
بعد أن سيطرت قوات الدعم السريع على نيالا حاضرة جنوب دارفور في 26 أكتوبر 2023، وزالنجي حاضرة وسط دارفور في 31 أكتوبر 2023، ومن ثم الجنينة حاضرة غرب دارفور في نوفمبر من العام نفسه؛ وجَّهَتْ أنظارها نحو الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور، التي ظلّت بمنأى عن المواجهات طوال عام الحرب الأول إلا من اشتباكات قليلة متفرّقة. وقد استقبلت المدينة آلاف الفارّين من ولايات دارفور الأخرى، وشهدت منذ الأيام الأولى للحرب مبادرة أهلية نجحت في عقد اتفاق تهدئة هشّ بين الجيش والدعم السريع، يقضي بوقف إطلاق النار وتقاسُم السيطرة على شرق المدينة وغربها مع إبقاء وسطها منطقة عازلة. إلا أنّ هذا الاتفاق انهار في أبريل 2024، حين اندلعت الاشتباكات مجدداً، ووجد السكان أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: حمْل السلاح للدفاع عن النفس أو مواجهة الموت.
منذها عمَّتْ المظاهر العسكرية المدينة، وأصبح لون الكاكي هو الأبرز في شوارع الفاشر، بعد أن تدافَع المواطنون تجاه القيادة العسكرية للاستنفار، ليجدوا أنفسهم في الصفوف الأمامية مع قوات الجيش، مُدافعين بالسلاح أو متطوّعين لعلاج المصابين في الميدان، أو مُلبّين للحاجة الإنسانية بالمدينة التي ظلت تعيش تحت وطأة حصار خانق.
عليَّ المحافظة حتى على دمي، فإذا لم أصَب وأنزف أستطيع التبرّع للمصابين
ظل علاء الدين يوسف، أحد شباب الفاشر، خلال فترة الهدنة، يُباشر نشاطه الرياضي بشرق المدينة، التي تسيطر عليها الدعم السريع. يقول لـ «أتَـر»، إنّ بعض جنود الدعم السريع كانوا يلعبون معهم كرة القدم، رغم الحذر الذي يشوب علاقة السكان بالجنود. لكن استهداف الدعم السريع الممنهج للمواطنين وتصاعُد الأحداث في الفاشر في أبريل 2024، دفع علاء الدين لاتخاذ قرار حمل السلاح مع أقرانه بالحي، وبدأوا في تتريس الشوارع وإغلاق الطرق الرئيسة، وبالتنسيق مع القوات المسلحة أصبحوا يقضون أوقاتاً في الارتكازات.
ويقول علاء الدين إنه شارك في عدد من المعارك بعضها دار بعيداً عن محل سكنه، وحين لاحظ اتساع الفجوة في العمل الإنساني، اضطرّ إلى وضع السلاح ليعمل متطوعاً في إسعاف جرحى المعارك. يضيف: «عليَّ المحافظة حتى على دمي، فإذا لم أصَب وأنزف أستطيع التبرّع للمصابين».
يعمل محمد عشري معلّماً بالمرحلة الثانوية بالفاشر، وقد اضطرّ إلى حمل السلاح منذ يونيو الماضي للدفاع عن نفسه وأرضه، وعن إرث إنسان الفاشر وحاضره كما يخبر «أتَـر»، دون أن ينتمي إلى أيٍّ من المنظومات المُحارِبة في صفّ الجيش، سواءٌ أكانت حركات مسلحة أم مقاومة شعبية، ويقول إنه كان ولا يزال على موقفه الرافض للحرب.
«لقد اشتريتُ سلاحي بحُرّ مالي، وما زلتُ أشتري الذخيرة للدفاع عن كرامتي التي انتهكتها الدعم السريع»، يضيف عشري الذي فقد شقيقته الكبرى برصاص الدعم السريع عند هجومها على منطقة سلّومة غربي الفاشر في فبراير الماضي.
ومع ذلك، لم يختلف موقف عشري عن بقية المشاركين، بهدف الدفاع والحماية، فهو يأتمر بأمر القوات المسلحة في المعارك، ويعود إلى الارتكاز مع شباب حيّه، ويقول إنّ موقفه الرافض للحرب والداعي للسلام مشروط بتحقيق العدالة ومحاسبة المتورّطين في تأجيج الحرب واستمرارها. «حتى يأتي الوقت الذي يُحاسَب فيه من انتهكوا إنسانيتنا، لن أضع السلاح»، يضيف.
يعمل محمد عشري معلّماً بالمرحلة الثانوية بالفاشر، وقد اضطرّ إلى حمل السلاح منذ يونيو الماضي للدفاع عن نفسه وأرضه، وعن إرث إنسان الفاشر وحاضره، دون أن ينتمي إلى أيٍّ من المنظومات المُحارِبة في صفّ الجيش، سواءٌ أكانت حركات مسلحة أم مقاومة شعبية، ويقول إنه كان ولا يزال على موقفه الرافض للحرب
قبل نشوب الحرب، كان الطالب الجامعي محمد عبد الله يدرس بإحدى جامعات الخرطوم، ويعمل بعد انقضاء يومه الدراسي في كشك صغير بالقرب من الجامعة. ومع تعليق الدراسة بالجامعات من حين إلى آخر بسبب اندلاع الثورة السودانية وجائحة كورونا إضافة إلى أسباب أسرية، عاد محمد إلى مدينته الفاشر ليعمل في مجال البناء عامل يومية، ولأنه يهوى التصوير الفوتوغرافي ادّخر مالاً لشراء كاميرا، وإنشاء مركز للإنتاج الإعلامي. قرّر محمد العودة إلى الدراسة الجامعية عقب شهر رمضان لكن الحرب اندلعت حينها وقطعت عليه الطريق لتحقيق أحلامه.
ظلّ محمد يجوب دُور الإيواء للوقوف على احتياجات النازحين ونشرها مع الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لجمع التبرّعات، حتى اتهمته الدعم السريع بالتخابر مع الجيش وصادرت الكاميرا، لكنه استطاع إثبات براءته. وبسبب تحرّكاته في مراكز الإيواء واجه اتهامات من جميع أطراف الحرب. يقول لـ «أتَـر» إنه حتى مارس 2024 كان ضد الحرب وله تحفظات تجاه جميع أطرافها المتحاربة لأنه تأذّى من الجميع.
بعد اشتداد الصراع في أبريل 2024، شهد محمد على استهداف الدعم السريع لمراكز الإيواء ومعسكرات النزوح في المدينة، إضافة إلى التدوين العنيف من قِبل الدعم السريع الذي استهدفت إحدى موجاته منزل أسرته الذي كان يحتمي به عدد كبير من الفارّين، واستشهد جراءه خاله وقرابة 20 شخصاً بينهم نساء وأطفال.
لقد كان محمد شاهداً على الحادث، ورأى أشلاء من مات وأنقذ من تبقّى، ولم يجد خياراً أمامه سوى الاصطفاف مع الجيش السوداني لحماية الحيّ ثم المدينة، وشارك في العديد من المعارك أكبرها في فبراير الماضي، عندما تراجع المرابطون في الصفوف الأمامية بعد تقدّم الدعم السريع حتى حي الرديف، وقد أفلحوا بعدها في إعادة الارتكاز إلى مكانه الأول في أقصى غرب المدينة. يقول محمد إنه يعتبر الجيش مؤسّسة شرعية بموجب الدستور السوداني، مع تحفّظه على بقية المكونات التي تقاتل داخل الفاشر.
يتوزّع السكان على الارتكازات بحسب وضعهم الاجتماعي، فالمتزوّج منهم يغطي ساعات الصباح فقط ويعود إلى بيته ليلاً وبينما يسهر الشباب. وهم يضطرّون إلى شراء الذخيرة من مالهم الخاص لسدّ النقص فيها
وبحسب محمد، يتوزّع السكان على الارتكازات بحسب وضعهم الاجتماعي، فالمتزوّج منهم يغطي ساعات الصباح فقط ويعود إلى بيته ليلاً وبينما يسهر الشباب. وهم يضطرّون إلى شراء الذخيرة من مالهم الخاص لسدّ النقص فيها، لأن الجيش يوزعّ الذخيرة عند المعارك فقط، وهي لا تكفي في ظل هذا الوضع.
يقول محمد إنّه والمستنفرون معه لا يحبّون الزي العسكري لكنهم مضطرّون إلى ارتدائه، فليست لديهم أزياء مدنية ولا يستطيعون شراء ملابس جديدة لارتفاع أسعارها وانعدام الدخل، ويضيف أنه لن يبرح المدينة ولن يضع السلاح حتى توقُّفِ الحرب أو يفنى مدافعاً عنها مدينته.
ومثل سابقيه، كان الناشط بشير سفيان ينظر إلى الحرب في بداية اندلاعها بحسبانها خلافاً بين جنرالين على السّلطة والثروة حتى سقطت معظم ولايات دارفور تحت سيطرة الدعم السريع وارتكبت انتهاكات في حقّ المدنيين في مدن الإقليم المختلفة.
اشترى سفيان قطعة السلاح بحُرِّ ماله ثم اتجه إلى القيادة لإعلان انضمامه إلى كتائب الإسناد الشعبي، وحتى بعد خروج أفراد أسرته بقي مع أبناء عمومته وبقية إخوته وأصدقائه في المدينة، وقال إنهم يقتسمون دعم أقربائهم مع زملائهم داخل المدينة لتلبية احتياجاتهم جميعاً دون فرز. شارك سفيان في أغلب المعارك منذ انخراطه في المقاومة في مايو 2024. ويقول في حديثه لـ «أتَـر»، إنه لن يكفّ عن الدفاع حتى تضع الحرب أوزارها مع ضمان العدالة والسلام في جميع أنحاء السودان.
وبحسب حديثه، يبقى المقاومون في الارتكازات مع أفراد الجيش بالزي المدني، وأحياناً يرتدون فنايل وزّعتها لهم القيادة بالمدينة. ويُشارك المستنفرون مع الجيش السوداني في ارتكازات الأحياء ومداخلها الرئيسة مع إغلاق بقية المداخل؛ ويتولّون تفتيش المارة والتحري معهم لمعرفة مقاصدهم داخل الحي، ورغم ذلك يؤكّد سفيان انتشار القناصة داخل أحياء الوحدة والسلام حيث ظلوا يرعبون السكّان برصاصهم حتى اضطر معظمهم إلى الفرار إلى أحياء جنوب غرب الفاشر في يونيو الماضي.
اتجه عباس الشريف، وهو من شباب المدينة مباشرة إلى المستشفى الجنوبي للتطوع، وبعد اشتداد وتيرة الصراع خرج إلى دولة تشاد وظل يتابع الأحداث من هناك، وأضاف أن موقفه تجاه الحرب كان ثابتاً منذ البداية، فهو يرى ضرورة القضاء على الدعم السريع لأن دارفور ذاقت ويلاتها سنين عدداً، لكن تنظيمه تحت مظلة جيش تحرير السودان (مني أركو مناوي) الجناح السياسي، كان يمنعه من المشاركة، وبعد تغيير الحركة موقفها، وخروجها من الحياد، اتجه إلى جبهات القتال بصحراء شمال دارفور ثم خرج ثم عاد من جديد قبل شهرين.
يقول عباس إنهم في الجناح السياسي لم يشاركوا في المعارك من قبل، لكن الوضع الآن مختلف، مشدّداً على مشاركة كلّ قادر على حمل السلاح حتى لا تسقط دارفور في يد الدعم السريع، وأضاف أنه لن يضع السلاح حتى تحرير كلّ شبر من أرض السودان وإعادة السلطة إلى المدنيين تحت حماية جيش مهني يجمع أطياف الشعب المختلفة.
يقول عباس إنه كحال غيره، قطعت الحرب طريق آماله واحلامه، وفقد فيها خيرة أصدقائه شهداء، لكن يبقى الدافع الأكبر هو دفع الظلم الذي مارسته قوات الدعم السريع طوال السنوات الماضية.
مثلما تحوّلت الفاشر إلى جبهة عسكرية، تحوّلت كذلك إلى رمز لممانعة شعبية تُدافع عن فكرة السودان المدني، المتعدّد، والعادل. وفي غياب أي أفق لحل سياسي شامل، تبقى مقاومة الفاشر شاهداً على عمق الرفض الشعبي لمحاولات فرض القوة كأداة وحيدة للحكم، وتأكيداً على أنّ نهاية الحرب لا يمكن أن تأتي من فوهة البندقية وحدها، بل من عدالة انتقالية تُحاسِب وتُصلح، وتُعيد السُّلطة إلى أصحابها الحقيقيّين: المدنيّين.