
في أعقاب فرار الدعم السريع واستعادة الجيش الخرطوم، توقَّع السكّان الذين فرّوا من انتهاكات الطرفَيْن المتقاتلَيْن، أنّ يجدوا عند عودتهم إلى منازلهم في الخرطوم شيئاً من الراحة بعد ملاحم النزوح واللجوء القاسية التي خاضوها خلال السنتين الماضيتين. ولعلّ الذين استعجلوا العودة قد نجحوا في التغافل عن ما طال البنية التحتية من دمار، وعن ما تعرّضت له منازلهم وممتلكاتهم من نهب وتخريب، وعن ما تئنّ تحته المدينة الجريحة من هشاشةٍ في الحالة الأمنية، لكنْ ما العمل إزاء الانقطاع التامّ لمياه الشرب في جميع أنحاء ولاية الخرطوم؟
وفقاً للمعلومات التي حصل عليها مراسل «أتَـر»، فإنّ إمداد المياه منقطع عن بعض أحياء الخرطوم لأكثر من سنتين. يقول المبارك إبراهيم، وهو من حي الوادي الأخضر بمحلية شرق النيل، إنهم ظلّوا يعتمدون على جلب مياه الشرب بالتناكر من آبار المناطق المجاورة منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل 2023.
وتابع في حديثه لـ «أتَـر»: «وصل سعر الجركانتين من مياه الشرب (حوالي 30 لتراً) ستة آلاف جنيه، وما زلنا نُعاني، على الرغم من انخفاض سعرهما حالياً إلى ثلاثة آلاف جنيه».
أما زهرة آدم، التي كانت تقيم في حي الأزهري جنوب الخرطوم، وعادت من رحلة نزوح تنقّلت فيها بين ود مدني قبل اجتياحها من قِبل الدعم السريع، وسنجة وكسلا، ومن ثمَّ عادت إلى منزلها بعد سيطرة الجيش على أجزاء واسعة من ولاية الخرطوم؛ فتقول لـ «أتَـر» إنها قد عانت من مشكلة توفير المياه للأغراض اليومية، وتضيف: «لم أُصدِّق أنّ المياه معدومة تماماً في الحي، بسبب توقّفها من شبكة مياه ولاية الخرطوم مع استمرار انقطاع الكهرباء كلياً».
وبحسب معلومات دقيقة حصلت عليها «أتَـر»، فإنّ عدد محطات المياه الرئيسة في الخرطوم يبلغ 13 محطة مياه، تعرضت 12 محطة منها للتدمير، عدا واحدة هي محطة المنارة في محلية كرري
ويبلغ سعر برميل المياه في حي الأزهري خمسة آلاف جنيه، وتُجلَب من مناطق بعيدة، ولا أحد يستطيع التحقّق من صلاحيتها للشرب، لكنْ يضطرّ الناس إلى شربها، كما تقول سلوى التي تسكن قريباً من منزل زهرة بالأزهري لـ «أتَـر».
وبدَوره، كان إبراهيم حسين من أوائل الذين استجابوا لمناشدة العودة إلى الخرطوم من مصر في نهاية أبريل الماضي. لقد حزَم أغراضَه القليلة عائداً على وجه السرعة إلى منزله بحي الصحافة العريق جنوب الخرطوم، مُتوقّعاً أن يكون هناك قدْرٌ من الصدق في الروايات عن عودة الحياة إلى طبيعتها في المدينة. ولم يتوقّع أن يكون الواقع الحقيقي على الأرض، في الحي الذي يسكن فيه، مختلفاً كثيراً عما جرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي خُطب المشرفين على تنظيم أفواج العائدين من منافي النزوح واللجوء.
يقول إبراهيم لـ «أتَـر» إنه جمَع أفراد أسرته وأخبرهم بأنهم سيعودون إلى الخرطوم بعد استعادة الجيش السيطرة عليها، ومن ثم يضيف: «ولأننا عانينا أشدّ العناء، وما عدنا نملك أيَّ مصدر دخل يُعنينا على الاستمرار في رحلة اللجوء، وافق أفراد العائلة على العودة بأسرع وسيلة إلى بيتنا».
ظنّ إبراهيم وأسرته أنّ الخدمات الضرورية متوفّرة، ولو بالحدّ الأدنى، لكنْ أن تكون نادرةً إلى حدِّ أن تدخل مياه الشرب ضمن السلع باهظة الأثمان، وأن يحتاج الحصول عليها إلى جهد وأموال، فهذا ما لم يخطر على بالهم البتّة.

وبحسب معلومات دقيقة حصلت عليها «أتَـر»، فإنّ عدد محطات المياه الرئيسة في الخرطوم يبلغ 13 محطة مياه، من بينها: المقرن، وبرّي، وبحري، وشمال بحري (التمانينات)، والمنارة، وبيت المال، والصالحة، والشجرة، وجبل أولياء، ومحطة المنطقة الصناعية بحري، وأبو سِعِدْ، والقماير، والسلام 52 بدار السلام بأمبدّة.
متحدّثاً لـ «أتَـر»، يقول المهندس هشام الأمير، مدير عام هيئة مياه الشرب والصرف الصحي بوزارة الري والموارد المائية بالسودان، إنّ 12 من المحطات تعرّضت للتدمير، ونَجَت بأقل الخسائر محطة واحدة في محلية كرري بأم درمان الخاضعة لسيطرة الجيش، وهي محطة المنارة التي تغطي احتياج محلية كرري وأجزاء من أم درمان القديمة وأمبدّة الواقعة غرب العاصمة.
ويُفصّل هشام لـ «أتَـر» قائلاً إنّ محطة بحري التي تقع شمال الخرطوم تُعدّ أهمّ محطات مياه الشرب التي دُمِّرت من قِبل الدعم السريع، وتُنتج 320 ألف متر مكعّب يومياً، وتُغذّي مناطق واسعة من محلية بحري والخرطوم، بما فيها أحياء الصحافة جنوب الخرطوم.
وقال إنّ «الدعم السريع سهَّلَت على اللصوص سرقة المحوّلات وكوابل التوصيل والمعدّات الأخرى، وتكفّلت هي بتدمير المباني التي طرحتها على الأرض في عملية خراب مُمنهج للبنية التحتية لمحطات المياه».
وبجانب المحطات الرئيسة يقول هشام، إنّ 1250 بئراً تتوزّع في الأحياء المختلفة داخل الخرطوم عُطِّلت أثناء سيطرة الدعم السريع على المدينة، وسُرقت الوابورات وكوابل التوصيل. وتحتاج محطّات المياه إلى وابورات ضخمة لتشغيلها لأنها تعمل بالطاقة الكهربائية، وليس من الممكن تشغيلها بمولّدات صغيرة تعمل بالديزل، وإذا لم تتوفر الكهرباء ستستمرّ معاناة الناس مع العطش لوقت أطوَل.
ويعتمد سكان أحياء عريقة بالخرطوم حالياً على جلب المياه من مناطق بعيدة عبر عربات بدائية تجرّها الدوابّ. ويُنفق أصحاب هذه العربات البدائية أوقاتاً طويلة في طوابير ممتدّة لجلب المياه من الآبار التي تعمل بالطاقة الشمسية وعددها قليل للغاية.
كانت نسبة توفُّر مياه الشرب النقيّة في السودان قبل الحرب تبلغ حوالي 67%، وقد تراجعت حالياً إلى ما بين 25 و30% فقط، وتختلف نسبتها من ولاية إلى أخرى. وفي ولاية الخرطوم حالياً، لا تتجاوز نسبة توفر مياه الشرب 30%، وفقاً لتقديرات هشام، الذي لا يتوقّع أن يستردّ قطاع المياه قدرته على سدّ هذه الفجوة، بسبب عدم استقرار الكهرباء في السودان، والتي تُستخدم لإنتاج وضخّ مياه الشرب. يقول هشام: «لذلك لجأنا إلى الطاقة الشمسية التي تَصلح فقط لتشغيل الآبار، لأنّ المحطات الرئيسة لا تعمل إلا بالطاقة الكهربائية، ولذلك قد يعاني الناس لبعض الوقت من انعدام مياه الشرب». وأضاف هشام أنّ وزارة الري والموارد المائية تُركّز حالياً على تشغيل الآبار في الأحياء، وتسعى إلى تزويدها بمحطّات طاقة شمسية، بسبب العجز الكبير في الكهرباء.

مخازن خراطيش بمحطة هئية مياه الشرب بالمجاهدين
متحدّثاً لـ «أتَـر»، يصف وزير الري والموارد المائية بالسودان ضو البيت عبد الرحمن، ما تعرّضت له مصادر المياه في الخرطوم بالعمل الإجرامي الممنهج، وقال إنّ أفراد الدعم السريع تعمّدوا تدمير محطات المياه الرئيسة والمعامل والخطوط الناقلة حتى تكون إعادة تأهيل وترميم قطاع المياه مكلفة للغاية للدولة.
بينما كشفت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة «يونيسف»، عن تضرّر 70% من مرافق المياه في 13 ولاية من أصل 18 ولاية في السودان، جراء تدمير البنية التحتية؛ وقالت في بيان سابق، إنّ النزاع دمّر البنية التحتية للمياه، ما أثّر على عمل مرافق المياه بنسبة 70% بسبب الأضرار الجزئية أو الكاملة.
ولم يتوقّف تدمير محطات المياه والخطّ الناقل لها، إذ تعرّضت مخازن هيئة المياه الاتحادية بالخرطوم لعمليات سرقات واسعة. يقول هشام الأمير إنّ الهيئة فقدت من مخازنها في محطة الكيلو 10 بالمجاهدين أكثر من 800 طلمبة غاطسة لتشغيل الآبار وآلاف وحدات الطاقة الشمسية، ومواسير توصيل ومئات المركبات الصغيرة والآليات الجرّارة التي كانت تُستخدم في نقل معدّات المياه.
ولِحلّ ضائقة العطش بالخرطوم، لجأ بعض سكّان الولاية إلى حفر آبار في الأحياء دون اتباع الإجراءات الفنية. ويصف هشام الأمر بالخطير، قائلاً إنّ بعض السكّان والخيّرين لجأوا إلى حفر آبار لمساعدة الناس على تجاوز محنة العطش، ورغم أنّ الأمر يبدو في ظاهره جيداً لكونه يقلّل من معاناة الناس، بَيْد أنّ الجانب الآخر منه محفوف بالمخاطر، لأنّ الآبار التي يحفرها الأفراد لا تصل إلى العمق المناسب، وكثيرٌ منها يتوقّف في الطبقات العليا للأرض، التي يمكن أن تختلط مياهها بالصرف الصحّي والمعادن الأخرى غير الصالحة للاستخدام الآدمي. ولفت هشام إلى ضرورة ترتيب أمر حفر الآبار ومتابعته فنياً في ظل انتشار الأمراض الحالية في الخرطوم، والتي لا يُستبعَد أن يكون لها علاقة بمثل هذه المياه التي تأتي من مصادر لم يَجرِ التدقيق فيها.
ويقول مدير وزارة الإعلام بولاية الخرطوم الطيب سعد الدين، لـ «أتَـر»، إنّ حكومة ولاية الخرطوم تبذل جهودها لاستعادة الخدمات ومعالجة المشكلات التي خلّفها تخريب المرافق الخدمية وخاصة محطات مياه الشرب، إذ شرعت الولاية في صيانة محطة مياه التمانينات شمال بحري، والتي تُوفّر إمدادات المياه لمناطق شمال بحري من الكدَرو جنوباً وحتى قَرّي شمالاً. وبحسب الطيب، فإنّ المحطة توقّفت بسبب عطل في مولد الطلمبات الساحبة للمياه من النيل للمحطة، إضافة إلى محطة الرفع المغذّية لقرى شمال بحري حتى منطقة قرّي وإنّ معالجات فورية تجري حالياً لحلّ أزمة المياه بالمنطقة.