
خلال موسم الأمطار من العام الفائت (خريف 2024)، تفشّت الكوليرا، ضمن مجموعة أخرى من الأوبئة، في مناطق شرق البلاد «ولايتي كسلا والقضارف»، بفعل الأحوال المناخية والمعدلات الهائلة لهطول الأمطار وما ترتّب عليها من فيضانات دمّرت البنى التحتية والمرافق العامة وعلى رأسها دَورات المياه، ما أدّى إلى ممارسات صحية سالبة مثل قضاء الحاجة في العراء، فاختلطت مياه الشرب بالمياه الملوّثة ومياه الصرف الصحي. وقد تزامَن ذلك حينها مع وجود مئات الآلاف من النازحين في المعسكرات، الأمر الذي فاقم بدَوره من نسبة حدوث تلك الممارسات.
بَيد أنّ ما أصاب ولاية الخرطوم خلال شهر مايو الجاري من تفشٍّ مفاجئٍ وواسعٍ لوباء الكوليرا خلال موسم الجفاف (صيف 2025)، قد يبدو للوهلة الأولى مُربكاً، لا سيّما وأنّ الكوليرا قد ارتبطت في أذهان السودانيين بمواسم الفيضان. وحقيقة الأمر، أنّ البكتيريا المسبّبة للكوليرا، وتُسمَّى (ضمّة الكوليرا Vibrio cholerae)، تتّبع سلوكاً حيوياً لا يرتبط بأوقات الفيضان فحسب، بل إنّ أفضل مواسمها ازدهاراً يكون خلال فصل الصيف. تعيش بكتيريا الكوليرا في الأوساط المائية المختلفة بما فيها الأنهار، وتمتاز بأنها سلسة الحركة، إذ تسبح في خطّ مستقيم مع بعض التذبذبات يميناً ويساراً، في ما يشبه نمط تحرّك الأسماك، وينسجم مع تيار نهر النيل. ويمكن لهذه البكتيريا أن تظلّ على قيد الحياة لفترات طويلة داخل المياه، بالتعايش مع الكائنات الحية الدقيقة في الأوساط المائية «العوالق الحيوانية والنباتية»، في ظل ظروف بيئية محدّدة.

صورة مجهرية إلكترونية ماسحة لبكتيريا ضمّة الكوليرا. الصورة من منشأة المجهر الإلكتروني في كلية دارثموث
ويشرح علم المناخ المائي (Hydroclimatology) مجموعة العوامل البيئية التي تساعد على تكاثر بكتيريا الكوليرا خلال فصل الصيف، من خلال دراسة تقاطع الظروف المناخية وميكانيكا نهر النيل (نمط جريان النهر) برافديه الأزرق والأبيض. تُعتبر سرعة تدفّق مياه النيل من العوامل المهمّة في الحفاظ على نقاء مياهه، إذ إنّ التيار يجرف جميع العوالق النباتية والحيوانية، فضلاً عن التربة الملحية الناتجة عن النشاط الزراعي على ضفاف النيل. لذا فإنّ أي تباطؤ لمياه النيل يترتب عليه تكوين نظام بيئي غنيّ بالمغذّيات، لا سيّما وأنّ المياه العذبة ملائمة بطبيعتها لتكاثر الأحياء الدقيقة متى ما تضافرت العوامل المناخية الأخرى وفي مقدّمتها ارتفاع درجات الحرارة. كذلك تؤدّي ميكانيكا نهر النيل دَوراً مهماً في انتشار وباء الكوليرا في المدن الواقعة على ضفافه. وبينما يتباين تدفّق مياه نهر النيل الأزرق خلال مواسم الفيضان والجفاف، يبقى النيل الأبيض شبه منتظم في تدفّقه وجريانه، وتمرّ مياهه، قبل وصولها إلى السودان، بمنطقة المستنقعات في جنوب السودان المعروفة باسم السّد (sudd)، وهي منطقة غنيّة بالمكونات الحية والعوالق النباتية والشجيرات، وعندها يفقد النيل الأبيض نصف مياهه عن طريق تفرّعها وتبخّرها، فضلاً عن طبيعة التضاريس في حوض النيل الأبيض التي تتّسم بضعف انحدار الأرض، ما يزيد من ضعف تدفق تيار المياه.
ولما كانت ولاية الخرطوم تقع في نقطة اقتران الرافدين (النيل الأزرق والنيل الأبيض)، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تيار النيل الأزرق يكون في أدنى مستوياته خلال فصل الصيف (أبريل – مايو)، الأمر الذي يجعل النيل الأبيض مساهماً بحوالي 80% من إيراد مياه النيل، قبل أن يتراجع من جديد بحلول الخريف ليفسح الطريق أمام تيار النيل الأزرق المندفع.
لكن، نظراً إلى تداخُل العوامل البيئية وتعقُّدها، لا يمكن للبطء في جريان تيار المياه أن يؤدّي بمفرده إلى ظهور بكتيريا الكوليرا، إذ إنّ درجات الحرارة، وساعات سطوع الشمس، تؤدي أدواراً مركزية بتوفيرها بيئة ملائمة لنمو العوالق النباتية والحيوانية التي تمثل مَوئِلاً لبكتيريا «ضمة الكوليرا» حيث تعيش تكافلياً مع إحدى العوالق الحيوانية «مجدافيات الأرجل». كذلك تعمل الحرارة على تقصير ما يستغرقه تكاثر البكتيريا من وقت، لذلك تزداد أعدادها خلال فترات وجيزة. ومع ازدياد ملوحة المياه نسبياً، بتسرّب الأملاح من التربة الزراعية بسبب البطء في جريان التيار، يتكوّن نظام بيئي متجانس يثري نهر النيل بالمغذّيات. غير أنّ هذا النظام البيئيّ الملائم للأحياء الدقيقة، يُعدّ كارثياً للإنسان، إذ إنه مثالي لانتشار وباء الكوليرا أو ما سُمّي «الموت الأزرق» بسبب تحوّل لون جلد المصاب إلى رمادي مزرقّ نتيجة فقدان السوائل الشديد.
وخلال 13 يوماً من شهر مايو الجاري، تراوحت درجات الحرارة القصوى في ولاية الخرطوم بين 47 و48 درجة مئوية. وهو ما يجعلها ذات تأثير كبير على الخصائص الفيزيائية لنهر النيل خلال تدفّقه البطيء، إذ تزداد العناصر الغذائية في المياه ويقلّ الأكسجين المذاب في المياه، ما يؤدّي إلى ظهور «البكتيريا اللاهوائية» التي تفكك المواد العضوية منتجة رائحةً كريهة. ولعلّ هذا قد يفسّر ما أفاد به بعض المواطنين «أتَـر» بأنّ النيل صار شبه ساكن، مع ملاحظتهم اتساخاً في لون المياه وظهوراً لبعض الروائح الكريهة.
يتعذّر القضاء على بكتيريا الكوليرا لأنها تستوطن البيئات المائية. وفي واقع الأمر، ليس وجودها في مياه نهر النيل مضراً بحدّ ذاته، ما لم تتوافر لها العوامل البيئية المشار إليها آنفاً. لذا، ما كان للكوليرا أن تتفشّى في ولاية الخرطوم بهذه الحدّة لو تصادف انقطاع الكهرباء والمياه مع فصل الخريف على سبيل المثال (خلال الفترة الممتدة من يوليو إلى أكتوبر)، لأنّ شدة جريان تيار النيل كانت ستعمل حينها على إزاحة جميع هذه العوالق الحاضنة للكوليرا. كذلك ربما لم تكن الكوليرا لتتفاقم على هذا النحو، إنْ تزامَن اعتماد المواطنين على مياه النيل خلال فصل الشتاء (ديسمبر- يناير) حين تنخفض درجات الحرارة وساعات سطوع الشمس، الأمر الذي يقلّل من تكاثر العوالق النباتية ورفيقتها الحيوانية.
ومن ناحية أخرى، ولمَّا كان من المستحيل تحديد المصدر الرئيس لضمّة الكوليرا؛ هل هو عن طريق التبرّز حديثاً في النيل، أم إنه من وجود قديم لها في مياه النهر، فإنّ ذلك لا يستبعد فرضية انتقال هذه البكتيريا عبر خزان جبل الأولياء باعتباره امتداداً لتلك المياه الملوّثة في منطقة النيل الأبيض والتي تسببت في تفشي الكوليرا في مدينة كوستي خلال شهر مارس الماضي. لا سّيما وأن هنالك حالات مُسجّلة في مدينة أم درمان قد رُصدت في مناطق الجموعية والصالحة وفق متابعة «أتَـر».
كذلك يجدر بالذكر، أنّ دولة جنوب السودان ما زالت تعاني ويلات انتشار الكوليرا، وتصدّرت معدلات الإصابات العالمية خلال شهر مارس الماضي، لا سيّما وأنّ مستنقعات السّد هناك تحتجز المياه وتوفر بيئات ملائمة لانتشار المُمْرِضَات. ولأنّ تيار مياه النيل الأبيض يحتضن جميع الظروف المُساعِدة على بقاء بكتيريا الكوليرا به، فإنّ «الفرضية» تظل قائمة مع غياب الرصد الميداني لعيْنات مياه النيل جنوب خزان جبل أولياء.

توزيع مناطق الإصابة بالكوليرا حول العالم، وتتدرّج معدلات الإصابة من اللون الفاتح إلى اللون الداكن، ويظهر جنوب السودان أعلى معدلات الإصابة بالوباء
إنّ دراسة النظم البيئية المائية، والتفاعلات الديناميكية التي تنظِّم توازن المجموعات بين البكتيريا وبيئتها الحيوية، وتحسين المعرفة بتأثير النظم البيئية المائية على الصحّة العامة، في ظل تأثيرات الصراعات المسلّحة والفقر وتغيُّر المناخ، من شأنها أن تسهم في وضع سياسات بنّاءة لاستحداث نظم إدارة بيئية فعّالة.
لمرض الكوليرا في السودان ذروتان، إحداهما في فصل الصيف، عند ارتفاع درجات الحرارة وتباطؤ تدفّق مياه النيل برافديه الأزرق والأبيض؛ والثانية في فترة الخريف، عند الهطول الغزير للأمطار.
ورغم أنّ بدء عمليات تشغيل سدّ النهضة المتوقّعة في سبتمبر القادم، قد تُؤدّي إلى استقرار تدفّق مياه نهر النيل الأزرق خلال العام، دون تباطؤ يُفاقم أزمة الأوبئة؛ إلا أنّ التحدي الأكبر سيظلّ باقياً في أنّ النيل الأبيض سيبقى هاجساً بيئياً مستمرّاً ما لم تُولِ الدولة اهتماماً أكبر بضمان ابتعاد المواطنين عن مياهه خلال فصل الصيف. ويتعيّن أن تُولِي الأوراقُ البحثية مزيداً من الاهتمام بآلية التنبؤ بالعوامل البيئية المساعدة على انتشار بكتيريا الكوليرا من خلال رصد معدلات ازدياد العوالق النباتية في مياه النيل الأبيض خلال فترات ارتفاع درجات الحرارة، ما يُعزّز من قدرة المسؤولين على اتخاذ إجراء استباقي بنشر اللقاحات الوقائية من الداء قبل حدوثه.
كذلك لم يعد تطوير مراكز الرصد المناخي والتنبؤ ترفاً، إذ أثبتت تطوّرها ودقتها بأن كانت جرس إنذار يحتاط به السكّان قبل أي كارثة بيئية مُحتملة. إنّ القدرة على التنبؤ بموعد ظهور الكوليرا وغيرها من الوبائيات الموسمية، يمثل خط دفاع أوّل، ويوفر كثيراً من الجهد والمال لصدّها.
ورغم أنه من المتوقّع أن يتراجع تفشّي الكوليرا خلال الأسابيع القادمة تزامناً مع نهاية فصل الصيف، إلا أنّ تحدياً جديداً سيُطلّ برأسه، وهو ما أشار إليه مركز التنبؤات المناخية وتطبيقاتها التابع للهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية «إيقاد»، في تقريره المنشور في مايو الحالي، والذي أوضح أنّ معدلات هطول الأمطار خلال الخريف القادم على وسط السودان ستزيد بنسبة 55%. وسوف تطال هذه الزيادة مناطق شمال إثيوبيا وجنوبها وغربها والتي تشمل (منابع النيل الأزرق)، ما يُفيد بموسم خريف قد يكون وبالاً على المجتمعات الضعيفة في السودان، لتُقاسي كابوس العيش ما بين صيف الكوليرا وخريفها.
