
1
ينضح ذهن «وائل مرحوم» بكثيرٍ من ذكريات ما شهدَه حيّ بُرّي شرق الخرطوم من ويلات الحرب وسط صمود أهله بالتلاحم والتضافر الاجتماعي بينهم، طوال سنتين من الحصار، إلى أن استعاد الجيش مدينة الخرطوم في 25 مارس 2025، وطفق الناس من ثمّ في صون الحياة والمكان؛ الرحلة التي بدأوها في خضمّ الحرب، رغم أنف قوات الدعم السريع التي نكّلت بهم شرّ تنكيل أثناء سيطرتها على الحيّ.
بحكم موقعه الجغرافيّ القريب من مناطق العمليات العسكرية، كان حي بُرّي من أولى المناطق التي فقدت أبسط مقوّمات الحياة، كما يتذكّر وائل في حديثه لـ «أتر». ورغم كلّ ما أحاط بهم من دمار وقتل ونهب وتشريد، اختار أهل بُرّي الوقوف أمام العاصفة ومواجهتها، مُتقاسمين كلَّ لقمة، وكلَّ قطرة من الماء، وكلَّ ضحكة منزوعة من بين براثن الكرب. ونجحوا في ذلك على مدار سنتين من الصمود، إذ أنشأوا مدارس ومراكز تعليمية وعيادات، ووفّروا بعض الخدمات الأساسية، بدعمٍ من أهلهم في الخارج والخيّرين، فأطلقوا مشروع المطابخ بالعون الذاتي والمطابخ المركزية، بجمع ما توفّر من مؤن ووجبات في البيوت، وأتاحوا لمجتمع الحيّ الصامد خزّانات كبيرة للمياه بعد مَلئها من صنابير المنازل التي لم يكن قد انقطع إمدادُها المائي، وفتحوا في ديسمبر 2023 عيادة مركزية لتقديم الخدمات الطبية الضرورية، بعد جمع الكوادر الطبية بالمنطقة وتوحيد جهود أحيائها الثلاثة؛ بُرّي أبو حشيش، وبُرِّي الدّرايْسَة، وكوريا. لاحقاً، وسّعت غرف الطوارئ هذه المشاريع لتغطية جميع أنحاء المنطقة. ولم يكتفِ سكّان برّي من الصمود بتوفير الأساسيات من ماء وغذاء وعلاج، إنما أقاموا فعاليات رياضية كانت دليلاً على أنّ الحياة أقوى من الحرب والموت.
توجد في حي بُرّي ثلاث آبار مياه، مشيراً بيديه إلى هذه الجهة وتلك، يصف وائل مواقع الآبار: الأولى وهي الأكبر تقع في آخر محطة، شمال مسجد برّي العتيق، وكانت تسدّ قدراً كبيراً من الحاجة إلى المياه، والثانية جنوب المسجد العتيق، بينما تقع البئر الثالثة في مربّع خمسة. كانت البئران الأخيرتان تعملان طوال فترة الحصار عبر التبرّعات والمبادرات من أبناء برّي والخيرين، الذين كانوا يشترون الجاز للمولّدات الموجودة بالقرب من الآبار، رغم التكلفة المالية الباهظة بسبب الحصار. ورغم كلّ هذا، لم تنجُ تبرّعات الناس والجاز والكوابل من السرقة عدة مرات. ولقد أبدى وائل حاجة السكان في بري إلى تركيب طاقة شمسية لهذه الآبار حالياً.
2
لم يكن همُّهم تغذية أبدانهم والبقاء فحسب، إنما كانت الحاجة تدعوهم إلى تنمية عقولهم أيضاً. يقول وائل: «كان التعليم بالنسبة لنا أولوية قصوى. لاحظنا تغيُّراً في سلوك الأطفال، وحتى ألعابهم أصبحت تحمل طابعاً حربياً. كان الكدمول، رمز قوات الدعم السريع التي سيطرت على المنطقة في بداية الصراع، جزءاً من لباسهم وألعابهم. لم يكن أمامنا من خيارٍ سوى فتح مراكز تعليمية لإبعادهم من براثن الضياع والتشوّه».
أطلق معلّمون ومتطوّعون مبادرات فردية لسدّ هذه الحاجة، لكنها لم تكن كافية، وكانت نسبة التسرّب من الحصص الدراسية كبيرة، فاتفقوا أخيراً على إنشاء مراكز تعليمية منظّمة، استلهاماً من تجربة الطفلة «يقين» التي كانت تَستخدم منصّة اليونيسف التعليمية. يقول وائل: «في أواخر العام 2023، وقبل انقطاع الإنترنت عن بري، وأثناء زيارتنا لوالد يقين في منزله وجدناها تمعن النظر في هاتف والدها المحمول، وعندما لجأت إلى والدها مُستفسرَةً عن صحّة كتابتها على كرّاسها، استفسرناه عن الأمر، فأعلمنا أن ابنته قد سجلت في منصة تعليمية تابعة لليونسيف للتعليم من بعد». انتشر الخبر وسط أهالي بري الذين همَّوا بتسجيل جميع أطفال بُرّي في تلك المنصّة. ومن هنا، بدأت الحكاية.
تُسمى هذه المنصة بـ «جواز السفر التعليمي»، وهي مبادرة مشتركة بين وزارة التربية والتعليم ووزارة الاتصالات والتحوّل الرقمي ومنظمة اليونيسف، وقد كُوّنت عام 2021، وأَطلَقت منصّة تعليمية إلكترونية تحتوي على المنهج السوداني كاملاً مع تمارين مصاحبة، ويمكن الدخول إليها دون دفع تكاليف الإنترنت؛ إذ إنّها مبادرة مدعومة من مشغّلي الإنترنت في السودان. وينوّه القائمون على المبادرة إلى أنها لا تُغني عن التعليم الرسمي، والغرض منها دعم الطلاب في رحلتهم التعليمية فقط. بعد اندلاع الحرب، طوَّرت المنظّمة هذه المنصّة، لتُتاح لجميع الأطفال القادرين على الوصول إلى هاتف ذكي، أو لوح كمبيوتري، أو كمبيوتر. ويمكن الوصول عبرها إلى المناهج القومية السودانية باتبّاع خطوات بسيطة مثل مسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code)، أو نقر الرابط المتاح على الصفحة.
مُستلهمين تجربة مبادرة «جواز السفر التعليمي»، يروي وائل كيف بدأوا حملة إعلانية في أماكن تجمّع الناس في العيادة والمطابخ المركزية وآبار المياه، لكنهم وجدوا أنفسهم إزاء تحدٍّ كبير: لا بدّ من تدبير مواقع آمنة لفصول الدراسة في ظلّ القصف المستمر. شُكِّلت لجان، إحداها للمناهج وأخرى لاختيار الموقع وتجهيزه. وسَمَح بعض السكّان الذين غادروا المنطقة بأن تستضيف منازلهم فصول الدراسة. هكذا، جهّزوا مركزاً للمرحلة المتوسّطة وآخر للأساس.
ومع بداية تدشين المشروع، أطلقوا حملةً لتسجيل الطلّاب تهدف إلى جمع بياناتهم لتسجيلهم في المنصّة، وإلى جمع الكتب المدرسية. نجحت الحملة في حصر الطلاب، لكنها فشلت في توفير الأجهزة، لأن كثيراً من الأسر لا تمتلك أجهزة ذكية، ما دعاهم إلى تشكيل لجنة اتصال للتواصل مع المدارس الخاصة في الحي، وتجاوبت مدرستان بمنح جميع مقتنياتهما من دفاتر وكتب ووسائل تعليمية وطابعات؛ فتحوّلوا إلى نمط التعليم التقليدي بالكتاب والسبّورة، وذلك بعد طباعة الكتب والامتحانات. ومن ثمّ شكّلوا لجنة لإدخال بيانات الطلاب في المنصّة بعد جلوسهم لامتحانات ورقية، ليُعلنوا لاحقاً عن بداية التسجيل للعام الدراسي الثاني بحلول نهاية عام 2024.
اختِيرت مدينتا شندي وأم درمان مركزين للطلاب الممتحنين في الشهادة السودانية، بعد جمع تكاليف الترحيل عبر التبرّعات. وقد تعرّض بعض الطلاب للضرب والنهب أثناء خروجهم، ومع ذلك نجحت المبادرة في إجلاء جميع الطلاب ومتابعة أوضاعهم.
كان مركز بُرّي أبو حشيش أوّل مركز تعليمي افتُتح في ديسمبر 2023، تبعه مركزَا بُرّي ناصر ثم بُرّي الدّرايسَة. لقيت المراكز إقبالاً كبيراً وإشادة واسعة، رغم الظروف الصعبة والقصف الذي أجبر أولياء الأمور على اصطحاب أبنائهم إليها. انقطعت شبكة الإنترنت في نهاية فبراير 2024، ما هدَّد مشروع الدراسة القائم على منصة اليونيسف، ومع ذلك لم ييأسوا وتمكّنوا من وضع امتحانات بديلة. وعند ظهور خدمة «ستارلينك»، كان المعلّمون يُعرِّضون حياتهم للخطر للوصول إلى أماكن الاتصال والكهرباء. كان الجنود يرتابون من الأجهزة مثل اللابتوب والجهاز اللوحي وغيرها من الأجهزة الرقمية ويعدّونها أجهزة استخباراتية، ورغم ذلك، خاطر المعلّمون. وبفضل التبرّعات، تمكّنوا من توفير تكلفة الخدمة وطباعة الامتحانات.
وسط هذه التحديات، يروي وائل كيف كانت رسائل الطلاب الإيجابية في كراساتهم أكبر حافز لهم لإكمال العام الدراسي. وفي نهاية يونيو 2024، جلس جميع الطلاب لامتحانات الفترة للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة ومنحوا شهادة النقل من قبل اليونسيف. هكذا، بدموع الطلاب والمعلّمين وفرحة الداعمين، يتذكّر وائل متأثراً: «أكملوا عاماً دراسياً كاملاً، بينما يجلس خلال هذه الأيام طلاب شهادة المرحلة المتوسطة للامتحانات».
3
«لم تكن الحرب رحيمة بأهل بُرّي»، يُعلّق وائل عائداً بذاكرته إلى تلك الأيام الأخيرة، قبل الانسحاب المرتقب لقوات الدعم السريع من بُرّي، إذ واجه السكّان صنوفاً من الترويع والتنكيل والموت. يقول بأسىَ: «على نحو شبه يوميّ، كان أفراد الدعم السريع يوقفوننا صّفاً، ويهدّدون بإطلاق النار على أرجلنا لإجبارنا على تسليم ما نملك من مواد غذائية وأموال، وغالباً لم نكن نملك شيئاً. وكانوا يقتحمون المنازل بحثاً عن المقتنيات، ومن ثمّ يجلسون أمامنا وهم يضحكون فرحين بما نهبوا. في تلك الأيام، لم يكن الناس يستطيعون الخروج من منازلهم. حتى لو خرجتَ لشراء بصلة أو لأخذها من الجيران، كنتَ تتعرّض للتعذيب أو القتل ليأخذوها منك».
وبعد اشتداد المعارك والقصف المدفعي المُتبادل بين قوات الدعم السريع المُسيطِرة على المنطقة وقوات الجيش المُرتكزة بالقرب من حلة كوكو وشرق النيل، اضطرّ كثير من السكّان للخروج من مربع 4 ومربع 2 شرق المنطقة إلى المربعات الأخرى التي تقع غرباً، ومع ذلك لم يَسْلموا من براثن القتال، فقد كان القصف كثيفاً، ويتجاوز الخمسين دانة في اليوم الواحد. وشهدت على إثره أحياء بُرّي ناصر وبُرّي اللاماب أبشع أنواع الانتهاكات، لا سيما مربع 5 ومربع 1.
وبعد تقدّم الجيش في شرق النيل وكافوري، غيّرت مجموعات الدعم السريع التي كانت موجودة في المنطقة مواقعها، فانسحبت القوات التي كانت موجودة في برّي إلى جنوب العاصمة الخرطوم، وانسحبت القوات التي كانت في كافوري وشرق النيل جنوباً عبر جسر المنشية، بينما انسحبت القوات التي كانت في الأبراج وبرّي جنوباً بكامل أسلحتها ومركباتها.
في بداية الحرب، كانت قوات الدعم السريع المتمركزة في حي بُرّي تحت سيطرة القادة الموجودين في الڤلل الرئاسية، يتذكّر وائل، ويروي كيف أن القوات القديمة قد دلّت من جاءوا بعدها على البيوت التي يسكنها الناس ولم يغادروها منذ بداية الحرب، على أساس أنّها تحوي مواد غذائية وممتلكات.
ويختم وائل حكايته لـ «أتَـر» بمشاهد من حال جنود الدعم السريع في تلك الأيام الأخيرة قبل انسحاب قواتهم، قائلاً: «لقد بلغ تفلّتهم حدَّاً لا يُطاق، مدفوعين بالجوع الشديد. أيّ مواد غذائية أو حتى ما له صلة بالطعام، كان يعني خطراً داهماً على حياة الفرد هناك، ربما أكثر من حمله لأي شيءٍ ثمينٍ آخر. فكل قطعة خبز أو حفنة أرز كانت تعني حياةً أو موتاً للناس المُحاصَرين هناك».