أتر

نوتة من علم الكونكا (11)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.

خَلُص المرحومان ماركس وإنجلز، من لقائهما والبروليتاريا الرثّة في القرن التاسع عشر، إلى أنّها «كَرُور» من الطبقات الأخرى، عُنْفُها بالرّشوة، وثوريّتُها ملتبسة، والأغلب مُضادّة، وربما اندرَجت، متى تيَسَّر الحَوْل والقوّة للبروليتاريا سِتّ الاسم، في الصفّ الثوريّ بالبرَكة وتطهَّرَت. هذا، وقد احتفظ المرحوم ماركس، مَلِك الديالكتيك، بإعجابٍ ببطولةِ صِبيَان البروليتاريا الرثّة في ساعة «الحُوبَة» وحماسهم للمواجهة، وإن انقلَبَت بنادقهم تطلق رصاصَها على المساكين. لكنْ، لا يُغني القرنُ التاسع عشر عن القرن العشرين وما أعقبه. ولا يُغني تاريخ الثورة الأوروبية في 1848 عن تاريخ ثورات المُستعمَرات في الهامش الكوني، وخِلْقَتنا فيه. كما لا تُغني حكمةُ دارسٍ حكيمٍ للطبقات الاجتماعية؛ كما تشكّلَت في التكوينات الاجتماعية لغرب أوروبا مثل ملك الديالكتيك، عن تقصّي التكوينات الطبقيّة في تكويناتٍ اجتماعيّةٍ فلاحيّةٍ ومعيشيّةٍ اخترَقَها السوق الرأسماليّ برماحٍ إمبرياليّة. ونشأت بهذا الاختراق جُزر حضريّة من «رَحِم» مزدوجة، استعماريّة وأهليّة، يقوم عليها وَليّاً رأسُ المال التجاري، وليس الصناعيْ داك أبو مَداخن؛ جُزر حضريّة تكابد في جميع وجوه اجتماعها شقوقاً غائرةً، بين أفرنجي وبلَدي، متى بَرئَت خلَّفت ندوباً قبيحةً لا تنفكُّ تُذكِّر صاحبتَها بالليلة ديك.

تَخصَّص في هذه الندوب الاستعماريّة الدكتور فرانز فانون (1925-1961)، الطبيب النفسيّ قصير العمر، والمُهاجرْ «من منفى لي منفى»، والثائر في صفّ «جبهة التحرير الجزائريّة» في السَّرّاء والضَّرّاء. لم يفارق الدكتور فانون خطّ «الجبهة» قطّ، حتى أنه أجلَى القلم سنينَ يتصدَّى لتأفُّف المثقّفين الفرنسيّين؛ أهل عشرته التقدّميّين من أعداء الاستعمار، من دمويّة الأعمال القتاليّة للجبهة وغلظتها على العدوّ، من موقعه في هيئة تحرير جريدة «المجاهد» الناطقة باسمها. والدكتور فانون، كاتب «المجاهد» مجاهدٌ، محرّضٌ، وليس فيلسوفاً نقديّاً تُلهِمه الوجوديّة والماركسيّة ولا حتى الأمميّة الأفريقيّة، فهو لا يتأمّل سرَّ الكون وتوازُن القوى، وإنما يجنّد الكلمة «قَنْقَر» لتعزيز وحدة الصّفّ وبثّ الرعب في الخصوم:

«تُنتقَد الجبهة لطابعها الأصمّ، لعنادها، ويُنتقَد الشعب الجزائري لأنه يقاتل من أجل رجل ميت. لكن، تتطلّب مواجهةُ الواقع كما هو، عارياً، تكتيكاتٍ أخرى. على السُّلطات الفرنسية أن تفهم مرّةً واحدةً وإلى الأبد ألا سبيلَ للتجافي عن الحقائق. ولن يُمثّل الهرَبُ إلى عالمٍ من الرغبات، ونوبات الغضب، حلاً للحرب الفرنسية-الجزائرية. نعم، الشعب الجزائري منذ ثلاثة أعوام كتلة صمّاء، وهذا لأنّ المسألة التي تواجهه بسيطة ظاهرة للعيان، وهي الاستقلال القوميّ عبر النضال المسلّح. ولقد تحدَّدَت أهدافُ هذا النضال وحدوده ووسائله وأدواته مرّةً واحدةً وكفى. أما ما يَظهر من أوهام الانشقاقات الممكنة، فإنه يكشف فقط عن غياب أيّ حسّ نقديّ؛ لأنّ الحقيقة ببساطة لا تتلوّى لتُماثِل هذه التصوُّرات أو هذه الرغبات. لا تدفع جبهة التحرير مطالب ساعات عمل أو ظروف عمل أو أجوراً أفضل، وليست المساومة من قاموسها، فهي مستحيلة. لا تُمثّل اللجنة القومية للثورة الجزائرية مجموعةً من المصالح، لا، هي هيئة الأركان العسكرية والسياسية لأمّةٍ تقاتل من أجل استقلالها. والسُّلطات الفرنسية اليوم، إذ تعجز عن إدراك الواقع، ولا تريد أو لا تستطيع الاعتراف بالإرادة القومية الجزائرية أو الخلوص إلى الاستنتاجات الحتمية والمنطقية بهذا الشأن، إنما تَخضَع للهوى والتنبؤات» (فرانز فانون، «إحباطات وأوهام الاستعمار الفرنسي»، جريدة المجاهد، نمرة 10، سبتمبر 1957، ضمن «نحو الثورة الإفريقية»، دار نشر غروف، نيويورك، 1994، ص 62-63).

ويَدخُل مثلُ هذا الإصرار، على خوض مواجهةٍ «مانويّةٍ» بين الاستعمار وجبهةٍ قتاليّةٍ للتحرُّر الوطنيّ، لا تتقاطع حدودُها سوى بالحديد والنار، ولا تتوسّطها «المساومة» بأيّ صورةٍ كانت، في باب «الوضوح الجمالي». وهو نازعٌ ذاتيٌّ، يَختار به مِثلُ مقاتلِ جبهة التحرير الجزائرية بين هنا وهنالك، يا غَرَق يا جِيتْ حازمها، فإنه يقاتل من أجل «الجزائر»، من أجل موجدة «الحبّ» إذا جاز التعبير، لا الأجور ولا الرفاه، ولا الموارد، ولا حتى التقدّم. فتخلُّف الجزائر الخاضعة للاستعمار يستحقّ القتال؛ لأنه من هنا وليس من زحل. والحقيقة التي يقول بها الدكتور فانون ليست حقيقةً «عيانيّةً» تَكْشِف للباحثة عنها في جداولَ للمقارنة فضائلَ الاستعمار ومثالبه في مقابل فضائل جبهة التحرير ومثالبها، أو علاقات القوى المحيطة بفرنسا وجبهة التحرير، أو رهانات الفوز والخسارة، أو ميزان التسليح والاستعداد القتالي، أو ميزانيات الحرب ومالها، أو الموارد المتاحة لهذا الطرف وذاك، أو الاعتراف الذي يناله هذا الطرف وذاك في ميدان الدبلوماسية، أو حتى حساب الضحايا والخراب. إنما هي حقيقة «جمالية»، كاعتزاز النملة بثقب الأرض، في التصوير الشعري الشهير للمرحوم مظفر النواب.

أخذ نقّاد الدكتور فانون من موقع يساريّ عليه هذه «الجمالية»، فكتابه الشهير «معذّبو الأرض» (1961) مانفستو «حقدٍ ملتهبٍ وعنيفٍ على القهر الاستعماري والعنصري، ولا تقرأ القارئةُ صفحةً واحدةً لفانون إلا أدركت عمق مشاعره، فهو يهاجم بغير هوادة كلَّ مَن يظنّ أنه يعترض طريق تحرير الملايين المقهورين في أفريقيا، ويكتب بأعصاب عارية صوراً بليغة. وأشكُّ أنّ كاتباً غيره قد بلَغ هذا المبلغ في تصوير مشاعر المقهورين في مقابل قاهرهم البغيض بفصاحةٍ والتهابِ شعور. وكلّ كلمةٍ مُسنَّنة في وجه المستوطنين في الجزائر هي كذلك رمحٌ مُسدّدٌ نحو فورستر [رئيس وزراء جنوب أفريقيا الاستيطانية من 1966 حتى 1978] وسميث [رئيس وزراء روديسيا الاستيطانية من 1964 حتى 1979]، واتّهامٌ للحكومات الإمبريالية التي تحافظ على سلطانهما. لكنْ، يلتقط المرءُ أحياناً نغمةً كَذُوباً في إدانته؛ نغمةُ مبالغةٍ وتهويلٍ، وخلاصةً عمياء سرعان ما يُناقضُها حُكمٌ رنّانٌ آخر» (جاك ووديس، «نظرّيات جديدة للثّورة: تعليقات على آراء فرانز فانون، ريجيس دُبريي وهربرت ماركوز»، الناشرون الدوليون، نيويورك، 1972، ص 25-26).

اختار ووديس، لعَرْض مأخذه الأساس على فانون، فقرتين مُوحيتين من كتاب «معذّبو الأرض» يطرح فيهما الدكتور فانون مقارنةً مانويّةً صمّاء بين «الاستعماري» و«الأهلي»، «الأفرنجي» و«البلدَي»، «مَلِي بطني» و«وطني» في صورةٍ شعريةٍ أو تكاد: إنّ مدينة المستوطنين مدينة راسخة، بُنيَت كلها بالحجر والصّلب. إنها مدينة مشرقة مضيئة، شوارعها أسفلت، تبتلع فيها سلالُ المهمَلات كلّ المخلّفات، مخلّفات لا يراها أحد ولا يعرفها ولا تمرّ بخاطر. وأقدام المستوطنين مستورة أبداً سوى ربما في البحر، وحتى في البحر لا تقترب بما يكفي لتراها. تحمي قدمَي المستوطن أحذية قويّة، رغم أنّ شوارع مدينته نظيفة معبّدة، لا حُفَر فيها ولا حجارة. مدينة المستوطنين حسنة التغذية، هنيئة، وبطن المستوطن على الدوام معبّأة بما لذّ وطاب. مدينة المستوطنين مدينةٌ للبِيض، مدينة للأجانب. أما مدينة المستعمَرين، مدينة الأهالي، القرية الزنجيّة، «المدينة»، المحميّة فهي مكان مشبوه، يسكنه أناسٌ سيّئو السّمعة. وُلدوا هناك، ولا يهمّ أين أو كيف، ويموتون هناك، ولا يهمّ كذلك أين أو كيف. مدينة المستعمَرين عالمٌ لا مهلة فيه، يعيش فيها الناس فوق بعضهم البعض، وتقوم عشَشُهم فوق بعضها البعض. مدينة الأهالي سكنٌ للجوع، تتضوَّر لرغيف الخبز واللّحم والأحذية والفحم والضّوء حتى. مدينة الأهالي قريةٌ ذَلُول، مدينة جاثية على ركبتيها، تتمرّغ في الوحل» (فرانز فانون، «معذبو الأرض»، دار نشر غروف، نيويورك، 1963، ص 39). 

تعييبُ ووديس لصورة الدكتور فانون الشعرية؛ أنها تُخفي ما تشرح، تُخفي البناء الباطنيّ للكتلتين المتقابلتين، ويَصمُت طائرُها عمّا بين الكتلتين من أمشاج، من «ديالكتيك». فلا المستعمَرون راكعون خانعون ذَلُولون للرّكوب، خلا شيعة الاستعمار ودَلاقِينه الذين يعرفهم الدكتور فانون جيداً، ولا المستعمِرون جماعةٌ على قلب رجل واحد «ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات الله آناءَ الليل وهم يسجدون». فما الأَوْلى بالاعتبار؟ لحكمةٍ ما، زار المرحوم ماركس الجزائر يطلب الاستشفاءَ بشمسها من الرّبو والتهاب المفاصل ومتاعب أخرى في أول العام 1882 وقد اقترب الأجَل، فخانته الشّمس، لكنْ عاد منها بصورةٍ شعريّةٍ غير بعيدة عن صورة فانون، قد تقترب بالقارئة من كادر القتال بعزَّةٍ أهلية؛ بطل فانون والصّبيّ الأرعن الذي مرّ به المرحوم ماركس في كُونِكا باريس منتصف القرن التاسع عشر.

يُتبع

Scroll to Top