
«… أنْ ترَى العالمَ من حَبّة رمل».
– وليام بليك
« يا داميَ العينينِ والكَفّينِ
إنَّ اللّيلَ زائلْ
لا غرفةُ التوقيفِ باقيةٌ
ولا زَرَدُ السّلاسل! ».
– محمود درويش
رحَل الكاتب الكيني نقوقي واثيونقو في 28 مايو هذا العام، عن عُمرٍ يُناهز سبعاً وثمانينَ سنة. شُغِل منذ وقت مبكّر، وبوعي مبكّر أيضاً، بأجناسِ كتابةٍ مُتنوّعة، من قصة قصيرة ورواية ومسرح ونقد فكري وسياسي واجتماعي. لم يكن كاتبنا يأنَف من الاندغام في موسيقى اليوميّ والمعيشي الرتيبة، فقد ظلّت كتابته دوماً، بجميع دلالات «الالتزام» السارتري، تُولي عنايةً خاصةً للقهر والظلم الاجتماعي والفساد والاستبداد السياسي، وتتَّخذ منها ثيمة أساسية. وما قاله أحد الكتّاب عن ميشيل فوكو، من توتّر أصيل بين «التأمّل الجمالي» والنشاط السياسي، يَصْدُق أيضاً على منجز واثيونقو. وأهمّ سمات كتابته هو ذلك التناغم المُدهش بين الجمالي والسياسي، وكأني به يتمثّل شعار «ثورة الكتابة» في أمريكا اللاتينية: «ضرورة إدماج الجهد الأدبي بالنضال السياسي»، فقد ظلّ يُردّد ما قاله الصحفي والناشط الأرجنتيني رودولف وولش من ضرورة الرجوع إلى «الفعل المدني» الذي وصفه ماركس في كتابه «أطروحات فيورباخ» 1845، بأنه الفعل العملي النقدي، الدَّور المُميِّز للمثقّف الثوري والمثقّف العام.
رحل واثيونقو من بعد «لذاذات المنفى» التي عاش فيها وبها لما يَقرب من أربعة عقود. لذة المنفى تلك، استعارها من كاتبه الأثير، جورج لامينق (1927-2022) الذي أعّد أطروحته الأكاديمية عنه، وسوف يأتي الحديث عنها لاحقاً. كذلك كانت ثمة أشباح أخرى مُلهمة لتجربته في الكتابة: فرانز فانون وإيميه سيزار وسي جيمس، راوي ثورة الزنج في هاييتي في كتابه الأشْهَر «اليعاقبة السود». وقد أشار الأكاديمي والكاتب الكيني، بيتر كيماني، إلى أنّ مشروع مُواطنه الأدبي والفكري يتمحور حول إسهاماته النوعية في مشهد الكتابة في أفريقيا، وأنه أكثر من أثار جدلاً في أوساط النقّاد، خاصّة حول كتاباته السياسية، والأهمّ من كلّ ذلك، كما يقول كيماني «أنه لم يتوقّف عن الكتابة مُطلقاً حتى آخر لحظة قبيل وفاته».
كتب واثيونقو عدداً من الروايات والأعمال الفكرية والنقدية، إضافة إلى بضع مسرحيات كانت أكثر تلقياً، وكتب معظمها بلغته الأمّ «الكيكُويو»، وانتهى به نشاطه المسرحي إلى السجن، حيث كتب من داخل المعتقل نصّه البديع «شيطان على الصّليب» Caitaani Mutharaba-Ini (Devil on the Cross) (1980). كذلك، لا بدّ من الإشارة لعمله الملحمي والمحوري في مشروعه الروائي Wizard of the Crow، الذي يروي عن صورة الدكتاتور في شيخوخته، وهو معادل سردي موضوعي لما يُعرَف في النقد الأدبي المعاصر بسرديات الدكتاتور في محيط العالم.
ومن بعد، ما هي الذاكرة أو الوقائع التي اقتاتت عليها نصوص واثيونقو؟ نزعم هنا أنّ سيرته هي التي تحمل في متونها الأربعة معظم الإجابة المُحتمَلة لذلك السؤال في عرضنا هنا لهذه السيرة.
جانب من هذه الكتابة هو حضور طفولة الكاتب بصيغ مختلفة، حالة من يبحث عن طفولة ضائعة. وتحوي معظم نصوصه كثيراً من إيماءات الطفولة الباكرة، وهكذا هو الجزء الأول من سيرة نقوقي واثيونقو «أحلام في زمن الحرب: ذكريات طفولة» Dreams in a Time of War: a Childhood Memoir (2010)، الذي تتصدّره عتبة نصّية من بريخت:
في الأزمنة الحالكة،
هل ثمة من غناء؟
نعم، سيكون هنالك غناء:
غناءٌ عن تلك الأزمنة الحالكة.
وهكذا تتدفّق ذكريات طفولة الكاتب بإيقاع جميل، من بعد خبرة وممارسة في الكتابة، يعتصر ذهنه ليستعيد من قعر ذاكرته، ليسدّ فراغات الكتابة المُحتمَلة، أزمنة طفولته الحالكة، هو المولود في عام 1938 في أزمنة الحرب الكونية الأكثر حلكةً، في ذات الوقت الذي تتعقد فيه تجارب الاستعمار الأوروبي للقارة الأفريقية. دفق باهر، بلغة القصّ التي برع فيها واثيونقو، بنبشه لما علق بذاكرته من أيام الطفولة الأولى ووعيه الباكر وانتباهُه للُغة السُّلطة، من الأسرة إلى العشيرة، إلى معلمي الصّبية، إلى زعيم القبيلة، إلى المستعمر؛ انتباه سوف يكون له دَورٌ في مستقبل الصبيّ وتحديد ملامح هُويّته الثائرة على كلّ نظام وكلّ مؤسسة تُزَعْزِعُ أمنَه وتَسلبُه حرّيته وتُطيح باستقراره. والأهمّ من ذلك كله، هو تلك العلاقة المتوتّرة بين مستعمِر ومستعمَر، وطالما رصدتها عينا الطفل الصغير. وفي سنوات نضجه سوف يكرّس معظم كتاباته لنقد العقل الكولونيالي، الذي هو جزء أصيل من مشروعه الفكري والإبداعي. خلاصة ما خَطَّه الكاتب في هذا الجزء من السيرة، نجاة ذاك الطفل من تداعيات أزمة مُحتمَلة لتلك الأزمنة الحالكة، والتي ربما أدّت إلى ضياعه وأنه لم ينجُ فحسب، بل حدثت له يقظة معرفية وأيديولوجية، آلَت إلى انتمائه للكتابة حتى يتعافى من أزمنة البؤس والعنف مُتعدّد النّبرات كما ذكر في كتابة مُتأخّرة، وآلى على نفسه أن يصير كاتباً، وبآليّة الفعل «العملي النقدي» على قول ماركس، ألا وهي الكتابة. كتب محرّر صحيفة الغارديان معلّقاً على هذا الكتاب، «… ذكريات طفل أفريقيّ لم تمنعه أحلك الظروف من أن يحلم ويحلم حتى تحققت أحلامه».
في المجلد الثاني «في بيت الترجمان» In the House of the Interpreter: A Memoir (2012)، الذي هو امتدادٌ لفعل نبش ذاكرة الطفولة والصبا، في سياق الاستعمار وعسفه الذي زادت حدّته وقويَت شوكته في نهب ثروات الشعوب، وتعقَّدَ خطاب الرقّ وتفاقمت أفعال الاسترقاق؛ نرى علامات نضجه الفكري في المدرسة الثانوية وتجاربه المُثيرة حينما عمل مدرّساً ومترجماً لبعض اللغات المحلّية إلى الإنجليزية، والعمق الذي وصل إليه الكاتب في وعيه السياسي، وهذا ما حدّد مصيره لاحقاً – كما سنرى في الجزأين الأخيرين – بأنْ يظلّ ناشطاً ومثقّفاً عضوياً، متّسقاً ومتصالحاً مع ذاته ومع ما يكتبه، متوازناً بين الفكر والممارسة. كانت هذه العلامات الأولى لاتخاذه قراراً بأن يُواصل «نضاله الطبقي»، مُتمسّكاً دوماً بالسؤال التاريخي: أين هي الحقيقة؟ أين هي العدالة؟ هذه الكتابة ليست تاريخاً شخصياً بقدر ما هي قصة أمّة. وهي محطة مُهمَّة وكاشفةٌ للدَّور التاريخي للتعليم حتى في سياق كولونيالي، كما أفصح عنه واثيونقو في هذا الجزء من سيرته. كتابة في غاية الذكاء، وقد كشفت عن وعي الكاتب بتاريخ أمّته ووعيه بالعالم.
في الجزء الثالث «مولد صانع الأحلام: يقظة كاتب» Birth of a Dream Weaver: A Memoir of a Writer’s Awakening (2016)، وَجَد الكاتبُ الوقتَ الكافي ليتأمّل في العالم من حوله، وتلك هي لحظة نضجه المعرفي وتحقُّق حلمه الأبدي في أن يصير كاتباً. إنها الفترة التي انتقل فيها للدراسة في جامعة ماكريري في يوغندا. هنا بالفعل بدأ حلمه في أن يصبح كاتباً في التحقّق حينما أنجز كتابه الأول، روايته الأولى «لا تبكِ أيّها الطفل» Weep Not, Child؛ ولم تُنشَر إلا بعد ذلك بسنوات (1964)، لما أنْ عرَض الشاب نقوقي مخطوطتها على الكاتب النيجيري الكبير شنوا أشيبي، وذكر في ما ذكر هنا، أنه تعلَّم دروساً في تقنيات الكتابة من ملاحظات أشيبي؛ وهي إشارات أولى لهُوية كاتب ناشئ. وممّا ذكره أيضاً في هذا الجزء تعرُّفه على فانون ولامينق، وكان الثاني موضوع أطروحته في جامعة ليدز: لامينق: سياق السياسة والرقّ والثورة. أما فانون فقد زعم أنه مُتجلٍّ في روايتيه «حبّة قمح» A Grain of Wheat (1967) و «تويجات الدّم» Petals of Blood (1977). وختم هذا الجزء من السيرة بسردية الاستعمار وأمثولاته.
في 1981 أصدر نقوقي كتابه Detained: A Writer’s Prison Diary، ويروي فيه يوميات السّجن وذكرياته المؤلمة، إذ سُجن دون تحقيق أو محاكمة. وهي كتابة تُوجِّه نقداً سياسياً واجتماعياً لنظام الحكم في كينيا آنذاك. أعاد الكاتب كتابتها في الجزء الرابع من هذه السيرة: «مواجهة الشيطان: مذكّرات السجن» Wrestling with the Devil: A Prison Memoir )2018(. من بعد المراحل الأولى من سيرته، أعادنا الكاتب هنا إلى واثيونقو؛ المثقّف الثوريّ والناشط السياسي المُناهض للظلم وأيّة سُلطة غير شرعية، مُستدعياً فانون وسيزار، صانعاً من تراثهما في نقد تجارب الاستعمار سلطةً معرفيةً، لكشف عورات الأنظمة الفاشية في محيط العالم وفسادها وقمعها لشعوبها. ظل نقوقي على الدوام يقول إنه «… يكتب كمعلّم وليس كنبيّ كاريزمي»، كما قيل عن أرسطو.
نزعم في ختام هذا العرض، أنّ كاتبنا المجيد حارَبَ في جميع كتاباته عيوب اللغة الأنطولوجية، كما قال باختين؛ حارَبَ ذلك الوهن الذي اعتوَرَها، حارب التفاصيل الصغيرة التي تعيش تحت القشرة الميتافيزيقية وذلك العمق الشيطاني الوحشي للّغة والخطاب. عاش نقوقي في المنفى مُمزّقاً وبلا جذور، وأراد أن يرفع صوت بني وطنه، بإيمان راسخ بأنّ الكتابة قوّة وسلطة لها القدرة على التغيير، كتابة تسعى لتكريس الفكرة الأبدية للانعتاق الكوني والسعي الخالد للعدالة.