
في زمنٍ ليس ببعيد، حين كانت شاشة التّلفاز السوداني الوحيدة، تبثُّ لساعات محدودة، كان الأطفال ينتظرون بشغف المُسلسلات التاريخية ليُمثلوا مشاهدها في أزقة الأحياء: يصنعون السيوف من الخشب، والدروع من علب الحليب الفارغة، ويَخوضون معارك مُتخيّلة لا تُسفَكُ فيها دماء.
لكن منذ اندلاعها في 15 أبريل 2023، لم تَعد الحرب على الشاشة. تحوّلت الحياة اليومية للأطفال في السودان إلى مشاهد دامية بلا فواصل إعلانية. لم يعودوا يُقلّدون أبطال الدراما، بل يُراقبون بأسى أبطالهم الحقيقيِّين يسقطون أمام أعينهم، في المدارس والمنازل والشوارع التي كانت يوماً مساحاتٍ للّعب والضحك.
في محاولة لفهم كيف يرى الأطفال هذه الحرب التي فَرَضَتْ نفسها على تفاصيل حياتهم، طلب مراسل «أتَـر» من تلميذات وتلاميذ في مدينتي الدامر وعطبرة وقرية الجباراب بولاية نهر النيل، أن يُعبّروا عن تجربتهم، كتابةً أو رسماً. استجابت التلميذات بنسبة مُقدَّرة مُقارنة بالتلاميذ؛ لذلك تَسرُدُ الصفحاتُ التالية نُصوصاً ورسوماتٍ من تعبير مجموعة من التلميذات وتلميذ واحد، وأغلبهم وافدون من ولايتي الخرطوم والجزيرة اللتين كانتا ساحتين لمعارك دامية خلال السنتين الماضيتين؛ إلى نهر النيل، الولاية المجاورة لولاية الخرطوم، والتي كانت إحدى الولايات المهددة باجتياح الدعم السريع لفترات طويلة.
في الصفحات التالية، نقرأ ونُشاهد الحرب بعين طفل. عينٌ لا تملك اللُّغة السياسية، لكنها تحمل صدق الوجع، وعُمق ما لا يُقال.

ريان خالد بابكر العوض
الصف: الثالث أساس
العمر: 9 سنوات
أُنزِلَت الحرب يوم السبت، في شهر رمضان المبارك الذِي أُنزِلَ فيهِ القرآن.
لا للحرب ونعم للسلام.
كان هنالك في مدينة الخرطوم تدميرٌ شديد.


هشام عبد العظيم الطيب درملي
العمر: 6 سنوات
الصف: الأول أساس
إملاء عن الحرب
أوقفوا صوت السلاح.
لا للحرب.
دمّرت البيوت.
دمّرت المساجد.
دمرت المدراس.
خوَّفت الأطفال.


أحبَّ إليَّ وطني السودان.
أوقفوا حرب السودان.
سأل هشام مراسل «أتَـر» قائلاً:
صحي قالوا وقعت طيرة في عطبرة وكتلت ناس؟
(يقصد: مُسيَّرة).


فدوى السماني
الصف: الرابع
العنوان: قصة عن الحرب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أتحدث لكم عن الحرب.
الحرب التي فرقتنا عن ديارنا وأهلنا وأصدقائنا.
الحرب التي أوقفتنا عن دراستنا وأعمالنا.
أكره الحرب. أكره الحرب.
إن الحرب قاسية.
إن الحرب تقتل أناساً بريئين.
أرجوكم أوقفوا الحرب. أوقفوا الحرب.
أرجو أن تتوقف الحرب، وأن نعود بسلام إلى ديارنا وأهلنا وأصدقائنا.




اشتياق عمر
العمر: 11 سنة
الصف الرابع
أنا أعبّر عن مشاعري
«سيبي يا أقدار عنادك، حِنّي مرة وأرحمينا
يا فرحة ليه طوَّل غيابك والوجع منو اكتفينا»
ربنا ينصر الجيش يا رب، لأني أنا مشتاقة لي الفتيحاب شديد والله، ومشتاقة أشوفها مرة ثانية، وبتمنى أرجع ليها، وبتمنى الجيش ينتصر على الدعامة. ونحن كان ما خايفين يقتلونا كنّا قطّعناهم ريشة ريشة زي الحمامة. وربنا يرحمهم الماتوا، وربنا يرحم أبواتنا وأمهاتنا وأجدادنا وأصحابنا وأحبابنا يا رب العالمين. والله أنا عارفة أي زول مشتاق لي بلدو، وربنا يرجعنا ليها. ونحن هسي في السودان والله حاسين بالأمان، لكن أقول الصراحة برضو مشتاقين لي بلدنا الزمان.




أفراح يحيى أحمد
الصف: الرابع
العمر: 10 سنوات
تعبير عن الحرب
كانت الحرب فجأة في يوم السبت في عام 2023، ونزح جميع الناس من بيوتهم، وسرقوا ممتلكاتهم، ونهبوا أموالهم، وقتلوا أطفالهم، وفارقوا جيرانهم. وكان الناس يعانون من الجوع والعطش، وقد ساعدت المنظمات الطوعية في مساعدة هؤلاء النازحين من مواد غذائية ومعالجة المرضى.
قالت أفراح لمراسل «أتَر»:
«اتعرفت على صديقات جديدات من الخرطوم وأم درمان، وما متضايقة منهم في الفصل».


يقين محمد عبد الله محمد بخيت
10 سنوات
أحبّ مكان وطني السودان.
السودان إشراقة جديدة في إفريقيا وبسمة سعادة.


أحلام سيف الدين عباس حسن
الصف: الثالث
العمر: 9 سنوات
بدأت الحرب في 15/4/2023م يوم السبت 25 رمضان، حين اشتبكت قوات الدعم السريع (الجنجويد) مع قواتنا المسلحة. وكانت البداية من السوق المركزي الخرطوم إلى أن استلمت قوات الدعم السريع العاصمة الخرطوم، وفي أيام قليلة أصبحت العاصمة مهجورة من السكان، وبدأت رحلات النزوح إلى الولايات. وبدأ المواطنون برحلة النزوح إلى الجزيرة بحثاً عن الأمان والمعايش. وبعد شهور قليلة من اندلاع الحرب في الخرطوم، سرعان ما جاءت إلى الجزيرة، ورجع الخوف والجوع والعطش إلى المواطنين مرة ثانية، وبدأت رحلات النزوح مرة أخرى إلى الأماكن الآمنة وإلى خارج البلاد، فبعضهم مات تعذيباً من الجنجويد، وبعضهم مات حسرة على ما حصل لهم ولأهلهم.


منة الله حاتم بله
الصف: السادس
العمر: 12 سنة
تحدّثي عن الحرب
الحرب من أسوأ الأشياء التي مرّت بنا، ولقد تعرّضنا في الحرب إلى أسوأ الأشياء، منها: هجر منازلنا، وسرقة ممتلكاتنا، وصوت المتفجرات والطائرات الحربية من حولنا، ومليشيا الدعم السريع تحاصر المدن وتسرق وتنهب الأسواق والمنازل وتقتل المواطنين، ولذلك اضطر المواطنون لهجر منازلهم والنزوح إلى مناطق أخرى بحثاً عن الأمان. ونسأل الله أن يوقف الحرب، وأن يرجعنا ديارنا، ويعود إلى البلاد السلام والأمان وحرية المواطنين، ونعيش في سلامة وأمان.


محاسن العوض
العمر: 14 سنة
كان السودان بلداً آمناً بنعمة الأمن والأمان في ربوعه إلا أنه في تاريخ 15/4/2023، اندلعت حرب يقاتلون فيها القوات المسلحة السودانية والشعب السوداني الطيب الأمين، هذه ما تعرف بقوات الدعم السريع التي وصفها الشعب السوداني بالمليشيا المتمردة، وما تقوم به من نهب وسرقة وقتل وتعذيب المواطنين نساءً ورجالاً بكل أعمارهم. تدعم هذه المليشيا دولة الإمارات العربية، حيث تدعمهم بإعطائهم كل ما يحتاجونه من موارد وأسلحة حتى يقود هذه المليشيا القائد اللعين محمد حمدان دقلو «حميدتي». بدأت الحرب في الخرطوم، ثم تمددت في مدن في السودان الأخرى.
رغم كلّ هذا، فإن الجيش السوداني لن يستسلم حتى يدمّر هذه المليشيا وكل من عاونهم، والانتقام من كل الدول المساندة لها، كل مرتزقة وعميل في السودان وخارجه. نسأل الله تعالى أن ينصر قواتنا المسلحة السودانية، ويعم الأمن السودان، ويرجع أحسن مما كان.
شعب واحد، جيش واحد.


سلمى عبدالله أحمد
الصف: الثاني متوسط
ويبقى السؤال: هل نحن أحياء؟
أم نتنفّس فقط!
فيمَ يفكر الأطفال؟




بدأت الحرب قبل أن يستقرّ «مفهوم التأريخ» في نفوس الأطفال، حتى اختلط ميعاد بدئها على بعضهم. تظنّ فاطمة أنّ الحرب بدأت يوم 24 مارس 2023. وتكتب رغد (9 سنوات)، أنّها بدأت يوم 15 يناير 2023، حينها كانت رغد في عمر السابعة. تقول رغد: «حتى الآن لن تنتهي مستمرة حتى عام 2025»، وقد مرّ على بداية الحرب عامان، أو ما يقارب ربع عمرها الذي عاشته.







تتذكّر ريان (9 سنوات) جيداً أنّ الحرب بدأت في رمضان: «أُنزِلت الحرب يوم السبت في شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن»، هكذا تقول. ومع ذلك، اختلط تاريخ اليوم الذي تكتب فيه الآن عليها؛ فكتبت العام «24»، ثمّ عدّلته لاحقاً إلى «23». أما وفاء (8 سنوات) فتحسب أنّ الحرب بدأت يوم 20 رمضان. وتكتب طفلة أخرى، ولسان حال الأطفال في مصابهم واحد: «في عام 2023، في يوم 28 رمضان، كان هنالك في الخرطوم كارثة كبيرة».


ربما اختلف الأطفال حول سؤال «متى بدأت الحرب؟»، تماماً كما يختلف الكبار حول «من أطلق الرصاصة الأولى؟»، لكنهم اتفقوا، بلا تواطؤ أو تنسيق، على توصيف معاناتهم: ما اختبره السودانيون جميعاً، كباراً وصغاراً، منذ اندلاع الجحيم.
«الحرب من أسوأ الأشياء التي مرّت بينا، ولقد تعرّضنا في الحرب إلى أسوأ الأشياء، منها تهجير منازلنا وسرقة ممتلكاتنا وصوت المتفجرات والطائرات الحربية من حولنا» كتبت منة الله (12 سنة) في ورقتها. وعنون هشام (6 سنوات) ما كتبه بـ «إملاء عن الحرب» وكتب: «لا للحرب، دمرت البيوت، دمرت المساجد، دمرت المدارس، خوفت الأطفال». وتبدأ فدوى، الطالبة في الصف الرابع، الكتابة قائلة: «أتحدث لكم عن الحرب، الحرب التي فرقتنا عن ديارنا وأهلنا وأصدقائنا».
في نصوصهم، اجتمع الأطفال على مشاهد الخوف والحرمان: النزوح، والتشريد، والنهب، وأصوات الطائرات والرصاص التي تسكن الذاكرة أكثر من أي صوت آخر. أما في رسومهم، فكرّرت الأيدي الصغيرة مشهداً واحداً، يكاد يصبح رمزاً: جسد قتيلٍ بثقوب الرصاص.












تنوعت مواقع القتيل في رسومات الأطفال: تارةً يكون مدنياً قتلته الدعم السريع، وتارةً يكون أحد جنود الدعم السريع المقتولين برصاص القوات المسلحة، وفي رسمٍ آخر، صوَّرَ طفلٌ اثنين من جنود الجيش مقتولين، وكتب فوقهما دعاءً بالرحمة. ورغم اختلاف مواقع القتيل، تبقى صورته ثابتة: جسد مُمدَّد على الأرض، ينزف، وعيناه نصف مفتوحتين، بينما يقف القاتل قريباً منه، يحدّق فيه. لربما رأى الأطفال هذا المشهد بأعينهم أثناء رحلات النزوح، وربما سمعوا تفاصيله تتسرّب من أحاديث الأهل، أو رأوه في مقاطع الفيديو المُتداولة. أياً ان المصدر، فقد سكنت الصورة في مخيّلتهم، وخرجت منهم عبر أقلام الرصاص والألوان.


يعيش هؤلاء الأطفال في ولاية نهر النيل؛ الولاية التي اكتظّت بالنازحين وباتت حدودها، أشهراً متوالية، في مرمى نيران قوات الدعم السريع التي وصلت إلى تخومها قبل أن تتراجع من الخرطوم جملة. جاءت كتاباتهم ورسوماتهم انعكاساً مباشراً لهذه الأجواء الصاخبة: خليطٌ من ذعرٍ حاد ورغبةٍ مُتّقدة في العنف، وربما في الانتقام. تكتب طفلة: «نتمنّى الجيش ينتصر على الدعامة، ونحن كان ما خايفين يقتلونا كان قطّعناهم ريشة ريشة زي الحمامة»، بعد أن بدأت حديثها قائلة: «ربنا ينصر الجيش يا رب لأنو أنا مشتاقة للفتيحاب شديد».




وهكذا، رأى معظم الأطفال الذين خاضوا هذه التجربة في القوات المسلحة حصناً يحميهم، وضمانةً لاستقرار حياتهم الممزّقة. امتلأت رسوماتهم بالدعاء لجنود الجيش، وبشعارات مثل «جيش واحد، شعب واحد»، تترافق أحياناً مع عبارات «لا للحرب» و«نعم للسلام». لكن المقصود، في الغالب، لم يكن السلام السياسي أو المُصالحة بين أطراف النزاع، بل ببساطة أن لا «يخاف الأطفال»، وأن لا «تُدمَّر المدارس» مرةً أخرى.
بطبيعة الحال، ارتبك الأطفال حين اقتربوا من السياسة. تداخل ما سمعوه من الكبار مع ما عاشوه على الأرض، فجاءت رواياتهم مشوشة، لكنها كاشفة. رأى أحدهم أن «معركة الكرامة» بدأت حين «تمرد جيش سوداني يُسمى الدعم السريع على الدولة»، وقال آخر إن الحرب اندلعت عندما «دخلت الخرطوم مليشيات من العدوان الذين أُطلق عليهم اسم الدعم السريع»، بينما رأت إحدى التلميذات أن الشرارة الأولى كانت «مظاهرات من الشعب». واختار طفلٌ آخر أن يختصر الحكاية كلها بجملة حاسمة: «الجيش واحد فقط».
ما الذي يدور في نفوس الأطفال؟
تقول المعلمة صفاء، والمشرفة على طلاب الصف الأول، إن الحرب تركت أثراً بالغاً على التلاميذ، خاصة في شعورهم بالأمان. بعضهم أصبح يقفز مذعوراً عند سماع أي صوت مرتفع، معتقداً أن «مُسيرةً ستسقط»، بينما عبّر آخرون عن خوفهم من أن يصل الدعم السريع إلى مدارسهم ويقتلهم. هذه المخاوف، بحسب المعلمات، انعكست سلباً على التحصيل الأكاديمي لعدد من الطلاب.
ويواجه التلاميذ النازحون إلى ولاية نهر النيل تحدياتٍ إضافية في التكيف مع بيئتهم الجديدة. تقول صفاء إن هؤلاء يعانون من صعوبات في التأقلم، بسبب تردي بيئة المدارس من حيث البنية التحتية وضعف المقاعد، فضلاً عن ارتفاع درجات الحرارة وغياب التكييف في الفصول. وتضيف معلمة أخرى فضّلت عدم ذكر اسمها، أن بعض الطلاب النازحين يُواجهون أيضاً مشكلات في الحصول على الطعام والمأوى، وتحدث أحياناً خلافات بسيطة بينهم وبين الأطفال المقيمين أصلاً في المنطقة.
ورغم هذه الظروف، تُشير صفاء إلى أن الطلاب النازحين يُظهرون قدراً كبيراً من الانضباط والتفوق والتعامل الجيد مع المعلمين، في مشهد يعكس إرادتهم في تجاوز المحنة.
لكن التفاعل مع الحرب يختلف من طفل إلى آخر، تبعاً لبنيته النفسية. توضح د. ياسمين إسماعيل، الاستشارية النفسية بجامعة الأحفاد، أن بعض الأطفال يعبّرون عن الخوف بالعنف أو العدوانية، ويلجأون إلى اللعب القتالي وسيلةً وهميةً للدفاع عن النفس. بينما ينزوي آخرون في صمتٍ وعزلة، نتيجة الفقد وتغير البيئة. وقد تظهر لدى بعضهم سلوكيات مُرتبطة بالقلق، مثل كثرة الكلام والحركة والأسئلة، أو أعراض لا إرادية كالتبول الليلي.
وتؤكد د. ياسمين أن نسيان الأطفال لما عايشوه ليس أمراً مضموناً؛ إذ يعتمد استحضارهم للذكريات على أعمارهم ومدى إدراكهم للحظة الصدمة، إضافة إلى شدة الحدث نفسه. وقد يظل الأثر النفسي ماثلاً لسنوات، ما لم يُعالَجْ في وقت مبكر. وتنصح د. ياسمين الأمهات بالحوار الدائم مع أطفالهن، لمُساعدتهم على فهم وتفكيك ما تختزنه ذاكرتهم من مشاهد وأصوات وصدمات.