
تُلُس: مقتل زعيم أهلي، والأجواء تنذر بالأسوأ
في الرابع عشر من مايو، لقي وكيل ناظر قبيلة الفلاتة، الهادي إدريس يوسف، مصرعه متأثراً برصاصة أصابته في الرأس، إثر اشتباكات وقعت بين أفراد من الدعم السريع بوسط سوق مدينة تُلس إحدى محليات جنوب دارفور، وتبعد حوالي 80 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة نيالا.
وتقول تفاصيل الحادثة، إنّ خلافاً قديماً بين العناصر التي اشتبكت بالسلاح من الدعم السريع، وهم من قبيلة الفلاتة، تجدَّد مرةً أخرى بينهم في مقهى بوسط سوق تُلس، ما أدّى إلى تدخّل وكيل الناظر الراحل لتهدئة الأمر، فأصيب بطلق ناري، وعلى إثر ذلك نُقل على الفور إلى مدينة نيالا لإسعافه، وقبل الوصول تُوفي في الطريق. وتُفيد رواية أخرى، بأنه كان ضمن اجتماع مع قيادات القبيلة، أقيمَ قريباً من السوق، وبالتزامن مع الاشتباكات المسلحة في سوق المدينة بين مجموعتين من بطون القبيلة ذاتها، اقتحم أحد منتسبي الدعم السريع الاجتماع ووجّه حديثاً مباشراً للقتيل قبل أن يطلق عليه رصاصة أصابته في الرأس، وعلى إثرها توفي لاحقاً في طريق إسعافه إلى نيالا.
وعقب وقوع الحادثة، أُغلق سوق تُلس على الفور، باستثناء الصيدليات والمخابز ومحال الخضار، والدكاكين الداخلية، ما عقّد الوضع المعيشي، في وقت ساد فيه التوتر الشديد والقلق بين السكّان المحليين بأرجاء المنطقة، مطالبين بالقبض على الجناة ومحاسبتهم.
ويفيد مصدر تحدّث لمراسل «أتَـر»، أنّ أبناء القبيلة حمّلوا عدداً من أبناء عمومتهم، من بينهم الناظر محمد الفاتح السماني، مسؤولية الجريمة ولو بمستوى ما، موجّهين إليهم أصابع الاتهام مباشرةً سواء في مقتله اغتيالاً أم بالإصابة العشوائية، خاصة أنه من أبرز قادة القبيلة المناهضين لانخراط أبنائها في الصراع مع صفوف الدعم السريع.
بعد مرور أيام، وبحجّة عدم تمكّنها من القبض على المتهمين، شنتّ الدعم السريع حملة اعتقالات واسعة ضد زعماء أهليين بالمنطقة. وتفيد مصادر محلية، بأن أبرز من شملتهم الحملة هم العمدة أحمد محمد إسماعيل، والعمدة محمد آدم الله جابو، والعمدة إسحق عبد الجبار.
وكشف ناظر قبيلة الفلاتة المعزول، محمد الفاتح السماني، خلال تأبين الراحل، عزمَه دفعَ مائة عربة قتالية من الدعم السريع من نيالا إلى تُلس لتأمينها. وقد كان حضور قيادات الدعم السريع والإدارات المدنية الموالية لها في التأبين لافتاً، من بينهم العميد أبّشَر جبريل بلايل، قائد القوة المتقدّمة للدعم السريع في نيالا، ويوسف إدريس يوسف رئيس الإدارة المدنية بجنوب دارفور، وتجاني الطاهر كرشوم رئيس الإدارة المدنية بغرب دارفور، إلى جانب ناظر البني هلبة المعزول، التوم الهادي عيسى دبكة. وقد قابل المواطنون ممن حضروا المناسبة، إعلان السماني برفضٍ واسع، كما تفيد مصادر محلية.
ونفى رئيس الإدارة المدنية بالولاية، خلال حديثه في مراسم التأبين، تورُّط قوات الدعم السريع أو أبناء عمومة القتيل في الحادثة، مشيراً إلى أن إصابته كان نتيجةً لرصاصة طائشة أثناء الاشتباك المسلّح، متعهّداً ببذل الجهود لبسط الأمن والاستقرار في المنطقة وبقية المحليات المجاورة مثل بُرام وعِد الفرسان.
وتشهد محلية تُلس والمحليات المجاورة، منذ مطلع العام الجاري، حوادث انتهاكات ونهب وسرقة وتهديدات، وحوادث قتل في سوق المدينة، راح ضحيتها عدد من الأفراد، بينهم نساء. ويأتي هذا الحادث في سياق حالة من الانفلات الأمني تعيشها عديد من مدن دارفور.
النهود: سكّانها نزحوا إلى ريفها
تكاد المعلومات عن مدينة النهود أن تكون منقطعة تماماً، إلا تلك التي حملها الذين خرجوا من المدينة أخيراً، في رحلة شتات لم تكن في الحسبان، بعد تسعةٍ وعشرين يوماً منذ دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة وخروج الجيش والقوات المساندة له منها. يقول أحد الفارّين من ذلك الجحيم لمراسل «أتَـر»، إنّ الناس خرجوا في شكل مجموعات، كلٌّ إلى جهة، ولم يَعرف كثيرٌ ممن خرجوا مصير بقية أهاليهم بسبب انقطاع الاتصالات، إلا قلة من أولئك الذين قد يجدون فرصة بين فينة وأخرى للاتصال عبر ستارلينك من داخل المدينة.
يقول «الحسين الحسن»، اسم مستعار لأحد مواطني النهود، إن المدينة وأريافها تعيش حالةَ احتضار، بعد نهب ألواح الطاقة الشمسية التي كانت تُستخدم لاستخراج المياه من جبل ود حيدوب ومنطقة أم خريطيش شرقي المدينة، وانقطاع المياه عن الريف كلياً. ونزح غالبية السكّان إلى مناطق مختلفة من ريف المدينة، خاصة أم هبيلة جنوبي المدينة، وود الحليو، وود شعيفون، وإزيرق غربي المدينة، وبعضهم وصل إلى فوجا، وآخرون إلى حمرة الشيخ بولاية شمال كردفان.
وأضاف الحسن، أنّ السوق نُهب بالكامل منذ اليوم الأول لاستيلاء الدعم السريع على المدينة، ولا تزال محلات السوق مفتوحة، لكنها بلا بضائع أو مواد تموينية، ونُهبت منها السيولة النقدية والذهب، وكذلك المحاصيل الزراعية، وأصبح أصحاب تلك الأموال بين ليلة وضحاها فقراء ونازحين في العراء.
تقول طبيبة بمستشفى النهود، طلبت حجبت اسمها لتحوّطاتٍ أمنية، إنّ المستشفى توقّف تماماً منذ اليوم الأول، بعد تعرّضه للرصاص الكثيف، وغالبية الكوادر الطبية نزحت من المدينة، ومات عددٌ منهم بالرصاص الطائش، وبعض المرضى نزحوا إلى الريف الغربي للمدينة، وتُوفِّيَ بعض المرضى بمركز غسل الكلى، وكان بعضهم في حالات حرجة، وآخرون منهم لا يزال مصيرهم مجهولاً، وتمكّن اثنان منهم بعد معاناة من الوصول إلى مدينة الأبيّض. ويضمّ المركز مرضى من ولايات دارفور خاصة مدينة الفاشر، وجميع محليات ولاية غرب كردفان.
أخبر شهود عيان من منطقتي النهود وود بَنْدا مراسل «أتَـر» أنّ مدينة النهود تتعرّض لحصار من قوات الجيش والقوات المساندة له من الناحية الشرقية، مع استخدام المُسيَّرات لضرب ارتكازات قوات الدعم السريع، وهو ما أدّى إلى مقتل عدد من الجنود، وإصابة آخرين نُقلوا إلى مدينة ود بندا عبر الدفّارات وسيارات الدفع الرباعي.
بينما أفاد آخرون مراسل «أتَـر» بأنّ الإدارة المدنية وزّعت دقيقاً وسكّراً مجاناً للمواطنين، من منزل ناظر عموم قبائل دار حمر عبد القادر عبد المنعم منصور، الذي رفض مغادرة المدينة بعد سيطرة الدعم السريع عليها، ووفرت تناكر مياه تُوزَّع مجاناً على الأحياء، بعد تعطّل عدد من الآبار التي كانت تغذّي المدينة والريف.
وتفتقر جميع المناطق التي نزح إليها المواطنون إلى المياه وقلة الطعام، وتستظلّ بعض الأسر فيها بأشجار الهَشَاب التي لا تُظِلُّ ولا تغني من لسعات الشمس، أثناء فصل صيف حارق، ما دفع بعضاً منهم لوضع الملاءات والبطاطين فوق أغصان تلك الأشجار.
وشهدت المدينة عودة أعداد من المواطنين الذين فرّوا في الأيام الأولى لسقوطها في يد الدعم السريع، بسبب انعدام المياه في تلك المناطق.
وإذ يدخل موسم الحجّ هذه الأيام، تفقد مدينة النهود ميزة اقتصادية مهمّة، وهي تصدير الضأن الحَمَري إلى المملكة العربية السعودية، الذي كان يُصدَّرُ بالآلاف في كُلِّ موسم. وتعدُّ بورصة سوق المحاصيل بالنهود من أكبر الأسواق المُنتِجة لمُختلف المحاصيل من الفول السوداني، والتسالي «حب البطيخ»، والكركدي، والصّمغ العربي.
وكانت قوات الدعم السريع قد سيطرت على مدينة النهود في الأول من مايو الجاري، وتجاوَز عدد القتلى من المواطنين أكثر من مائتين، بحسب تقديرات شهود عيان، ودُفِنَ بعض القتلى بسوق النهود، بالقرب من رئاسة المحلية، كما راجت أنباء عن وقوع اغتصابات متعدّدة، مع انقطاع تامّ لشبكة الاتصالات والإنترنت.
بابَنوسة: المدنيّون والجنود يتشاركون سُبل البقاء
بعد انفراجٍ كبيرٍ بوصول المواد الغذائية والأدوية إلى عدد قليل من المدنيين المُحاصَرين داخل الفرقة 22 بمدينة بابنوسة، توقّفت حركة التجارة بين مدينتي المُجلَد وبابنوسة بسبب تدهور الوضع الأمني وانتشار عصابات النهب والسرقة على الطُّرق الرئيسة التي تربط بين المدينة والمناطق المجاورة لها.
ويقول أحد المواطنين المُحاصَرين داخل الفرقة لـ «أتَــر»، إنّ الأوضاع بدأت تسوء بوتيرة متسارعة عقب انتقال المعارك العسكرية إلى النهود والخِوَي والدِّبيبات. وتوقَّفت القوافل التي كانت تنقل المواد الغذائية والتجارية إلى ما تبقى من السكّان في المدينة، إلا أنه في ظلّ انتشار العصابات المسلحة التي أصبحت تقطع الطُّرق وتنهب ممتلكات التجار، توقّفت حركة التجّار نهائياً بين المدينة والمناطق والمُدن غير البعيدة منها.
ومنذ يناير 2024 تشهد المدينة أعتى المحاولات العسكرية من الدعم السريع للسيطرة عليها قبل أن تتوقّف عن مهاجمتها، على الرغم من سيطرتها على بقية مُدن ولاية غرب كردفان.
ووفقاً لمصدر من داخل بابنوسة تحدّث لمراسل «أتَـر»، فإنّ المدينة شهدت حصاراً عنيفاً رغم بطء العمليات العسكرية، ما زاد أسعار المواد الغذائية. ويضيف: «بعض المواد أصبحت تُباع بالكوب بدلاً عن الأوزان التقليدية المعروفة، وبلغ سعر كوب السكر سبعة آلاف جنيه، ورطل الزيت 12 ألف جنيه، وقطعة البصل الواحدة صارت تُباع بخمسة آلاف».
وكانت الأسعار قد تراجعت بعد هدوء العمليات العسكرية، بحسب مصدر آخر من المدينة، قال إن التجّار ظلوا ينقلون البضائع على ظهور الدواب كالحمير والجمال إلى المدينة، كذلك أُدخِلت أعداد كبيرة من الخراف إلى المدينة بعد ستة أشهر لم يتذوّق فيها السكّان اللحوم.
وبعد توقّعات بانفتاح الفرقة 22 على مدينة المجلد، تأزَّم الوضع بالنسبة للقوة العسكرية المُحاصَرة في المدينة، تبعاً للادعاءات وحالة الشدّ والجذب بين طرفي القتال.
ولم تستبعد المصادر أن تعود المدينة إلى المواجهات العسكرية في القريب العاجل، بعد الزحف الجديد للدعم السريع على المناطق التي غادرها لمصلحة الجيش، وأهمّها الدبيبات والخوي وإحكام سيطرته على النهود.
ويقول عبد الله جابر، أحد سكّان المدينة، إنه قد تتعقّد الأوضاع في بابنوسة في الأيام القادمة أكثر مما هي عليه، بسبب المعارك التي تدور حولها، ولا يُستبعد أن يَضيق الحصار عليها أكثر مما مضى وأن تقلّ المواد الغذائية والسلع المُهمّة، مثلما جرى في العام الماضي.
ويعتمد المدنيّون الذين لجأوا إلى داخل قيادة الفرقة في الحصول على الغذاء على معاونة الجيش في الفرقة 22. ويقول أحد السكّان إنّ المدينة حالياً تكاد تكون خالية تماماً من السكّان، وتوقّفت فيها جميع الخدمات من مياه وكهرباء، ولذلك يتشارك فيها المدنيون وجنود الفرقة 22 سبل البقاء.
نيالا: نزوح داخل المدينة
شهدت مدينة نيالا بجنوب دارفور حالات متكرّرة لانتهاكات حقوق الإنسان، من القتل والاختطاف والتهديد والاعتقال التعسفي، وباتت النساء والفتيات يتعرّضن للنهب والمضايقات على نحوٍ مُتكرّر، في أماكن عملهن وفي طريقهن للعمل، ما اضطرّ عدداً منهن إلى ترك العمل، بحسب حديث أحد سكان المدينة لمراسل «أتَـر». مضيفاً: «منذ منتصف أبريل الماضي، استحوذت الدعم السريع على المنازل المهجورة في عدد من أحياء المدينة، ولا سيّما في حي النهضة، خرطوم بالليل، حي الإمام، والنسيم، التي نزح وتشرَّدَ سكّانها أو تعرّضوا لتهديدات أو نهب وسرقات، ما اضطرّهم إلى الارتحال إلى أماكن داخل نيالا أو نحو محلياتها أو إلى بقية بقاع البلاد أو حتى إلى خارجها». وأضاف أن أغلب أفراد الدعم السريع الذين استولوا على تلك المنازل هم ممن باتوا يأتون مؤخراً من الخرطوم وكردفان وشمال دارفور وغيرها.
وأغلقت السُّلطات بمدينة نيالا وهدمت سوق قادرة وموقف الجنينة من الناحية الشمالية، ولفة تقرو بالسوق، التي تعتبر أحد أماكن بيع الحشيش بأنواعه المختلفة، ويفترشه تجّار مسلّحون يرتدون زي الدعم السريع. كما أُزيلت ارتكازات الدعم السريع من بعض الأحياء. ورغم ذلك، ما تزال حوادث السرقات والنهب والاختطاف مستمرة على نحو واسع النطاق داخل مدينة نيالا.
وفي ظلّ أوضاعٍ اقتصادية ومعيشية صعبة، ما تزال موجات النزوح من بقية الولايات، ولا سيما من شمال دارفور والخرطوم مستمرةً، إذ وصلت في الآونة الأخيرة أعداد كبيرة منهم، واستقلبوا في عدد من الأماكن بمحيط نيالا. وتُفيد أنباء بأنّ هناك اقتراحاً من الإدارة المدينة باستضافة وترحيل بعضهم إلى منطقة منواشي شمالاً بطريق الفاشر.
وما يزال القطاع الصحّي بالولاية يُعاني بشدّة من نقص الخدمات الصحية، خاصةً الكوادر الطبية والأدوية وارتفاع أسعارها. ووصل سعر الدِّرِب إلى 4500 جنيه سوداني. وتتعرّض الكوادر الطبية للانتهاكاتِ وأعمالِ تعدٍّ، من قِبل مرضى ومُصابين من جنود الدعم السريع ومسلّحين مجهولين. وتُجبر إدارة مستشفى الشرطة بمدينة نيالا الموظفين، الذين يرغبون في الالتحاق بالعمل بالمستشفى، بأداء القسم بالعمل لمصلحة الدعم السريع، كما يجري تدريب الكوادر الطبية تدريبات عسكرية داخل المستشفى، وفق مصدر محلي تحدثت إلى مراسل «أتَـر».
متحدّثةً إلى مراسل «أتَـر» تقول طبيبة تعمل بالمستشفي التركي بنيالا: «مع ضعف الرواتب وانعدام الحوافز، يضطرّ الأطباء والممرّضون إلى البحث عن أعمال أخرى مستقلة، جراء ما يتعرّضون له من عنف». وتضيف أنها تعمل منذ عامين موظّفة رسمية بشهاداتها، براتب لا يتجاوز 120 ألف جنيه، ويتلقّى الموظفون الرسميون، وبقية العاملين والعاملات راتباً لا يتجاوز 90 ألف جنيه، ومع ذلك يتعرّضون للتهديد على نحو مستمر بالسلاح وأحياناً إطلاق رصاص وإساءات لفظية من المرضى وأهاليهم.