقبرة

تحوّلت بعض الميادين إلى مقابر ضخمة، كان الناس يدفنون موتاهم في المدارس وأفنية البيوت والساحات

عاد محمد أحمد دفع الله من نزوحه في مدينة عطبرة، فور سيطرة قوات الجيش على مدينة الخرطوم، لتفقُّد منزله المهجور لعامين في منطقة «العُشَرة» جنوب المدينة، ومحلّه التجاري بالسوق الشعبي- الخرطوم، ورؤية سيارته التي تركها أمانةً عند أحد الجيران. في مدخل كوبري المنشية من جهة شرق النيل، يُوجِّهه عسكري الارتكاز باختيار مدخل آخر، لأنّ الجثث والعربات المُدمّرة تسدّ الطريق وتملأ الجسر.

لكنْ، أثناء جولة مراسل «أتَـر» بالخرطوم لاحقاً، وجد أنّ جسر المنشية قد أُغلِق بالحاويات، فتسلَّل عبر مساحة ضيّقة بين الحاويات وسياج الجسر، يَستطيع العبور منها شخص واحد فقط.

التفَّ دفع الله ليدخل الخرطوم من جهة كوبري سوبا، مروراً بجنوب الحزام وصينية السوق المركزي وأحياء الصحافة، وصولاً إلى البيت، الذي ألفاهُ منهوباً عن آخره، بكامل أثاثه ومحتوياته. قال لمراسل «أتَـر»: «الدمار هائل، مئات العربات المحترقة، الأثات المسروق منثور عشوائياً في كلّ مكان، بقايا المعارك ومظاهر الحرب يلفّان المدينة الصامتة والمُوحشة، ومن بقي من الجيران، سنتي الحرب، يعانون هزالاً مريعاً وأوضاعاً نفسية ومعيشية صعبة»، ومن ثم يضيف: «كثير من محلات السوق الشعبي مُحترقة، لكن عربتي نَجَتْ».

تُخبره جارتهم سارة التي لم تغادر المكان طوال عامين، أنهم عاشوا أهوالاً ومأساة حقيقية، بلا مياه ولا كهرباء ولا حتى قليل من الطعام في اليوم الواحد. «كنا في شبه مجاعة ووسط أمراض غريبة، ومع ذلك تعامَل معنا جنود الدعم السريع بقسوة شديدة. يضربون الرجال بالسياط لأدنى سبب، ونذهب نحن النساء في الشوارع بحذر شديد. لا أسواق أو مشافي أو صيدليات، تداوَيْنا بالملح وصَفَق الشجر، نشرب من الآبار بواسطة الحمير. عشنا في الخراب، بين مطرقة الجنجويد – على حد وصفها – وسندان «عصابات الشفشافة» الذين يتحركون بالعشرات، يبثون الرعب ويحملون السواطير والبنادق وينهبون كلَّ شيء». 

وتروي سارة أنّ عشرات الشباب انتهوا إلى معتقلات الدعم السريع وسجونه العديدة، وكثيرٌ منهم قُتلوا. «انعدم الوقود بالكامل، كنا نضطرّ إلى شراء الخشب بعد كَسرْه إلى قطع صغيرة من الأثاث الفخم والدواليب المنهوبة يَبيعُه بعضُ الناس»،  وتضيف: «تحوّلت بعض الميادين إلى مقابر ضخمة، كان الناس يدفنون موتاهم في المدارس وأفنية البيوت والساحات».

يَقفل محمد أحمد يائساً من رؤية متجره المنهوب والمُحترق في السوق الشعبي ومن الخرطوم كلها. «الخرطوم التي نعرفها لن تعود أبداً»، يقول بحزن وانكسار.

روائح غريبة

مبنى في حي كوبر

تصوير: سامو حسين - ناس شغالة

بدا شارع الإنقاذ، في مدينة بحري، لمراسل «أتَـر»، مقلوباً رأساً على عقب: البيوت والبنايات على امتداد الطريق منهوبة، وتعرَّض كثيرٌ منها لقصف عنيف وحرائق المدفعية والطيران، الجدران مثقوبة برصاص كثيف والنوافذ الزجاجية محطّمة. خلّفت الاشتباكات دماراً هائلاً في المنطقة الهامدة والخالية بالكامل من السكّان، وترقد المنطقة الصناعية في بحري مثل جثة هامدة.

 تمتدّ آثار المعارك ومخلّفات الاشتباكات حتى عبور الجسر الحديدي الرابط بين بحري والخرطوم (النيل الأزرق)، وبنايات شارع النيل وجامعة الخرطوم والقيادة العامة، وصولاً إلى شارع المطار حتى العمارات وحيَّي أركويت والمعمورة، حيث تهجع المنطقة برمّتها في سكون مُميت ووحشة كريهة وخراب كبير تزداد معه انبعاثات الروائح الغريبة الصدئة.

وتلقّت عشرات المباني والمعالم التاريخية التي أُنشِئت منذ عشرات السنوات، حصباً عنيفاً بالطائرات الحربية والمدافع الثقيلة واستُخدمت ثكناتٍ عسكريةً ومناطق عمليات حربية، منها السرايات القديمة، والمتحف القومي وجامعة الخرطوم، والقصر الجمهوري القديم، ومبنى البريد والبرق المُشيّد من الحجر الأبيض، ومسجد أرباب العقائد العتيق، والأبرشيات والكنائس المسيحية. وطال الخراب والدمار الشديدين، على نحو شامل، قاعة الصداقة، من الأمام ومن الخلف، ولا أثر للسفن النهرية التي كانت رابضة أمامها وتُتَّخذ كافتيرات نيلية ومزارات سياحية. وشمل الدمار مستشفى الخرطوم التعليمي، الذي أُسِّس في العام 1904. وتعرّض بنك السودان وبرج الساحل والصحراء لأضرار فادحة، وشمل الضَّرر برج بنك التضامن، ومباني كلية الصحة العامة بالمجمع الطبي، وكلية الصيدلة، ومرافق كلية الآداب، وأغلب كليات جامعة الخرطوم، وأبراج الاتصالات والكهرباء، وأغلب المباني الشاهقة بشارع إفريقيا، واللكوندات والنزل المبثوثة في شارع السيد عبد الرحمن وشارع الحرية، وفقاً لشهود التقاهم مراسل «أتَـر»، ونُزعت جميع كابلات الكهرباء من أحشاء الشوارع وبطون البنايات.

وامتدَّ الخراب قاسياً في غرب المدينة ومنطقة المقرن بحديقتها العامة الغنّاء والتي جفّت، وببيوتها العريقة ومبانيها الشاهقة، والتي شهدت معارك شرسة بعد أن اتخذتها الدعم السريع قواعد ومنصّات لإطلاق الأسلحة، وملاذاً عسكرياً ومخازن للمؤن والذخائر ومخابئ للآليات والمعدات الثقيلة ومعتقلات للأسرى وعامة المواطنين.

تُقدِّر لجنة مختصّة شكّلتها السلطات السودانية حجم ما دمّرته الحرب في السودان بنحو 127 مليار دولار، بينما تؤكّد وزارة الخارجية أنّ الرقم قد يكون أكبر من ذلك. وتشمل تلك القيمة نحو 90 مليار دولار، هي خسائر الزراعة والصناعة وقطاعي النفط والكهرباء، و3 مليارات دولار خسائر قطاع الطيران المدني، و10 مليارات في قطاعي الصحة والمياه، و15 مليار دولار خسائر قطاع السياحة. وتقدَّر خسائر المواطنين الخاصة بأكثر من 9 مليارات دولار.

تصف تنسيقية مقاومة كرري الوضع في محلية الخرطوم، في تحديث ميداني بتاريخ 8 أبريل الماضي، عقب وصول الجيش، بالهادئ أمنياً، وأنّ الهدوء مخيف بسبب قلّة السكّان وكثرة اللصوص. وتقول إنّ الكهرباء مقطوعة بسبب الدمار الكبير في البنية التحتية من محطات وكوابل ومحولات، وإن المياه متوفرة فقط بالشراء، إذ يتراوح سعر البرميل بين 8 و10 آلاف جنيه سوداني، وإنّ تدفقها في الأحياء من جديد مرهون بعودة  التيار الكهربائي، لتشغيل الآبار ومحطات الضخّ.

وأورَدت التنسيقية نشرةً بأسعار المواد الغذائية، وحدّدت سعر جوال البصل بـ 90 ألف جنيه سوداني، ويتراوح سعر جوال دقيق القمح بين 45 و50 ألف جنيه، وبلغ سعر جوال السكر سعة 10 كيلو 32 ألف جنيه، في حين بلغ سعر لتر زيت الطعام 5500 جنيه، وبلغ سعر 6 خبزات 1000 جنيه سوداني.

لكنْ شهد شارع النيل بالخرطوم، يوم 16 أبريل، انسياباً ملحوظاً وتدفّقاً سلساً في حركة المرور، وهو شارع حيوي مهمّ في قلب العاصمة يربط بين عدة مناطق استراتيجية ومؤسسات رسمية ومقار دبلوماسية.

وكانت السّلطات قدّمت سلسلة من التدابير، لتدفّق السيارات والحافلات والمارة، شملت إزالة مخلّفات الحرب وأنقاض عامين من عزلة المدينة الموحشة ومتاريسها الحربية وتجميع السيارات المنهوبة، واكتملت عمليات تأمين المعمل القومي للصحة العامة «استاك» وإزالة الجثث والمخاطر البايلوجية والإشعاعية، وجرَت حملات نظافة واسعة وعمليات تعقيم بالمطهّرات والأدوات الصحية ودهانٌ لبعض الأرصفة وسط الخرطوم وشرقها.

جثث عالقة

التقى مراسل «أتَـر» أثناء جولته، علي طه، أحد قاطني حي أركويت جنوب شرق الخرطوم، وقال إنه وزوجته بقيا لمدة سنتين في المكان ولم يغادراه: «تعرّضتُ لمضايقات شديدة ومرضتُ كثيراً، ولم تغادر زوجتي باب الشقّة مُطلقاً، وبقيَتْ حبيسة الجدران، على أعصابها التالفة، طوال سنتين، لأنها تتبع لقوات الشرطة، على الرغم من أنّ بعض الناس كانوا يبلغون عن من يتبعون للشرطة والجيش، إلا أنّ الله سلّم».

ويعزو طه الروائح الغريبة التي تملأ الجو إلى احتمال وجود جثث مُتحلّلة في المعتقلات غير المكتشفة بعد. «حوّل الدعم السريع كثيراً من البيوت لمعتقلاتٍ سَجَن فيها آلاف الناس، وأغلبهم قضوا هناك جوعاً وتعذيباً وحشياً. تعايَشنا مع هذه الرائحة، مثلما تعايشنا مع أوباش الجنجويد وأرتال الشفشافة الذين نهبوا كل صغيرة وكبيرة»، على حدّ ما يصف ويقول.

ويُخبر أنّ جنود الدعم السريع سرقوا جميع محوّلات وكوابل الكهرباء، وأنّ شبكة المياه لا تزال مُعطَّلة: «لا أتوقع عودة قريبة للسكان، فالخرطوم خاوية على عروشها ولا أمل في عودتها الآن، لأنّ البيوت منهوبة ومحطّمة والبنية التحتية معطلة بالكامل».

القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية

تصوير: سامو حسين - ناس شغالة

ويصف الشاب ممدوح حامد، وهو سائق ركشة ويقطن سوبا شرق، معتقلات الدعم السريع بأنها قاسية جداً: «سجنوني ستة أشهر من دون تهمة، كنت أتعرّض خلالها لتعذيب وضرب مبرح وتعامل وحشي فظ»، يقول مُحدّثاً مراسل «أتَـر»، الذي التقاه بأركويت، ومن ثم يضيف: «المعتقلات متعدّدة وعشوائية، مكتظّة بالسجناء وليس فيها طعام كافٍ أو رعاية طبية ومعظمها غير معروف. لقد سرقوا ركشتي الأولى، لكنني فكَّكْتُ ركشتي الأخرى التي أقودها الآن، صامولة صامولة، ودفنتها حتى لا يعثروا عليها وينهبوها».

في رحلته صوب بلدة «أم عُشَر» جنوبي الخرطوم، ومروراً بـ «أبو حمامة» والشجرة والكلاكلة، يُرهِف الحرفي عادل فاروق سَمعَه لأنين البيوت والطرقات ترزح تحت وطأة خرابٍ فادح لا يندمل: «نذهب يومياً لصيانة وإغلاق البيوت المُشرّعة باللِّحام والأطبال. أصحابها لا ينوون العودة قريباً، ويخشون نهب ما تبقى منها بعد ذهاب الدعم السريع»، يقول في حديثه إلى «أتَـر» ومن ثم يضيف: «يعجّ حي السجانة وميدان المولد بالعربات المحروقة والتي تعرّضت للنهب، المنطقة خالية من أي وجود للبشر، غابات المِسكيت انتشرت بكثافة، بقايا المحال التجارية والبيوت المنهوبة تسدّ الطرقات حتى منطقة الشجرة التي تشهد حركة قليلة ونشاطاً تجارياً واعداً، وظلّت طوال وقت الحرب تحت سيطرة الجيش».

ويُخبر فاروق مجدداً، أن سوق الكلاكلة اللفّة عامر بالباعة والمُشترين وعادت إليه حركة تجارية نشطة نسبياً. وتعمل المواصلات العامة بين موقف اللفّة وأم درمان وصينية المركزي على نحوٍ كثيف، رغم ندرة الوقود وغلاء الأسعار: «بعض ضعاف النفوس يتجوّلون بالدرداقات بحثاً عن غنائم خفيفة الحمل بين ركام المقتنيات المبعثرة، واحتمال وجود جثث وارد جداً، فلا تزال الروائح الكريهة تنبعث في كل مكان».

حملات نظافة

تُشكّل مخلّفات الحرب وأنقاض المعارك وروائحها العالقة في سماء الخرطوم، تحدياً كبيراً أمام العاملين في حقل النظافة بعد استعادة العاصمة، لا سيما مع ارتفاع أسعار مواد النظافة وإغلاق أغلب الطرق بالحشائش والأوساخ التي حذّرت السلطاتُ المحلية في ولاية الخرطوم أصحابَ الشركات العاملة من حرقها قبل الاتصال بالدفاع المدني وفرع المهندسين التابعين للجيش، تحسّباً لوجود متفجّرات وأجسام قابلة للاشتعال أو الانفجار.

وبدأت ولاية الخرطوم تنفيذ حملة واسعة لتنظيف الشوارع الرئيسة بمحلية الخرطوم، شملت جميع شوارع وسط المدينة، وشارع المطار، وشارع عبيد ختم، وشارع الستين. وقالت الولاية، إنّ الحملة تأتي في إطار خطة  لإعادة الإعمار والتعافي، واستعادة رونق العاصمة السابق للحرب.

ومع تصاعد حملات النظافة الرسمية والشعبية في الأحياء، انتشرت إعلانات شركات النظافة في الشوارع والجدران وأعمدة الكهرباء، بعناوينها التي تعتمد أرقام هواتف فقط، من دون تحديد مقرات معلومة. ورصَد مراسل «أتَـر» في جولته بالمدينة أسماء لشركات مثل ابن عوف، الرند، رويال لاند، في منطقة بحري، وفي الخرطوم، أسماء مثل قولدن بوي، والأمانة، وإعلانات أخرى بأسماء أشخاص.

ويخبر خالد الأمين، وهو موظف بشركة كابو لمنتجات الألبان، أنّ معامل الشركة لم تتأثر كثيراً، بالمقارنة مع ما جرى لشركتي كوكاكولا وسيقا من نهب وتدمير. يقول في حديثه لـ «أتَـر»: «تولّت أعمال النظافة في كابو شركةٌ متعاقدة مع مجموعة دال منذ ما قبل الحرب بإنجاز أعمال النظافة والرشّ وتهيئة بيئة العمل لشركات المجموعة»، ويضيف: «اكتمل التعقيم في كامل المعامل قبل بدء العمل والإنتاج».

بينما يقول عثمان الحداد، وهو تاجر بسوق سعد قشرة ببحري، إنّ تجمّعاً للتجار بالسوق تعاقدوا مع شركة نظافة خاصة تعمل حالياً في تنظيف السوق بعمالة كبيرة. «الحركة دؤوبة في تنظيف السوق من مخلفات الحرب والحرائق التي طالت المحال التجارية». وبحسب حديث الحداد، يتراوح أجر عامل النظافة في اليوم الواحد بين 15 ألفاً و20 ألف جنيه، مخبراً أنّ الشركة قطعت شوطاً كبيراً في أعمال النظافة والسباكة، وأنّ هنالك شركات تعمل بعد النظافة في مراجعة أعمال الكهرباء والسباكة ونظافة الشوارع الجانبية.

Scroll to Top