
في أحد أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، وُلِدَ «ياسر» بابتسامة بريئة تملأ وجهه، لكنَّ والديه لاحظَا أنه ينمو على نحوٍ مُختلف عن أقرانه. مُنذ ولادته، انتبه والداه أيضاً إلى بعض السمات الجسدية المُختلفة. كانت لديه ملامح وجهٍ مُسطحةٌ قليلاً، وأنفٌ صغير، وعيونٌ مائلةٌ لأعلى، وتأخرٌّ في بلوغ معالم النمو المُعتادة مثل الجلوس والوقوف. إضافة إلى ذلك، كان ياسر يُعاني من ضعف في توتر العضلات، ما جعل حركاته بطيئة وغير مُتناسقة.
بعد زيارة الأطباء، شُخّصت حالته بـ «متلازمة داون»، وهي حالة جينية تؤثر على النمو الجسدي والعقلي للطفل.
في البداية، شعر والداه بالقلق والحزن، خاصة مع نقص الوعي المجتمعي بكيفية التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة في السودان؛ لكنهما قرَّرَا ألا يستسلما، وبدآ رحلة البحث عن أفضل السبل لمساعدة ابنهما.
بعد استشارات عديدة، نصحهما أحد الاختصاصيين بإلحاق ياسر بمركز لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة في الخرطوم. لقد كان القرار صعباً بسبب الخوف من ردود الفعل، لكنهما آمنَا بأن التأهيل المُبكّر هو مفتاح تطوّر طفلهما.
في سن السادسة، التحَقَ ياسر بمركز الفاروق لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة بشمبات. اعتراه الخوف في الأيام الأولى، لكن المُدرِّبين والاختصاصيِّين استقبلوه بالحُبِّ والصبر. بدأ برنامجاً متكاملاً يشمل العلاج الطبيعي لتحسين حركته، وجلسات تَخاطبٍ لمُساعدته على النطق، إضافة إلى تدريبه على أنشطة تعليمية تُناسب قدراته الذهنية وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي له ولأسرته.
بعد أشهر، لاحظ والداه تغيُّراً إيجابياً كبيراً. لقد أصبح ياسر أكثر تفاعلاً مع من حوله.
من ضمن البرامج المُتبعة في المركز، والتي يستخدمها الأساتذة بالمركز، العلاج بالموسيقى وتوفير مساحة للأطفال للغناء والاستماع. فللموسيقى تأثير شديد على الأطفال «لأنها لغة الفطرة وتُعبّر عن المشاعر على نحو دقيق، لذا فهي بمثابة لغة تعبيرية أخرى للتواصل مع الآخرين، إذ تعمل على تنشيط الذاكرة والتخيّل وتفريغ الطاقة عبر نشاط حركي يُسهم في تدريبات التأهيل سواء أكانت اجتماعية أم تعديلاً للسلوك أم لغرس قيم التعاون والمشاركة بين الأطفال»، كما أخبر الاختصاصي النفسي عبد الله آدم يس في حديثه لـ «أتر».
ظهر تأثير الموسيقى سريعاً على حالة ياسر، وتحسنت قدرته على الكلام وبدأ ينطق كلمات بسيطة، وتعلَّم مهارات العناية الذاتية مثل ارتداء الملابس وتناول الطعام بمفرده، وأصبح يُشارك في الأنشطة الفنية والرياضية التي يُنظمها المركز.
متحدثاً لـ «أتر»، يقول أمين عكام، وهو موسيقي، ومعلم بمركز الفاروق، إن المركز ظل منذ تأسيسه في يونيو 2014، يعمل في مجال الدعم النفسي والتربوي، مُرخصّاً من وزارة التربية والتعليم، قسم التربية الخاصة، برؤية تتجاوز التعليم التقليدي لتصل إلى إعادة تشكيل نظرة المجتمع تجاه ذوي الإعاقة.
خلال أحداث الحرب في 15 أبريل 2023، وفي ظل نزوح عدد كبير من السكان من حي شمبات، كان مركز الفاروق الواقع شرق مستشفى حاج الصافي، في فترة إجازته السنوية. لكن العاملين فيه لم يتوقفوا عند حدود الإجازة، فمع ملاحظة التأثير النفسي العميق للحرب على الأطفال، قرَّر الفريق الاستمرار في تقديم الدعم والتعليم، فاتخذ من المساجد القريبة (مسجد المَحس ومسجد الفكي عثمان) مقرات لجمع الأطفال وتوفير جوٍّ آمن لهم، خاصةً أن للمركز علاقة بالنشاطات التي تُقام في شمبات الحلة، وتوأمة مع مؤسسة شمبات الثقافية (النيمة).
توسَّعت المبادرة لاحقاً لتشمل منزلاً مجاوراً، وانضمت أُسر جديدة للنشاط بعد أن رأت أثره الإيجابي. أستاذ اللغة العربية «كمال جنيد»، أحد سكان حي شمبات الحلة، بادرَ بتوفير المكان وافتتاح مدرسة مؤقتة استهدفت المرحلتين الأساس والمتوسطة. لم تكن المدرسة مجرد مكان للتعليم، إنما فضاء للتواصل واللعب وتفريغ المشاعر، ما عزّز من شعور الأطفال بالانتماء والأمان خلال الحرب، وزرع فيهم قيم العمل الجماعي، وتقبُّل الآخر.
يقول عكام، إن تأهيل الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، لا سيما من يعانون من إعاقات ذهنية أو تأخر في النمو، يتطلَّب وسائل غير تقليدية. وهنا تُؤدِّي الفنون خاصة الموسيقى دوراً محورياً في تحفيز الذاكرة والتخييّل، وتُوفِّر مخرجاً آمناً للطاقة الزائدة، وتُسهم في تدريبات النطق والتخاطب على نحوٍ غير مباشر، عبر تحفيز المناطق المسؤولة عن الصوت في الدماغ.
أما الرسم، فيَعمل على تطوير التنسيق بين العين واليد، وتحفيز الإدراك البصري والحسي، وهو ما يُطلق عليه المختصون ترقية القدرات المعرفية والإدراكية والسلوكية. كذلك، تُمكّن الأنشطة الحركية المرتبطة بالفن مثل الرقص أو التمثيل الحركي من تهدئة الجسد والتقليل من السلوكيات العشوائية، كما تُسهم في تحسين المهارات الحركية مثل المشي والتوازن.
«الفن لا يؤدي وظيفة واحدة، بل يقوم بدور تشخيصي وعلاجي وتأهيلي في آن واحد. وغالباً ما يكون أكثر فاعلية من الأساليب التقليدية، لأنه يصل إلى الطفل من دون مقاومة أو شعور بالخوف من الفشل»، يضيف عكام.
نتيجة لتدهور الأوضاع الأمنية والصحية والغذائية، في منطقة شمبات، نُقِلَ المركز ونشاطه إلى مدينة بورتسودان في أكتوبر 2024، لمواصلة تقديم الدعم النفسي والأنشطة المُصاحبة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. وفي ديسمبر 2024، نظمت مجموعة من الجهات ماراثوناً، بمدينة بورتسودان، بمشاركة أطفال مراكز الإيواء، على رأسها مركز الفاروق بالتعاون مع منظمة العون من مدينة جدة، وانضمَّ إلى الفعالية مركز «نور بوارث»، وهو مركز إيواء وتعليم غير ربحي بمدينة بورتسودان، يهتمُّ برعاية الأطفال الأيتام وفاقدي الرعاية الأسرية، ويُقدِّم خدمات التعليم الأساسي، والدعم النفسي، والتأهيل المهني، بالتعاون مع منظمات محلية ودولية.
وهدف الماراثون إلى دمج الأطفال في المجتمع، وتنمية قدراتهم النفسية والجسدية، مع توفير دعم أكاديمي منظم يُسهم في تحسين تحصيلهم الدراسي وفتح آفاق مستقبلية أرحب لهم.
وأكد منظمو الماراثون أن الحدث لا يقتصر على النشاط الرياضي، بل يتضمن أيضاً ورشاً تعليمية وجلسات دعم نفسي، إضافة إلى برامج متابعة أكاديمية مستمرة طوال العام.