أتر

رئيس الوزراء تحت المجهر

أدّى الدكتور كامل إدريس في 31 مايو الماضي، القَسَمَ الدستوريَّ رئيساً لوزراء السودان، بتعيينٍ من رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان. وفور أدائه القسم، التقى رئيسُ الوزراء المعيّن برئيس مجلس السيادة ونائبه مالك عقار وعضو المجلس الفريق شمس الدين كباشي كلّاً على حدة، ثم اجتمع بأعضاء مجلس السيادة.

كل ما جرى من مراسم أداء القسم إلى اللقاءات التي عقدها خلال 48 ساعة، منذ وصوله إلى مدينة بورتسودان، لا يُظهر بوضوح مدى التأييد الشعبي له؛ لكننا نعلم من خلال استطلاعات رأي وتقارير متواترة من مدن السودان المختلفة، أن هناك رغبة، بل حاجة ماسّة ومتزايدة إلى عودة الجهاز الإداري مُمثّلاً في الحكومة، لتنظيم شؤون الحياة والمعاش. وقد تقبّل الناس، دون كثيرٍ من التساؤل، أي حاكم أو معتمد أو وزير خلال فترة الحرب، مُدركين أنها أوضاع استثنائية.

قدّم الدكتور كامل إدريس نفسه عبر خطاب بثّته الوسائط الحكومية إلى الشعب السوداني، أو ربما كان موجّهاً إلى المجتمع السياسي المُنظّم منه. في كلتا الحالتين، كان الخطاب مرتجلاً، وتناول قضايا فوقية بعمومياتها، وهي قضايا ظلت تتكرّر باستمرار في القاموس السياسي لعقود. استمر الخطاب 12 دقيقة، خُصّصت منها 4 دقائق لتوجيه الشكر وتكراره، لكنه في الخلاصة أقرّ بأنه يدرك عِظم المسؤولية التي أُلقيت على عاتقه، وتعهَّد ببذل قصارى جهده لخدمة أهل السودان.

قبل تعيينه رئيساً للوزراء، كان الدكتور كامل إدريس يعيش خارج السودان، ولم يكن تأثير أقواله وأفعاله وقرارته يتجاوز نطاق أسرته وأصدقائه وربما مجتمعاً صغيراً من معارفه. لكنّ نطاق مسؤوليته اتسع ما إنْ أدّى ذلك القسم، ليشمل الملايين من المواطنين السودانيين في الداخل والخارج. ملايين يحتاجون إلى جهاز دولة فعّال لاستخراج الأوراق الثبوتية، وملايين آخرون في السودان يحتاجون إلى أملٍ في أن جهاز الدولة سيعود إلى العمل، وربما يمنحهم تعيين رئيس وزراء بعضاً من ذلك الأمل، حتى لو لم يكن يتحدّث لغتهم.

حدّد رئيس الوزراء الجديد ستّ قضايا سمّاها «الأولويات الوطنية»، تبدأ بالأمن القومي وهيبة الدولة والوقوف مع الجيش في حربه ضد قوات الدعم السريع، مروراً باستتباب الأمن، والاقتصاد ومعاش الناس، وإعادة الإعمار وجبر الضرر، وانتهاءً بالحوار السوداني–السوداني، أو كما سمّاه «الاستشفاء الوطني». وذهب في رؤيته إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه، حتى دعا إلى إعادة هيكلة الدولة السودانية برمّتها. في ختام كلمته، عرَض رئيس الوزراء رؤيته في كتاب بعنوان «السودان 2025: تقويم المسار ورؤية المستقبل»، ولوّح به للجمهور، إلى جانب كتيّب أصغر قال إنه يتضمّن آلية التنفيذ. وقد حصلت «أتَـر» على نسخة من كتاب الرؤية، لكنها لم تحصل على الكتيّب التنفيذي. وفي المجمل، يتناول الكتاب أفكاراً حول التاريخ السياسي ونشأة الأحزاب، وهي أفكار عامة كان قد نشرها أيام حملته الانتخابية، وجمعها في كتاب نُشرت طبعته الأولى عام 2016 بعنوان «السودان 2020»، ثم أعاد طباعته في 2020 تحت عنوان «السودان 2025: تقويم المسار ورؤية المستقبل» عن دار السلام للنشر والطباعة. لا غضاضة في الرؤية التي يحملها كامل إدريس للسودان، فالرؤية مثل الحلم لا حدود لها، لكنّ الكتاب لا يمثّل استراتيجية واضحة الأهداف أو آلية تدخّل، لذلك لا يُعلّق الأمل لا على رؤيته ولا على قدراته الفردية، بل يأتي بعض الأمل من الحاجة الماسّة إلى شخص يتولّى المسؤولية وهو مدرك لصعوبة الوظيفة.

منذ تعيينه، رسَم بعضُ الناس مساراً للتوقعات مستندين إلى سيرته المهنية، ومتسائلين عن أسباب تعيينه وما يمكن أن ينجزه. فقد بعضهم فيه الأمل، فيما طعن آخرون في شرعيته وشرعية من عيّنه. مناقشة تعيينه كشفت أن المتفائلين يرون أن القرار جاء استجابة لمطالب خارجية، وأن دوره سيكون قيادة الجهود الدبلوماسية لإصلاح العلاقة مع العالم والإقليم. وقد أصدر الحزب الشيوعي السوداني بياناً في 1 يونيو قال فيه إن «أيادي التدخل الخارجي تتضح تماماً في قرار البرهان الأخير، لا سيما وقد أتى مباشرة عقب زيارة ترمب للمملكة العربية السعودية وبعض دول المنطقة». وبالنسبة للحزب، فإن التعيين يأتي في إطار خطة قديمة لتأسيس دولة «الهبوط الناعم» بدأت بمبادرة ثابو مْبيكي في 2012، ومروراً بالاتفاق الإطاري في 2023، والآن مع كامل إدريس. لكن السبب الرئيس لرفض تعيينه، بحسب الحزب، هو أن الفريق البرهان لا يملك الشرعية لاتخاذ هذا القرار.

بالتوازي مع هذا التحليل، برزت قراءة أكثر تفاؤلاً لكنها تضع البعد الخارجي في المقدمة، وتبني تقييمها على ما يمكن أن ينجزه رئيس الوزراء الجديد في أحسن الأحوال، لا سيما في ما يخص تحسين علاقة بورتسودان بالعالم الخارجي، ومن ذلك إعادة عضوية السودان إلى الاتحاد الأفريقي.

يبدو أن هذه المهمة راقت لرئيس الوزراء القادم من الخارج، والذي ظلّ طوال تاريخه السياسي يروّج لكونه مفكراً منظّماً يمتلك شبكة علاقات خارجية طورها خلال عمله في أروقة الأمم المتحدة. فهو دبلوماسي قديم، أمضى كامل تاريخه المهني في نادي المنظمات الدولية، ويتحدث عدة لغات كما ظهر في المؤتمر الصحفي. وبهذا، كأنما يقول: ما للمجتمع المحلي فللمجتمع المحلي، وما للعالم الخارجي فهو من اختصاصي.

احتجّت قوى سياسية في السودان على تعيين كامل إدريس رئيساً للحكومة، فيما آثرت قوى أخرى الصمت دون أي تصريح أو تعليق؛ لكن الاعتراض لم يكن متعلقاً بشخص كامل، بل بشرعية الجهة التي عيّنته، أي رئيس مجلس السيادة. وخلص الحزب الشيوعي إلى أن الحل يتمثّل في ضرورة تكوين جبهة جماهيرية عريضة تتوحّد فيها جميع القوى السياسية والمجتمعية الرافضة للحرب، لإجبار طرفيها على وقفها واستعادة مسار الثورة وشعاراتها. وعلى الرغم من أن الموقف الرسمي للحزب هو رفض التعيين لانعدام الشرعية، فإن صحيفة الميدان، لسان حاله، نشرت بتاريخ 29 مايو نقداً لاذعاً للسلطات الصحية بسبب تقاعسها في التصدي لوباء الكوليرا. رأت الصحيفة أن النظام الصحي ينهار أمام أعين السلطات التي لا تحرّك ساكناً. وهذه حجة صحيحة: إن مؤسسات الدولة تعاني من أزمات كبيرة أثّرت حتماً على فاعليتها وكفاءتها، والسؤال المطروح هنا: ما الذي يمكن أن تفعله أي قوى سياسية أو اجتماعية حيال هذا الوضع المتأزّم؟

لم يُعلّق التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود” على تعيين كامل إدريس رئيساً للوزراء، لكنه في المقابل أبدى حماسةً واضحةً لاجتماعٍ عُقد بين نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر أورلاندو، وكبير مستشاري أفريقيا مسعد بولس، مع سفراء مصر والإمارات والسعودية، لمناقشة سبل إيقاف الحرب. ورغم أنّ الاجتماع لم يشمل أي تمثيل سوداني، اعتبَر تحالف “صمود”، الذي يضمّ قوى سياسية ونقابية ومدنية، أنه يمثّل خطوة مهمّة، مشدّداً على ضرورة ممارسة الضغوط على طرفي الحرب. على المنوال ذاته، وصَف حزب المؤتمر السوداني الاجتماع بأنه “خطوة في الاتجاه الصحيح”، مؤكّداً عبر عشر تغريدات أنّ الموقف الأمريكي الرافض للحلول العسكرية يعكس تلاقي الإرادة الدولية مع تطلّعات الشعب السوداني. هذا الحماس الموجَّه نحو قوى خارجية تناقش شأناً سودانياً في غيابٍ تامّ لأيّ حضور وطني، يطرح تساؤلاً مشروعاً حول سبب غياب الحماسة نفسها حين يتعلّق الأمر بالداخل السوداني، وبقضايا الناس اليومية. 

وبينما تُقابَل الاجتماعات الدولية بالتفاؤل والتصريحات، تأتي الاستجابات لقضايا الداخل بلغةٍ أكثر تحفّظاً وأقل اندفاعاً. على سبيل المثال، أصدر القطاع القانوني لحزب المؤتمر السوداني بياناً في 31 مايو، احتجّ فيه على قرار النيابة العامة في بورتسودان بفرض رسوم إضافية على الإجراءات الجنائية، لكنه لم يخرج عن إطار الاعتراف بالأمر الواقع والدعوة إلى تحسين الخدمة. كما نظّم الحزب حملة توعية لمكافحة الكوليرا، ركّزت على نظافة الأسواق والمساكن، دون أن يصحبها أي طرح سياسي جريء حول من يتحمّل مسؤولية هذه الكوارث المتكرّرة. إنّ ما تقدّمه القوى المدنية من مبادرات خدمية وتوعوية يظل ناقصاً حين يتجاهل سؤال السلطة: من يحكم؟ من يُسائل؟ ومن يدير شؤون الدولة في لحظة كهذه؟ 

صحيح أن هناك حججاً قوية حول من يملك شرعية الحكم. وإذا كان هذا سؤالاً أخلاقياً، فالإجابة هي: لا أحد. لكن التاريخ يعلّمنا مدى سذاجة الاعتزال السياسي بدعوى غياب الشرعية الأخلاقية. على مدى ثلاثين عاماً، تبنّت القوى السياسية المعارضة لنظام الإنقاذ مبدأ عزل النظام دون المشاركة في فعالياته أو التفاوض معه، واحتمت بالمنافي. وكلما طالت الإقامة بالخارج، ابتعدت هذه القوى عن التحليل السياسي الواقعي وفقدت معرفتها بجهاز الدولة. وحين حانت لحظة سقوط النظام، بدت غريبة عن مؤسسات الدولة، تواجه ندرة في الكوادر وضعفاً في الرؤية الاستراتيجية.

أما الشرعية الدستورية، فقد كانت معلّقة على حبل التأويل منذ سقوط البشير في أبريل 2019؛ فقد تأسست الفترة الانتقالية على وثيقة دستورية جرى تعديلها أكثر من مرّة لتتماشى مع تطورات المشهد السياسي، وفي كل مرة لم يكن من عدّلها يملك الشرعية القانونية، حتى وفقاً لمعايير الوثيقة نفسها.

حدَثَ تعديل للوثيقة الدستورية أجراه مجلس السيادة في فبراير 2025، وأهم ما تضمنه هو إلغاء البند (3) من المادة (10) واستبداله ببند جديد يمنح السلطة التشريعية الانتقالية صلاحيات التشريع والرقابة على الجهاز التنفيذي، وتتكون من مجلس السيادة ومجلس الوزراء. وقد جاء هذا «الابتكار» من اقتراح القوى المدنية نفسها في 2019، باعتباره حلاً مؤقتاً لتعذّر تشكيل سلطة تشريعية. وكتبت قوى «الحرية والتغيير» بأيديها صلاحيات هذه السلطة، ثم اقترحت أن يُمثّلها مجلسَا السيادة والوزراء. استفاد الفريق البرهان من هذه «العبقرية»، وعدّل الوثيقة بنفس المنطق؛ كما منحت الوثيقة المعدّلة لمجلس السيادة – بقيادة القائد العام للجيش – سلطات البرلمان والقضاء والسلطة التنفيذية، واستُبدلت كلمة «اعتماد» بكلمة «تعيين» في ما يخص رئيس الوزراء، ورئيس القضاء، ومدير الأمن والمخابرات، وغيرهم.

هذه السلطات تجعل الرقابة والمساءلة صعبة، ولا تمثّل بطبيعة الحال حكماً راشداً، لكن الطريقة الوحيدة لمقاومتها هي بالمقاومة من الداخل، عبر تسمية المسؤولية، وتحديد المسؤولين، ومراقبة أدائهم.

تعيين رئيس للوزراء يفتح لنا – بوصفنا صحافيين – باباً واسعاً للاطلاع على خبايا جهاز الدولة، وسنتعامل معه بجدية وصرامة. من الآن فصاعداً، سنضع رئيس الوزراء تحت المجهر، نراقب أداءه، أفعاله، وأقواله.

Scroll to Top