أتر

طرابلس والخرطوم: مليشيات وخرائط متشابكة

في طرابلس كما في الخرطوم، تتكرّر الظاهرة: سُلطة متنازَعة بين قوات الدولة الرسمية والمليشيات، عنفٌ منفلتٌ وتهديدٌ مستمرٌّ بانفجارات أمنية كلَّما اقترَبَتْ الدولة من استعادة سلطتها المركزية وقدرتها على احتكار العنف. لكن إن كانت ليبيا قد سبقت السودان في الانفجار، فإنّ السودان يسبقها اليوم في حجم الدمار والكارثة الإنسانية. كلا البلدين يقفان أمام سؤال واحد: من يحكم؟ الدولة أم شبكات العنف والمليشيات الخارجة عن جهاز الدولة وشرعيتها؟ والأهمّ: من يملك القرار الفعليّ؟ وهل ما زالت هناك نافذة لسلام حقيقي، أم أن المصالح العابرة للحدود باتت أكبر من قدرة العواصم على استعادتها؟

بدءاً من يوم 6 مايو الجاري، شهدت ليبيا تصعيداً دموياً جديداً في صراع النفوذ بين المليشيات المسلحة غرب البلاد، وأبرزها اللواء 111 واللواء444 التابعَان لوزارة الدفاع في حكومة الدبيبة المؤقتة التي تسيطر على الجزء الغربي من ليبيا، وجهاز دعم الاستقرار وجهاز الردع التابعن للمجلس الرئاسي، ما أفضى إلى مقتل العشرات من المدنيين والعسكريين تضاربت الأنباء بشأن عددهم في غياب أي إحصائية رسمية.

يأتي هذا التصعيد في ظلّ تجدّد الخلافات بين المليشيات المُتمركِزَة في مدينتَي طرابلس والزاوية شمال غرب ليبيا، ما يَعكس هشاشة الترتيبات الأمنية وغياب مظلّة سياسية جامعة، على الرغم من أنها تتبع لأجهزة أمنية وعسكرية رسمية في حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة التي يَرأسها عبد الحميد الدبيبة. وتعود جذور هذا النزاع إلى انقسامات أعمق نشأت منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، حين تحوّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة لتصارع المليشيات والتنازع حول الشرعية في الحُكم والقيادة.

غير أن الأحداث الأخيرة اكتسبت زخماً خاصاً بعد مصرع قائد «جهاز دعم الاستقرار» وأحد أكثر الشخصيات نفوذاً في المشهد الأمني الليبي، عبد الغني الكَكلي، المعروف بلقب «غنيوة»، في 12 مايو الجاري، على يد جنود اللواء 444.

جهاز دعم الاستقرار: أنشأه المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بقرار رقم 38 لسنة 2021، وكُلف عبد الغني الكَكلي برئاسته. ونصّ قرار إنشائه بأن «يكون المقر الرئيسي للجهاز بمدينة طرابلس، مع جواز إنشاء فروع أو مكاتب له بالمدن أو المناطق الأخرى».

جهاز الردع: يتبع للمجلس الرئاسي لحكومة الوحدة الوطنية، يقوده عبد الرؤوف كاره، متخصص في مكافحة الإرهاب، مقره معيتيقة.

قوة 444: تتبع لوزارة الدفاع بحكومة الوحدة، يقودها محمود حمزة، وتعمل في جنوب طرابلس وضواحيها لمكافحة الجريمة والتهريب.

اللواء 111: قوة تابعة لوزارة الدفاع، تُستخدم لفض الاشتباكات وفرض الأمن داخل طرابلس.

وتسيطر حكومة الدبيبة على الجزء الغربي من ليبيا، موقع الأحداث، متخذة من طرابلس عاصمة، بينما يسيطر الجيش الليبي الوطني على الجزء الشرقي منها في بنغازي بقيادة اللواء خليفة حفتر منذ 2014.

غنيوة: الجنرال الأسود

لم يتدرّج الرجل عبر المؤسسات العسكرية الرسمية، لكنه أنشأ تحالفات أكسبته ولاءً كبيراً داخل أجهزة أمنية لا تؤمن بالدولة بقدر ما تؤمن بالقوة، وامتلك أدوات النفوذ عبر المال والسلاح، وقاد «جهاز دعم الاستقرار» ليس بوصفه موظف دولة، إنما مالك شخصي له

لم يكن الكَكلي اسماً مألوفاً لعامة الليبيين في بداياته. وُلد في بنغازي شرق ليبيا، وعمل في مخبز عائلته، ثم انخرط في عالم السياسة والسلاح أثناء الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي في العام 2011. لم يكن لقب «الجنرال الأسود» الذي أطلق عليه إبان رحلة صعوده زينةً إعلامية، إنما كان انعكاساً لصورة كاملة: زيّه العسكري الداكن، وجنوده المنتشرون بلباس موحّد في شوارع العاصمة، فضلاً عن قبضته الحديدية التي خلقت ظاهرةً أمنيةً صعدت من قلب الفوضى، وتربّعت على مفاصل القرار في طرابلس، دون أن تحظى بشرعية رسمية أو صفة سياسية مُعلنة. وعلى الرغم من أنه قلّما ظهر على الشاشات، إلا أنّ اسمه كان حاضراً بقوة في غرف القرار وغرف الظل على السواء.

لم يتدرّج الرجل عبر المؤسسات العسكرية الرسمية، لكنه أنشأ تحالفات أكسبته ولاءً كبيراً داخل أجهزة أمنية لا تؤمن بالدولة بقدر ما تؤمن بالقوة، وامتلك أدوات النفوذ عبر المال والسلاح، وقاد «جهاز دعم الاستقرار» ليس بوصفه موظف دولة، إنما مالك شخصي له، يحكمه الولاء ويُموّله من مصادر ظلّت خارج السجلات الرسمية: تهريب وقود، تجارة سوداء، واقتصاد موازٍ تَشكّل على أنقاض الدولة. لهذه التشابهات بينه ومحمد حمدان دقلو، أُطلِق على «غنيوة» في أروقة طرابلس لقب «حميدتي الصغير». لكن هذه العناصر التي أكسبته السلطة والولاء، جعلت منه خصماً خطراً تتسابق القوى على استقطابه حيناً وتخشاه أحياناً. ويكشف مصرعه في اشتباك مع مليشيا كانت حليفة له بالأمس، عن هشاشة التحالفات وسرعة دوران عجلة النفوذ في ليبيا.

الدبيبة يحلّ المليشيات

في 13 مايو الجاري، بعد يوم واحد من مقتل عبد الغني الكَكلي، أصدر عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة قراراً بحلّ بعض المليشيات، ومنها «جهاز دعم الاستقرار» و «جهاز الردع»، ودمج أخرى داخل المؤسسة العسكرية. ولم يكن القرار وليد لحظة عابرة أو محض رد فعل أمني، إنما جاء في سياق ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، تطالب بضرورة إصلاح القطاع الأمني وتشترط ذلك لأي مسار سياسي مقبول. كذلك جاء القرار استجابةً لتململ شعبي متصاعد من الانفلات الأمني، والانتهاكات التي ارتكبتها مجموعات مسلحة خارج سيطرة الدولة، إضافة إلى رغبة الحكومة في تقليص عدد مراكز القوى الموازية في طرابلس تمهيداً للانتخابات المُؤجَّلة.

هكذا، في لحظة بدت ذروتها درامية، قرّر الدبيبة أن يخلع عباءة التوافقات الهشة، ويرتدي لباس الدولة، معلناً نهاية زمن المليشيات. لكنْ خلف الخطاب الرسمي، بدت العملية أشبه بجراحة سياسية خشنة، تهدف لإعادة توزيع مراكز النفوذ لا لتفكيكها. استخدم الرجل الجيش النظامي كأداة لضبط ميزان القوى، لا لمحاربة الفوضى، بل لترويض أمراء الحرب الذين صاروا عبئاً على تحالفاته الإقليمية ومشروعه للبقاء.

لكن الفراغ الذي خلّفه «غنيوة» لا يعني نهاية جهاز دعم الاستقرار، بقدر ما يعني تفكك تماسكه السابق، واندماج بعض مكوناته في أجهزة رسمية شكلية. لكن الصراع على من يخلفه، ومن يسيطر على إرثه الأمني والاقتصادي، قد يُشعل مواجهة جديدة بين أجنحة النظام نفسها، أو يفتح الباب لصعود «حميدتي صغير» آخر في طرابلس بعد مصرع الأول.

يبقى السؤال الأكبر: هل تقود تحركات الدبيبة إلى استعادة الدولة، أم إلى صراعات جديدة على من يملأ الفراغ؟ وهل تمضي ليبيا إلى مرحلة تسوية أم أنها تتهيأ لانفجار آخر؟ في ظلّ صمت الرعاة الإقليميين، وارتباك المجتمع الدولي، قد يكون مقتل «غنيوة» مجرد بداية.

الخيوط المتشابكة

في ليبيا كما في السودان، تطفو الدولة المركزية على بحر من السلاح والانقسامات، وتكافح للوصول سالمة إلى سواحل السياسة. وليست العلاقة بين مليشيات السودان وليبيا محض تشابه بنيوي، ولا تقتصر على ما بين «حميدتي» و«غنيوة» من تشابهات، بل إن كثيراً من المقاتلين السودانيين سبق أن قاتلوا على الأراضي الليبية، خاصة ضمن قوات الدعم السريع التي أرسلت عناصرها للقتال هناك ضمن صفقات مع أطراف ليبية متنازعة، فضلاً عن أن كثيراً من الأسلحة والأموال المُستخدمة اليوم في السودان، تمر ببعض دول الجوار من بينها ليبيا، أو بالتنسيق مع شبكات تهريب تنشط في الصحراء الكبرى.

أزمتان متداخلتان في جغرافيتين تفصل بينهما حدود واهية. في السودان وليبيا، يُعاد تعريف مفهوم الدولة، ليس باعتبارها مؤسّسات وسلطات دستورية، إنما هي تحالفاتٌ هشّةٌ بين سماسرة قوة، وشبكات تهريب، وولاءات عابرة للحدود. إن كانت الحرب في السودان قد كشفت عن الوجه القبيح لتفكّك السلطة المركزية، فإنّ ما يجري في طرابلس هو إعادة إنتاج ناعم للخراب، خراب منمّق بلغة العاصمة ومكياج السياسة.

كذلك تظهر تجربة طرابلس بوصفها مقدمة محتملة لما قد تؤول إليه الخرطوم: تمدّد المليشيات الموالية للجيش السوداني داخل مؤسسات الدولة، وتحوّلها إلى أطراف تفاوض وتوزيع سلطة. ومثلما سيطرت المليشيات الليبية على الوزارات والمطارات والميزانيات، تتجه المليشيات السودانية إلى السيطرة على ما تبقى من الدولة ومقدّراتها، إلا إذا حدث اختراق يمكّن الجيش السوداني من القبض على زمام الأمور، ومعالجة مسألة المليشيات، وتكوين جيش موّحد، على نحو يعصم السودان من تكرار سيناريو ليبيا.

في الحالتين الليبية والسودانية، لا يمكن فصل الصراع المحلي عن امتداداته الإقليمية. في ليبيا، مثّلت البلاد ساحة تنافس حاد بين قوى إقليمية كتركيا وقطر الداعمتين لحكومة طرابلس، في مقابل دعم مصر والإمارات وفرنسا للجنرال حفتر. هذا الانقسام الإقليمي غذّى الصراع ومنَع ولادة جيش موحّد، وعمّق من هيمنة المليشيات. أما في السودان، فقد اتخذ الصراع أبعاداً أشدّ تعقيداً، إذ دخلت أطراف مثل الإمارات وتشاد ومصر وإيران وأطراف غير رسمية من روسيا، في دوائر دعمٍ وتسليح مباشر وغير مباشر، زادت من اشتعال الحرب. وتحوّلت بعض المليشيات إلى أدوات نفوذ إقليمي، ولا تخضع لأي رقابة محلية أو أخلاقية، بل تتحرك ضمن شبكة مصالح كبرى تتقاطع فيها الجغرافيا بالثروات.

Scroll to Top