
في فبراير من هذا العام، أصدر الملك محمد السادس، عاهل المملكة المغربية، قراراً بتعليق شعيرة الأضحية لهذا العام، ودعا المواطنين إلى الالتزام به، مُعلناً أنه سيذبح كبشين فقط؛ أحدهما عنه، والآخر نيابة عن الشعب المغربي. جاء القرار استجابة للتداعيات الخطيرة للتغيّر المناخي، التي أثّرت على نحوٍ مُباشرٍ على الثروة الحيوانية في المغرب، بعد سبع سنوات مُتواصلةٍ من الجفاف، أدَّت إلى تراجع أعداد الماشية بنسبة 38%، وفقاً لبيانات وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات المغربية.
ورغم أن السودان لا يزال يَحتفظ بثروة حيوانية ضخمة، تُقدَّرُ بأكثر من مائة مليون رأس (105.6 مليون) رأس، بحسب تقديرات العام 2022؛ فإن موجات الجفاف التي ضربت البلاد، قَضَتْ على 60% من الغطاء النباتي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ كما أن الأراضي الجافة وشبه الجافة باتت تمثل ما يقارب 72% من إجمالي مساحة السودان، ما يَضَعُ البلادَ على عتبة تأثيرات مُشابهة لتلك التي دَفعت المغرب إلى إعادة النظر في طقوس الأضاحي الدينية.
ولا تقف التداعيات البيئية عند تأثيرها على الثروة الحيوانية فقط، بل تمتدُّ لتُلامس جوانب تتعلق بالصحة العامة ومُمارسات الذبح التقليدية، التي غالباً ما تفتقر إلى شروط السلامة. فعلى الرغم من محاولات السودانيين في المناطق المدينية مواكبة مظاهر التحضّر، إلا أن طقوس ذبح الأضاحي لا تزال تُمارَسُ بأساليب تقليدية، تتداخل فيها مشكلات بيئية وصحية مُتراكمة.
ومع اقتراب عيد الأضحى، يتوافد المواطنون إلى أسواق المواشي لشراء الأضاحي، دون الالتفات الكافي إلى الحالة الصحية للبائعين، أو توفر شهادات بيطرية تُثبت خلوَّ الأضاحي من الأمراض المُشتركة بين الإنسان والحيوان. وغالباً ما يجري نقلُ الماشية لمسافات طويلة من مناطق الإنتاج في ولايات الغرب والوسط إلى ولايات الشمال والشرق، ما يَزيد من فرص انتشار العدوى.
ويَعتاد تجار المواشي خلال هذا الموسم على الإقامة مع خرافهم في الميادين العامة بالمناطق الحضرية وسط التجمعات السكنية، في غياب كامل للبنية التحتية، من أماكن مُخصَّصة للنوم أو مرافق للنظافة الشخصية؛ فيُؤدِّي ذلك إلى ممارسات غير صحية من قِبَلِ الباعة، كالأكل والشرب وقضاء الحاجة في ذات المساحات التي تأكل فيها الماشية وتتبرّز، ما يَخلق بيئة خصبةً لتكاثر الحشرات والقوارض، ناقلة الأمراض.
وتتحوَّل أسواق المواشي والميادين في مثل هذه الأيام إلى مراكز اقتصادية حيوية، يتوجَّه إليها المُواطنون وأرباب الأسر، برفقة أطفالهم، لشراء الأضاحي. وتَستغرق عملية الشراء وقتاً يتخلله التلامس المباشر مع الحيوانات، ما يُثير الغبار المُحمّل بالملوثات والروث المُتحلِّل. وبعد إتمام عملية الشراء، تُنقل الخراف إلى المنازل حيث يُحتفظ بها حتى صباح يوم العيد.
مع شروق أول أيام عيد الأضحى، يبدأ المُضحّون في عمليات الذبح، بمساعدة «الضباحين»، وهم غالباً لا يمتلكون مستندات صحية أو أدوات نظيفة. ويجري الذبح في باحات المنازل أو أمام أبوابها، باعتبار ذلك نوعاً من تعظيم الشعيرة، بحسب مُعتَقد البعض، ما يُؤدّي إلى تلوث التربة بالدماء، وجذب الذباب والحشرات. تلي ذلك عملية السلخ، التي تُرافقها مُخلَّفات صلبة وسائلة من الذبيحة، تُمثّل تهديداً وبائياً حقيقياً إذا لم يجرِ التعامل معها على نحوٍ سليم.
ورغم تباين سيناريوهات التعامل مع مخلفات الذبيحة، تعكس جميعها حالةً من عدم الوعي بمخاطرها الصحية. تُفضِّل بعض الأسر الاحتفاظ بمخلفات الذبيحة، فيُطهى جزء من الأمعاء لصناعة طبق «الكمونية»، بينما يؤكل جزؤها الآخر نيئاً (مرارة/أم فتفت)، وتُوضع هذه الأجزاء غير المطهوَّة في طبقٍ يَحوي قطَعَ الكرشة «الفشفاش» والكبدة النيئة والطحال «أب دمام»، إضافة إلى سائل الحويصلة الصفراء، ويُطلق عليه محلياً «البول/ الأتِّي». إن جميع هذه الأجزاء غير المطهوَّة، قد تُشكِّل مصدراً لأمراض بكتيرية وفيروسية خطيرة، خاصةً في حال غياب مُستندات صحيّة للذبيحة وعدم تعقيم أدوات الذبح.
أما السيناريو الآخر للتعامل مع مُخلَّفات الذبيحة، فهو الذي تتَّبعه بعضُ الأُسَر بسَكْبِ المُخلَّفات السائلة للخروف «الكرشة» في أحواض الزراعة الخاصة بها، سواء أداخل حوش المنزل أم أمام مدخله، بناءً على الثقافة الدارجة، بأنها سمادٌ طبيعيٌّ للأشجار دون إدراك حقيقة أن سكب هذه المواد على سطح التربة لا يعدو كونه مصدراً للتلوث البيئي، وذلك من خلال تراكم المُخلّفات وجذبها للحشرات «الذباب» والقوارض «الفئران» وغيرها من نواقل الأمراض، فضلاً عن أنها هذه الكمية من المُخلَّفات السائلة، قد تقود إلى اختناق النبات بسدِّ منافذ تهوية التربة.
إن إضافة السماد إلى التُّربة يعدُّ أمراً مُعقّداً، ويتعيَّنُ في البدء تقليبُ التربة قبل إضافة السماد، والذي يَجب أن يكون بكميات مُحدَّدة وبتوزيع مُتفرّق قبل أن تجري عملية الدفن، مع ضرورة مراعاة أن العملية تعتمد على طبيعة الأشجار وأحجامها. وعليه، فإن التسميد الصحيح يُعَدُّ مُهمّاً من الناحية البيئية، ويجب أن تتشرَّب التُّربة المُخلَّفات السائلة للذبيحة، بينما تُجفِّفُ تيارات الهواء ما تبقّى من السوائل السطحية، الأمر الذي سيقود إلى منع تكاثر الذباب حولها.
أما السيناريو الثالث، فهو ما تنتهجه غالبية الأُسَر، ظناً منها أنه الأصح بيئياً، وذلك بجمع مُخلَّفات الذبيحة بما فيها «الكرشة» في أكياس بلاستيكية رديئة الجودة، ومن ثم التخلص منها برميها في حاويات القمامة. وتكمن الأزمة هنا، في أن تزامن عمليات الذبح في الأحياء السكنية بأعداد هائلة خلال سويعات، وفي ظل محدودية حاويات النفايات، من شأنه أن يُؤدّي إلى حدوث صدمة بيئية؛ إذ تتكدَّس أكياس نفايات ذبائح سكان الحي بأسوأ صورة داخل أكياس سريعة التفكُّك، ما يُؤدّي خلال دقائق وجيزة، لأن تتكالب عليها القطط والكلاب الضالة لتُمزِّقها بكل سهولة، مُوفّرة بيئة ومرتعاً جاذباً للحشرات والقوارض وجميع نواقل الأمراض.
ومع ضعف الإدارات المحلية في بعض الولايات، أو غيابها التام في أخرى، يغيب التعامل السليم مع جلود الأضاحي، التي يمكن أن تتحول بدورها إلى مصدر جديد للتلوث. كما أن عمليات الغسل العشوائي لأجزاء الذبيحة قد تؤدي إلى تسرب المياه الملوثة إلى مصادر الشرب، ما يرفع من احتمالية تفشي الكوليرا مجدداً، خاصة في ظل ضعف البنية التحتية للصرف الصحي واكتظاظ المراكز الصحية بحالات إصابة بالمرض.
تتفاعل درجات الحرارة المرتفعة في فصل الصيف بنحوٍ إيجابي مع زيادة فُرص حدوث التلوث البيئي. وتُساعد فترات الإشعاع الشمسي الطويل في ظل وجود مصدر غذائي (مخلفات الذبيحة)، في تهيئة بيئة مُناسبة لتكاثر الذباب، والذي يُمكنه التكاثر بمعدلات أسرع من المعتاد (أقل من أسبوع)، ما يُنتج ازدياداً هائلاً لأعداده خلال فترة وجيزة، خاصة مع ارتفاع نسب الرطوبة على سطح جيفة الخروف، بسبب تفتيته وتقطيعه بواسطة الكلاب والقطط والقوارض.
تتكافل جميع هذه الحيوانات لصنع بيئة جاذبة للذباب، الذي يُفضّل بطبيعته المواد العضوية المُتحلِّلة (مثل بقايا الطعام والجيف المُتعفّنة وبراز الإنسان والحيوان)، ما يُفسِّر تكاثرَ الذباب في المناطق الحضرية والمأهولة بالسكان. وتكمن خطورة الذباب في كونه ناقلاً رئيساً للأمراض البكتيرية والطفيلية، حاملاً على جسده البكتيريا والطفيليات من الجيف وبراز الحيوانات والإنسان، ثم ينقلها إلى المطابخ والموائد. وإذا أخذنا في الحسبان أن بكتيريا الكوليرا لا تزال حاضرة في ولاية الخرطوم، فإن احتمالية تفشي الوباء خلال فترة العيد تبدو مرتفعة للغاية.

رسم يوضح مراحل تكاثر الذبابة (بيضة – يرقة «ثلاثة أطوار» – شرنقة - حشرة كاملة) وتتسارع هذه العملية في ظل توافر المواد العضوية المُتحلّلة مع ظروف مناخية مثلى (درجات حرارة مرتفعة ورطوبة) فتتزايد أعداد الذباب
إن الذبح العشوائي لا يزال يُشكّل تهديداً مباشراً لحياة السودانيين، وتحدياً بيئياً وصحياً أمام السلطات المعنية. ومع استمرار ضعف أنظمة الصرف الصحي وصعوبة الوصول إلى خدمات الرعاية الطبية، وتفشي الوبائيات مثل الكوليرا تصبح مواجهة هذه الممارسات ضرورة قصوى.
وعليه، تبرز الحاجة إلى فرض تنظيمات واضحة، تُلزم المواطنين بالذبح داخل المسالخ المُرخّصة والمجهزة، والتخلُّص الآمن من المخلفات، سواء عبر الردم الصحي أم تحويلها إلى سماد عضوي بطريقة احترافية. كما يُعدّ التحكم في تكاثر الذباب ضرورة مُلحَّة، من خلال منع توفر بيئة صالحة له، عبر استخدام أكياس بلاستيكية متينة، وزيادة عدد الحاويات المُخصَّصة في الأحياء السكنية خلال العيد، إلى جانب رفع وتيرة نقل النفايات، ورش المبيدات المُعتمدة.
ويبقى تعزيز الوعي المجتمعي حجر الزاوية لضمان التزام الأفراد بهذه التدابير، بما يُفضي إلى بيئة أكثر أماناً، ويُقلل من أخطار تفشي الأوبئة المُرتبطة بممارسات الذبح العشوائي.