أتر

ذاتيات وثورات وفتوحات واكتشافات: من نقد الحداثة إلى نقد الحضارة

منذ كتاباته الباكرة عن مُنجز التشكيل، والتي توَّجَهَا بكتابه «الفنون التشكيلية وتحديات المجتمعات العربية»، الحائز على جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في دورتها التاسعة عام 2018؛ يُواصل الكاتبُ والباحثُ والناقدُ والفنَّانُ التشكيليُّ محمد عبد الرحمن حسن «بوب»، بهِمَّة ومُثابرةٍ وصمتٍ، تنضيدَ مشروعه التنويريّ والمعرفيّ، في النقد التشكيلي، فضلاً عن تركيزه بوجهٍ خاصٍّ على نقد مشروعات الحداثة في مراكزها المُختلفة وتجليّاتها في فضاءاتٍ مُختلفةٍ أيضاً. لقد أظهَرَ الكاتبُ اهتماماً بالغاً بمشروع المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، الذي هو في جوهره مشروع تنويريّ ومعرفيّ، حينما ترجم كتابه «فلسفة التنوير» (الخرطوم: 2009) ترجمةً أصيلةً بطعم ومذاقٍ سودانيَّيْن، مثلما هي سِمَةُ جميع كتاباته.

يعمل محمد عبد الرحمن حسن «بوب» مدرّساً للنقد والعلوم الإنسانية بكلية الفنون الجميلة والتصميم، جامعة النيلين، الخرطوم، وقد اتَّسَعَ ماعون النقد لديه، ليَشمل آفاق النقد الفكريّ، مُستدعياً أفقاً بينيّاً من مَظانِّ المعرفة الإنسانية والاجتماعية، للتوغّل في مُتون خطاب الحداثة وخطاب الفلسفة وفلسفة التاريخ، وصِلَتها العضوية بالراهن؛ وذلك في ورقته «فضّ تبعية المعرفة العربية المعاصرة» (2015)، إذ استبانت فيها أيضاً هُويَّة الكاتب: قارئٌ مثاليٌّ ذو أرقٍ مثاليّ، بعبارة جيمس جويس، وكاتبٌ ومُثقّفٌ ثوريّ ذو لغة تَنطلق من أحداث ووقائع ونصوص. بانت ملامح المشروع بكتابةٍ أُخرى كشَفَتْ عن هواجس الكتابة لدى بوب وهمومه المعرفية المُقيمة، هي «تعدّد الحداثات: صناعة تواريخ مجتمعات الشتات» (2018 – مجلة الحداثة).

هكذا، بعد أن علّق بوب في كتاباته الرائدة هذه على الخلخلة التي طالت البنية الاقتصادية للغرب، جاء كتابُه هذا الذي نعرضه هنا مشروعاً نقدياً مكتمل الأركان وملحمةً فكريةً  مُتفرّدةً في مشهد الكتابة الفكرية السودانية، بعنوان «من نقد الحداثة إلى نقد الحضارة» (الخرطوم: 2020، 2023)، ويتألّف من أربعة أجزاء، لحقت بها مقدّمة صدرت كتاباً منفرداً بعنوان «نقد فكر الجنوب (العالمي): مقدِّمة للانتقال من نقد الحداثة إلى نقد الحضارة» (الخرطوم: 2022).

جاء الجزء الأول من الرباعية بعنوان: «ذاتيات: فضّ نظرة الفلسفة الأوروبية للإنسان والمجتمع»؛ وأكّد في مقدّمته على «أنّ المُنطلَق الأساسي لهذا الكتاب هو قراءة الخطاب الفلسفي الأوروبي في سياق الشروط والانشغالات المُؤثِّرة على مُنتجيه، من جهة أنهم مقيَّدون بأوضاع مجتمعاتهم المحلية (…). إنني أسعى هنا لأن أقرأ الخطاب الأوروبي مُستنداً إلى الخبرة التي عاشتها المجتمعات التي أنتمي إليها، وهي مجتمعات النصف الجنوبي من الكوكب»، مُضيفاً أنه يسعى «إلى الاقتراب من العقل الفلسفي الأوروبي بأفق نقد تأويلي أو نقد نظام خطابه الفلسفي»، وذلك من لحظة ديكارت وحتى القرن العشرين. والشاهد في ذلك، هو قول المؤلّف إن كتاباته «تستهدف فضّ ارتباط المعرفة المعاصرة بمركزية الغرب». ربَّما تُلخِّص هذه العبارة رُباعية بوب، إن لم تكن هي فرضيّته الأساسية. وتحضر هنا كتابات المُحيط، إن صَحّ استخدامنا لاستعارة سمير أمين، من أفريقيا والهند واليابان وأمريكا اللاتينية، خاصةً ما أشار إليه بوب من كتابات المكسيكي إنريك دوسيل وكتاب سوزان باك موس «هيغل وهاييتي». وهؤلاء يُعَدُّون من رموز نقد خطاب الحداثة الفلسفي الأوروبي ومُفجّري سجالاته في محيط العالم.

وفي الجزء الثاني: «ثورات: فضّ الخطاب التاريخي الأوروبي»، تناوَل الكاتب كيف «صاغت مُخيِّلة علماء الاجتماع الغربيِّين صورةَ ثلاث ثورات هي: عصر النهضة والثورة الصناعية والثورة الفرنسية. لكنها لم تستهدف نقد مفهوم الثورة في ذاته». وفي خمسة أقسام، عكف الكاتب على رصد وتحليل الفلسفة الغربية المركزية من القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، من ديكارت وحتى سارتر، نابشاً في قعر ذاكرته وأساطيره المُكوِّنة كما رواها مؤرّخوها، فعدَّدَ الثورات الفرنسية، والصناعية، والعلمية وتلك الخاصة بالعقل، مُضيفاً إليها الثورات الدينية والجغرافية والتجارية؛ ثم مضى بالحفر في مولد فكرة الثورة وظهور مفهوم الحداثة في القرن التاسع عشر. عبر نصّ واحد متماسك، قادنا بوب إلى التنانين في عرائنها ليَخلُص إلى «أنّ قصص الثورات الأوروبية تقلب العلاقة بين ماضٍ وحاضر لأنها تُفسِّر تطوّرَها على أساس فكرتين: الأولى أنّ بعث تراثها القديم كان سبب بدء تطورها المعرفي والعلمي، والثانية أن هذا التطور سبق نموها الاقتصادي ومهّد لاستيلائها على النظام العالمي وغزوها للعالم».

أشرنا إلى هموم المؤلف وهواجسه المعرفية، أو قل ما حمله من «همّ الكتابة»، في حالة كونها «همّاً» برواية أنسي الحاج. وقد عنوَن بوب الجزء الثالث من مشروعه هذا «فتوحات، فضّ وهْم التفوق الأوروبي: غزو أميركا والجنوب والشرق». وكأنما تستعيد «فتوحات» هنا عبارة المنظّر البلغاري/ الفرنسي تزفيتان تودوروف «أين هي حدودك يا أوروبا؟» التي كتبها ردّاً على صلف الخطاب المركزي الغربي وغروره وأوهامه، بدرجات ابيِضاض مُختلفة، لتكشف عن عنصريتها البغيضة. وليس أدلّ على ذلك، مما قاله عرّابهم وأيقونة فلسفتهم، هيغل، من استبعاد الزنج والسودان من التاريخ الإنساني العام تجنباً لـ «البداية غير التاريخية لحركة الروح». كتب المؤلف في مقدمة هذا الجزء: «يُركِّز هذا الكتاب على الحدث الأكبر في تاريخ أوروبا، وهو غزوها لقارة أمريكا وسيطرتها عليها». ويضيف سلسلة عمليات الغزو التي قامت بها أوروبا تالياً في مناطق مختلفة من العالم و «صاغت تاريخها الاستعماري الذي رسم معالم العصر الحديث». يُركّز الكاتب هنا على سرديات الفتح، وكيف أنها كرّت إلى ذات أوروبية متضخمة، مُستخدمةً آليات السلطة وعلاقاتها وتمفصلاتها، مكُرَّسةً بوصفها ذاتاً استثنائيةً عملت على نسف الآخر وقذفت به خارج التاريخ الإنساني العام. تلك السرديات، هي التي راكمت معرفة سالبة بالذات والآخر في ذات الوقت، وأوهاماً استشراقية «orientalist fantasies» على قول إقبال أحمد، آلَت إلى غفلة الغرب عن معرفته بذاته وهويته، بل وجهله العميم بالآخر. هنا تتبادر رائعة المكسيكي أوكتافيو باث «متاهة العزلة»، حيث دهس منهجياً صلَفَ الآخر وزيفه.

أوجز الكاتب فصول هذا الكتاب بقوله: «أهمية دراسة فتح أمريكا [في كونها تُعدّ] الحدث المؤسِّس للمعرفة التاريخية الغربية الحديثة (…) هذه مَهمّة لا بدَّ أن تبدأ بمعرفة الكيفية التي صاغت بها خطاباتُ الغزو والفتح وعيَ تلك الأمم، وزوّدتها بتصورات زائفة عن نفسها وعن ماضيها أضفت شرعيةً على نزعات الهيمنة، وما زالت تُلهمها اليوم سلوكها التوسُّعي». لم يقتصر ذلك على غزو أمريكا وتكريسه لآفاق الإمبريالية العالمية، كما قال إعجاز أحمد، إنما شمل ذلك التاريخ المُخزي لأوروبا منذ لحظة دخولها الأندلس والمكسيك وحتى غزو محمد علي باشا السودان عشرينيات القرن التاسع عشر.

خَتَمَ بوب هذا الجزء بتأكيد أن «استجلاء المزيد من ارتباطات المعرفة الأوروبية بمعارف الشعوب الأخرى سيكشف عن تنوّع أكبر للمصادر التي نشأت فيها المعرفة الموصوفة بأنها حديثة، ويفتح الباب أمام مُستقبل للعالم يتأسّس على أخلاقيات التعايش والاعتراف بمكانة الجميع وتساويهم في الحقوق».

في الجزء الرابع «اكتشافات: فضّ خطاب النهضة و(اكتشاف) العالم»، التَقَط بوب لحظة عصر النهضة الأوروبية، باعتبارها لحظة ثورة، مثلما هي لحظة حداثة، لكنها في حسبانه ليست إلا «وهم الانبعاث الذاتي للحضارة الأوروبية». دشّن الكاتب في مقدّمته أن الكتاب «يَستهدف فهم التصور الأوروبي للتاريخ الحديث بالتركيز على قصة (عصر النهضة)، وذلك بتحليل خطابها ورصد مصادره التاريخية»، ويُقارنها «بالمعلومات المتوافرة اليوم حول أوضاع الأمم الأوروبية في الحقبة التي تُنسب إليها النهضة، خاصة من جهة علاقتها بحضارة شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط؛ أي الحضارة العربية الإسلامية». وكما في الأجزاء الأخرى، هنا أيضاً تحليل عميق للمُمارسة الفكرية وإنتاج المعرفة في هذا العصر، ومن ثم بتحليل، ربما أكثر عمقاً، وبتوغّل في المصادر والمنجز المعرفي للاكتشافات الجغرافية. وختَمَ المؤلف بتلقّي الأوربيين لحضارة شرق وجنوب المتوسط من النهضة وعصر التنوير، ودلالات ذلك خاصة بالنسبة لشعوب الجنوب، وبالضرورة «مطلب تحسين أوضاعها».

من الواضح أنّ الأفق البيني للعلوم الاجتماعية والإنسانية كان هو منهج الكاتب في القراءة والتحليل طوال أجزاء هذا السِّفر الموسوعي المُحيط، والذي هو لا شكّ مشروع نقدي ذو هويّة وملامح بائنة، تتقاطع داخلها حقولٌ معرفيةٌ عدّة في الفلسفة واللسانيات (تحليل خطاب) والأبستمولوجيا الاجتماعية المعاصرة. وتخترق خطاطاتِ المعرفة النقدية تلك، أصواتُ مُفكّرين من مركز هذا العالم ومحيطه، في أطر مفاهيمية وآفاق نظرية تتقاطَعُ بمُنتهى الجمال، مُبرزةً كشوفاتٍ وفتوحاتٍ باهرة، بكتابة سِمَتُها التماسُك الإبستمولوجي بوعي نقدي، كاشفةً ذات المكان – الجنوب الكوني – وذات الإنسان «الجنوبي» وشرايينه المفتوحة. كذلك أكّد هذا السِّفرُ على ما بين الكتابة والذاكرة من وشائج: تمنحُ الذاكرةُ الكتابةَ إرثَها الثقافيَّ العام، بينما تمنحُ الكتابةُ الذاكرةَ شكلَهَا ولونَها الوجوديَّيْن.

Scroll to Top