أتر

تعوَّدْنا على الحرب: الكارثة النفسية في كرري

في مناطق كرري، يقول السكّان باستمرار إنهم تعوّدوا على أصوات القذائف وعلى الحرب. ورغم أن مثل هذه الأقوال تبدو صادمة للبعض، يكررها الناس باستمرار في ود البخيت والجرّافة وغيرها من أحياء كرري.

يرى بدر الدين، أحد مواطني ود البخيت ويبلغ 54 سنة، أن هذه المقولات أقرب لليأس والاستسلام أكثر من كونها تعوداً أو تأقلماً إيجابياً، أو ربما نوع من المقاومة والتحمل والإصرار على عيش حياتهم الطبيعية رغم أنف الحرب. وأياً كانت نوازعها، فإنّ لها ما وراءها من منطق.

في صباح 15 أبريل 2023، وقبل اندلاع الحرب بدقائق، كان تامر علي (34 سنة) في حي الطائف بالخرطوم، يتأهّب للذهاب إلى مطار الخرطوم مُسافراً إلى السعودية للعمل. وعلى حين غرّة، اندلعت الاشتباكات، وتحوَّلَت طرق الخرطوم إلى متاهة مُلغَّمة بالموت. استطاع تامر ذلك اليوم الوصول سالماً إلى منزل أسرته في ود البخيت شمال محلية كرري، والمُلاصقة من جهة الشرق لأحد أكبر معسكرات الجيش السوداني في ولاية الخرطوم. وشهدت الأحياء المُلاصقة للمعسكر قصفاً من الضفة الشرقية للنيل حيث كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

في أول ليلة بعد اندلاع الحرب، يقول تامر إنه لم يتوقّع أن يبقى أحد حياً في ود البخيت: «بالليل كانت السماء حمراء».

وبعد أيّام من الصبر الحارق، حاول تامر إخراج أسرته من منزلها إلى منطقة آمنة خارج ولاية الخرطوم، لكنه وجد رفضاً باتاً من والديه الكبيرَيْن في السن، لارتباطهما العاطفي الشديد بمنزلهما، لذا باءت محاولاته في إخراج أسرته بالفشل، ولأن الأبناء لا يَستطيعون ترك والدَيْهم، استسلم هو وإخوته للأمر الواقع بالمكوث معاً في منزلهم بود البخيت.

يصف تامر جموع النازحين من ود البخيت حينها بأنهم أشبه بسلاسل بشرية طويلة حلقاتها الناس الراجلون، يحملون ما خَفّ من متعلقاتهم ويتجهون إلى أحياء أخرى في أم درمان وكرري، بعيداً عن معسكرات الجيش، تاركين الحي شبه خالٍ. لقد كانت أسرة تامر من الأسر القليلة التي صمدت باقيةً في الحي مع قليلٍ من جيرانها.

مخاوف النزوح وعاطفة العودة

وسط قذائف الدعم السريع التي تتساقط على منازل ود البخيت، اشتدّ إلحاح أفراد أسرة بدر الدين عليه بترك الحيّ، والالتحاق بهم بعد أن نزحوا إلى مدني. وبعد 4 أشهر من البقاء بعيداً عن أسرته قرَّرَ السفر إلى ود مدني. سافر إلى ولاية نهر النيل أولاً، ومكث أياماً مشحونة بالعاطفة مع أقاربه في عطبرة، ومن ثم تحرَّك مُجدَّداً عابراً ولايات أخرى حتى وصل إلى عاصمة ولاية الجزيرة، ود مدني.

وصل بدر الدين وحيداً، والتقى بأسرته أخيراً في جو يمتلئ بمزيج من الحزن والغضب والشوق والخوف. يقول إنه لا يستطيع أن ينسى تلك اللحظات العاطفية، وكلما تذكرها وجد نفسه يحاول أن يُخبِّئ دموعه بعيداً عن أعين الناس.

مكث بدر الدين حوالي 20 يوماً في مدني باحثاً عن عمل دون طائل، فهو لا يعرف أحداً في المدينة، فضلاً عن ظروف الحرب التي ضيَّقَت سُبُلَ العمل. ولأسباب مادية ونفسية، قرر بدر الدين الرجوع مرةً أخرى إلى كرري، ود البخيت، لتبدأ مرة أخرى فترة جديدة سيقضيها بعيداً عن أسرته، على الرغم من أن ود البخيت لا تزال غير آمنة حتى ذلك الوقت.

لم يستطع بدر الدين استعادة هُويته إلا في منزله، حتى أنه حكى أنه قضى ليلتين في منزل والدته الذي يقع في شارع قريب من منزله بود البخيت، وفي اليوم الثالث أمرته بالرجوع إلى منزله، وعندما سألها عن السبب، قالت له إنها لاحظت أنه لم يستطع النوم لليلتين.

وصل بدر الدين إلى ود البخيت، وكأن جسده قد رُدَّت إليه روحه. لقد كان متمسكاً في البداية بالبقاء في بيته، ويرى أن الأسفار التي قام بها باتت تُشكّل ضغوطاً اجتماعية ونفسية هائلة عليه؛ ضغوطاً يعتبرها أقل وطأة من خطر قذائف الدعم السريع على الحي. يقول بدر الدين إنه بدرجة ما فقد هُويَّته والطريقة التي يُعرِّفُ بها نفسه، هو يعتقد أن الناس في مدني – التي لم تصلها الحرب حينئذ – كانوا عاجزين عن التعرُّف على أزمته وعاجزين عن تفهُّم مأساة أن تكون نازحاً.

لم يستطع بدر الدين استعادة هُويته إلا في منزله، حتى أنه حكى أنه قضى ليلتين في منزل والدته الذي يقع في شارع قريب من منزله بود البخيت، وفي اليوم الثالث أمرته بالرجوع إلى منزله، وعندما سألها عن السبب، قالت له إنها لاحظت أنه لم يستطع النوم لليلتين. لقد آل حال بدر الدين إلى قضاء لياليه نائماً في منزله، بينما يُمضي سحابة نهاره مع الجيران القليلين المتبقين في الحي، ومنهم تامر.

يحكي تامر أن الجيران المتبقين في الحي كانوا أكبر داعمٍ ومواسٍ له أثناء بقائه، خاصة أن تلك الفترة العصيبة صنعت رابطاً تضامنياً قوياً بينهم، تضامن لم يكن فقط معنوياً، بل تعداه إلى التضامن المادي في المأكل والاحتياجات الشخصية.

في 18 ديسمبر 2023 بعد سيطرة الدعم السريع على مدينة مدني في ولاية الجزيرة، التي كانت تأوي مئات الآلاف من النازحين الفارين من القتال في الخرطوم، ونتيجة لشَنِّ الدعم السريع حملات عنف مُستهدفةً المدنيين في ولاية الجزيرة، بدأت رحلة نزوح جديدة لأكثر من 200.000 من المدنيين من الجزيرة إلى ولاياتٍ أخرى، ومن ضمنهم عائلة بدر الدين التي عادت إلى منزلها في ود البخيت.

وقتها، أصبحت ود البخيت مأهولة بالكامل، فجميع البيوت يسكنها أناس، ليسوا أصحابها الأصليين بالضرورة؛ فعندما نَزَحَ معظم أهالي ود البخيت سكن هذه البيوت نازحون أتوا من مناطق أسوأ في نظرهم، من أحياء أمبدة في غرب الخرطوم التي انتشرت فيها قوات الدعم السريع.

طِوال سنتين، قَسَّمَ أهالي أحياء كرري أصوات المدافع والصواريخ والقذائف إلى صوتَيْن: إما أن تكون أصواتاً «خارجةً» وهي أصوات مدافع الجيش التي تُطلق من المعسكر المُجاوِر، وفي هذه الحالة لا يجب عليهم أن يقلقوا؛ أو أن تكون أصواتاً «داخلة»، وهذا يعني أن هناك قصفاً من قِبَلِ الدعم السريع على معسكر الجيش والأحياء في محيطه. وهنا عليهم أن يأخذوا حذرهم، خصوصاً سكان حيّي الجرافة وود البخيت.

اضطرابات ما بعد الصدمة

ارتفع الطلب على العلاج النفسي في مكان عملي الحالي بولاية كسلا  إلى درجة أعلى من قدرة المؤسسات الصحية النفسية على تقديم الخدمات، فمعظم الحالات لأشخاص نازحين من مناطق حرب مثل ولاية الخرطوم.

لا تعتقد المُعالجة النفسية مآب عبد المنعم، أن التعود على أصوات القصف وأخباره ومشاهده يمثل ردَّ فعلٍ طبيعياً، وتقول إن ردّ الفعل هذا يُسمَّى «اضطرابات ما بعد الصدمة»، وتحدُث عند تعرُّض الإنسان لظروف قاهرة تحمل تغييرات كبيرة أو تهديدات خطيرة على النفس أو الأفراد حولها. وتعد ردة الفعل هذه جزءاً من اضطرابات ما بعد الصدمة، تُرافقها مشكلات ذهانية أخرى مثل الخوف، والتوتر، والقلق واضطرابات النوم.

وتضيف مآب، والتي تتنقل حالياً بين كوستي بولاية النيل الأبيض ومحلية كرري لتقدم خدماتها في الصحة النفسية وتنشط في عدد من الجمعيات التي تعمل في مجال الطب النفسي؛ أن ظروف الحرب تُجبر الفرد على التكيف رغماً عن إرادته. يبدأ الأمر حسب قولها بعد تكرار ردة الفعل على الخطر، ما يجعل الفرد يميل لاعتبار أنه تَعَوَّدَ على الحدث ولم يعد يزعجه.

بينما يَعتقد د. مؤتمن بادي، المدير الطبي السابق لمستشفى التيجاني الماحي، أن نقطة التعود هي ردة فعل طبيعية ناجمة عن مؤثر غير طبيعي، وينتج رد الفعل عند التعرُّض للخطر المُزمن. ويَتفق مع مآب على أن الفرد الذي تأقلم مع الحرب ليس في أحسن حالاته النفسية، وقد يكون بحاجة إلى المساعدة وفي بعض الحالات للتدخل الطبي، لا سيّما في حالات اضطرابات ما بعد الصدمة.

وبحسب مآب، فإن أغلب حالات اضطرابات ما بعد الصدمة تصحبها حالة نكران للواقع الصريح، عن طريق الاستهانة بالمخاطر بتقليل احتمالاتها أو حتى إنكار وجود احتمالات المخاطر من الأساس. يَترافق هذا مع حالات أخرى مثل الشخصية الحدية، والنسيان، بخاصة في فترات الحرب.

وتقول إن بعض الحالات -في فترة الحرب- شُخصت بالاكتئاب والقلق المُفرَط، فضلاً عن حالات متزايدة أخرى كصدمات الفقدان والمشاهد العنيفة التي قد تؤدي إلى النسيان أو الخرس النفسي أو العدوانية والهياج، وتُرجِع كل هذه الحالات لعدم الاستعداد النفسي للحرب وظروفها.

يعتقد د. مؤتمن أن السودان يمر بحالة كارثة نفسية، ويلاحظ أن الطلب على العلاج النفسي في مكان عمله الحالي بولاية كسلا -التي لا توجد بها معارك مباشرة حتى الآن- قد ارتفع إلى درجة أعلى من قدرة المؤسسات الصحية النفسية على تقديم الخدمات، فمعظم الحالات لأشخاص نازحين من مناطق حرب مثل ولاية الخرطوم.

واجهت مآب حالة لمريض يعاني من اضطراب النوم، إذ لم يستطع النوم لمدة ساعة متواصلة طوال سنة كاملة في فترة الحرب، وعندما ينام تلاحقه الكوابيس فيستيقظ. قال لها إنه لا يستطيع أن يُغمِضَ جفنه للحظة بعد أن استيقظ ذات يوم حربي عاصف ووجد أباه وأخته وأبناءها مذبوحين. ومن حينها وهو عالقٌ في ورطة تتأرجح بين عدم قدرته وعدم رغبته في النوم، وقال إنه يحمل كفنه معه في حقيبته أينما رحل.

تُقدِّرُ مآب الزيادة في أعداد المرضى النفسيين الذين يزورونها من بعد الحرب بنسبة 50%، وأصبحت تعمل لمدة 10 ساعات في اليوم في عيادتها بكرري. وقَدَّرَتْ دراسة أجرتها مبادرة تسمى «تحدي» لدراسة ودعم الوضع النفسي في السودان وشاركت فيها مآب، أن 37% من الموجودين في منطقة كرري خلال الحرب يعانون من مشكلات ذهانية إضافة لمن كانت لديهم مشكلات نفسية قبل الحرب وحُفزت اضطراباتهم بسببها. وتتوزع تلك النسبة على النازحين إلى كرري من أحياء أمبدة وأم درمان القديمة وأحياء الفتيحاب وصالحة، وهذه المناطق تشترك في كونها مناطق اجتاحتها وسيطرت عليها قوات الدعم السريع.

ألعابهم مصنوعة من ذاكرة الحرب

بعد استطالة أمد الحرب، لوحظت ظاهرة الأطفال وهم يلعبون كرة القدم في ساحات الأحياء المجاورة للمنطقة العسكرية بكرري أثناء دوي أصوات المدافع والقصف على الأحياء المجاورة لها دون اكتراث منهم. ينسب د. مؤتمن هذه الظاهرة إلى مظاهر التكيف أو التعود على الحرب، والتي قد تخبئ وراءها اضطرابات نفسية، ويقول إن التعود قد يكون تراجيدياً لأنه يؤدي إلى ضعف الإحساس بالخطر.

يحكي بدر الدين عن حادثة سقوط قذائف في ساحة كان يلعب فيها الأطفال الكرة، توفي بعضهم وأصيب آخرون إصابات متفاوتة، منها فقدان الأطراف.

تقول مآب إن الأطفال هم الفئة الأشدّ هشاشة وعرضةً للمضاعفات النفسية بسبب الحرب مقارنةً بالبالغين، وأكثر الفئات احتياجاً للتدخل الطبي والنفسي.

انتشرت في أحياء كرري كذلك ظاهرة الأطفال والمراهقين الذين يحملون قطعاً حديدية شُكِّلَتْ لتُشبه سلاح الكلاشنكوف – AK-47. يُحضر الأطفال قطع الحديد إلى الحدادين ويطلبون منهم تشكيل البندقية، ويؤكدون على الحداد أن يجعلها تُصدِرُ صوتَ تعمير السلاح، وبعد أن تُجهَّز يحملونها معهم أينما تحركوا في الشوارع. يقول بدر الدين إن الأطفال لا يعتبرونها لعبة، وإذا كانت كذلك فهي لعبة جادة جداً.

يحكي تامر أنه في ليلة ما وهو في طريقه إلى بيته أوقفه أطفال في الشارع يحملون هذه البنادق، كانوا قد أقاموا ارتكازاً على الشارع وأغلقوه لتفتيش المارة، طلبوا منه أوراقه الشخصية وما يُثبت أنه يسكن في الحي. مرَّ تامر بودية بعد أن تأكدوا من هويته. ويعتقد أن الظاهرة جزء من ثقافة الحرب التي انتشرت في أحياء كرري. بينما يرى بدر الدين أنها غير طبيعية، وربما تُعزز لديهم بعضاً من الثقة والدعم النفسي وشيئاً من الشعور بالأمان الذي انتزعته منهم الحرب.

ترى مآب أن الأطفال أكثر وعياً بالحرب مما يعتقد الناس البالغون، فقد لاحظت وآخرون تأثير الحرب المباشر عليهم خاصة بعد توقف الدراسة. وتحكي عن أنها قابلت طفلاً عمره 13 سنة وهو يدخّن سيجارة، سألته: لماذا تدخّن؟ فأجابها: السودان أصلاً مُنهار، لا يُوجد لدينا تعليم أو صحة، إلى أين سأذهب؟ السيجارة تُخفِّفُ عني. وعندما سألته: كيف تُخفِّفُ عنك؟ فقال: تجعلني لا أفكر!

Scroll to Top