
لم تسجِّل مناطق دار الريح، التي تتوسّط أربع ولايات في السودان، طوال سنتي الحرب، خروقاتٍ أمنية وعسكرية محسوسة، وبقيت بمنأى عن ويلات الحرب وأهوالها المريعة، التي انخرطت فيها أطراف ومناطق عدّة بالبلاد، على الرغم من وقوع طريق مُمهّد ومفتوح لإمدادات الدعم السريع داخل حدودها، وجسر حيويّ لجنودها صوب الخرطوم. نجت المنطقة، إذن، بجغرافيتها الواسعة وتعدُّد مجاميعها السكانية المتباينة، من السقوط في براثن الحرب المُكلفة، رغم ترشيحها الباكر لأنّ تكون في خضمّ دائرة القتال، بما هو عليه حال المنطقة من هشاشة اقتصادية وأمنية، وتهميش موروث على الدوام.
ترقد المنطقة التي تعارَفَ عليها سكان كردفان باسم «دار الرّيح»، إشارة إلى الشمال الجغرافي بوجهٍ عام، على السهول والكثبان الممتدة في المربع الرملي الساحر الذي يبدأ من غربيِّ نهر النيل في دنقلا وأم درمان، وتمتدّ غرباً حتى عمق المضارب الواسعة في ولاية شمال كردفان من الجهتين الشمالية والشرقية، المُقابلة لمدينة الأبيّض عاصمة الولاية، وتتماسُّ مع ولاية النيل الأبيض في بعض المناطق غربيّ مدينة الدويم، ثم تمتدّ شمالاً حتى تخوم الصحراء الكبرى في شمال دارفور، ويقطنها عددٌ كبيرٌ من المواطنين من مُختلف المجموعات القبَلية، منها دار حامد وبني جرّار والكبابيش والمجانين والشويحات والكواهلة والجوامعة والدواليب والبزَعة والهواوير وزغاوة كَجْمَر. وأهم حواضرها «حَمرة الشيخ» و «المَزْروب» و «أم بادِر» و «سودَري» و «الجبال البحرية». وتتنوّع مصادر عيش السكّان فيها، ومنها مهنٍ أساسية كالرعي، إذ تمتلك أفضل أنواع الماشية من إبل وضأن، ومن ثمّ الزراعة المطرية. ويزرع الأهالي غلال السمسم والدخن والذرة وحبّ البطيخ. ولجأ شباب المنطقة، مؤخراً، إلى تحسين أوضاعهم المعيشية، بالعمل في آبار ومناطق التعدين الأهلي، بحثاً عن الذهب وعن فرص جديدة في الحياة.
دار عبور، نعم.. دار قتال، لا
منحت حاجة الدعم السريع للمرور العسكري، صلابةً نوعيةً مشوبةً بحذرٍ قلق، في التعامل مع مجموعات القبائل في دار الريح، ولم تُسجَّل ضدها خروقات أو اعتداءات تُذكر، حفاظاً على روابط العلاقة التي تسمح لقواتها بالمرور بسلام دون قتال
«عندما اندلعت الحرب، كانت دار الريح بعيدة عن نيرانها، لكنها تُعدّ منطقة ذات بعد استراتيجي، لأنها ممرّ يربط شمال دارفور بالعاصمة الخرطوم، وأغلب الطرق تمرُّ بها، خاصة حَمرة الشيخ وأم بادِر وسودَري»، يقول محمد المبروك متحدّثاً إلى «أتَـر» وهو أحد أبناء المنطقة وباحث وكاتب؛ ومن ثم يُضيف: «لكونها ممراً لقوات الدعم السريع، أصبحت في دائرة التركيز وتداول الأخبار النشطة، علاوة على أنها أصبحت كذلك ممرّاً حيوياً لقوافل المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية إلى شمال دارفور وكردفان، بعد تعطّل شبكة الطرق القومية الرئيسة».
وقد منحت حاجة الدعم السريع للمرور العسكري، صلابةً نوعيةً مشوبةً بحذرٍ قلق، في التعامل مع مجموعات القبائل في دار الريح، ولم تُسجَّل ضدها خروقات أو اعتداءات تُذكر، حفاظاً على روابط العلاقة التي تسمح لقواتها بالمرور بسلام دون قتال. وساعَد غياب تشييد حاميات ومعسكرات تتبع للجيش، واقتصار وجود الدولة الأمني بالمنطقة فقط على مراكز الشرطة وأقسامها، على تجنيب دار الريح مواجهات مباشرة بين طرفي الحرب، إذ هاجمت الدعم السريع مقارّ الجيش في مناطق أخرى، رغم امتلاك الدعم السريع مطارات حربية ترابية وقواعد إمداد لوجستي في مدن «أم بادر» و«حمرة الشيخ» تعامَل معها الجيش بضربات متكرّرة وعنيفة وطلعات ناجعة من الطيران الحربي.
هذا المعطى، يقول المبروك، كان مفيداً للمنطقة، لا سيّما أنّ طبيعة هذه القبائل قتالية في المقام الأول وشرسة، ولو أحسَّت بأي عداء تجاه الدعم السريع فسوف تقطع طريقه من الخرطوم وإليها؛ لذا نشأت صيغة من التعايش بين الدعم السريع وقبائل دار الريح، حتى بعد مرور سنتين على الحرب. فمع بداية الحرب، انخرطت المجموعات القبَلية في سباق تسلّح محموم، وامتلكت أسلحة حديثة وثقيلة، بمباركة النظّار وزعماء العشائر وتحت أنظارهم، لا تقلّ عن تسليح الجيش والدعم السريع، وفي السابق كان السلاح مقصوراً على البنادق الخفيفة لحماية القطعان والمراعي وصدّ اللصوص.
بدَوره يعزو محمد بدوي، أحد سكّان منطقة المزروب، التفاهمات بين المكوّنات الاجتماعية لمناطق دار الريح والدعم السريع إلى أوقات سابقة من العام 2014، في أعقاب هجوم الجبهة الثورية على منطقة «أب كرشولة» ولجوء أغلب النازحين، الذين شكّلوا غالبية مستنفري الدعم السريع بعد الحرب، إلى حواضر دار الريح التي أصبحت ملاذاً آمناً لهم. ففي مايو 2023 شهدت مدينة الرهَد اعتداءاتٍ سرعان ما توقّفت حينما ثار سكّانها على ما حدث، وانسحبت عناصر الدعم السريع إلى خارج المدينة على شارع الإسفلت وشمالاً باتجاه مناطق دار الريح، كما يخبر بدوي في حديثه إلى «أتَـر»، ويضيف أنّ علاقات إنتاج المجموعات القاطنة في دار الريح زراعية في المقام الأول، ما جعلها بعيدة عن المجموعة الرعوية بالإقليم، المنخرطة في الدعم السريع؛ إضافة إلى أن حواضرها تقع ضمن المعبر اللوجستي للدعم السريع في بداية الحرب، والذي يمتدّ من الحدود مع أفريقيا الوسطى إلى القصر الجمهوري آنذاك – بحسب وصفه – مروراً بغرب أم درمان.
حياة شبه طبيعية وتفلّتات أقلّ
يُخبر الهادي النعيمة، من أهالي قرية «أم جُمُط» غرب أم بادر، أنّ جنوداً مستنفرين يتبعون للدعم السريع، خلال الشهور الأولى من الحرب، يمتطون المواتر المدجّجة بالسلاح، قتلوا شخصين من أقاربه، بعد أن اعترضوا عربة «لوري» عائدة من سوق بارا الكبير ونهبوها بالكامل على تخوم الوصول إلى القرية. يقول: «تجمَّع الأهالي في جامع القرية، وشكّلوا وفداً، لا يحمل أفراده سوى السِّبَح تكرّ تحت الأصابع، لمخاطبة قائد المجموعة، لكنها أردت رجلين من الوفد ولاذت بالفرار».
تجمَّع الأهالي في جامع القرية، وشكّلوا وفداً، لا يحمل أفراده سوى السِّبَح تكرّ تحت الأصابع، لمخاطبة قائد المجموعة، لكنها أردت رجلين من الوفد ولاذت بالفرار
ويضيف النعيمة في حديثه إلى «أتَـر»، أنّ قلّة أحداث العنف بالمنطقة، مقارنة مع أجواء الحرب والترويع التي تسود البلاد، تعود إلى لُحمة التحالفات المتينة التي انخرطت فيها مجموعات دار الريح وتأمينها الطرق والمعابر بالارتكازات، وانشغال الناس بالزراعة والرعي، لذا لم تتأثَر الحياة كثيراً بالحرب. ويقول إنّ المواطنين في المدن الكبيرة لم ينزحوا إلى مناطق دار الريح، وظلّت أسواق أم دَوْرْوَر، تعمل كالمعتاد، لكن وفق نظام التبادل السلعي والتجارة البكماء، بسبب شُحِّ النقود في غالب الأحوال. وقد أسهم نمط العيش المحلي التليد والإنتاج المنزلي المتوارث في القرى والأرياف، كتربية الدواجن المنزلية والماعز ووفرة مخزون الذرة والدخن، وغيرها من المنتجات المحلية، في تخفيف وطأة العيش، وأبعَدَ الناس عن شبح الجوع، فضلاً عن توفر الدوانكي المزوَّدة بالطاقة الشمسية، وحفائر مياه الشرب للناس والبهائم سواءً بسواء.
ويصف حافظ آدم ويقطن حاضرة المزروب الأوضاع فيها وفي مدن حَمرة الشيخ وأم بادر بالجيدة، وأنها استطاعت تحاشي التوترات العسكرية طوال سنتين. ويقول: «عدا طلعات قصف الطيران قبل أشهر، عاش مواطنو المدن الواقعة في دار الريح حياتهم على نحوٍ طبيعي، واستطاعوا تدبير معايشهم وتجارتهم وأمنهم، رغم فقدان بعض المهن مثل التعدين والتجارة مع الخرطوم والنيل الأبيض ومدن دارفور»؛ لكنه يتخوّف من أن يؤدّي خروج الدعم السريع من جنوب أم درمان وغرب النيل الأبيض وتمركز قواتها في حَمرة الشيخ ومناطق دار الريح الأخرى المتاخمة لشمال كردفان، إلى اندلاع المعارك في المنطقة وانتقال عدواها من المدن المتاخمة.
أسهم نمط العيش المحلي التليد والإنتاج المنزلي المتوارث في القرى والأرياف، كتربية الدواجن المنزلية والماعز ووفرة مخزون الذرة والدخن، وغيرها من المنتجات المحلية، في تخفيف وطأة العيش، وأبعَدَ الناس عن شبح الجوع
طرق معبَّدة بخفارة السلاح

الطرق التي تعبر دار الريح
يخبر المبروك أنّ المسائل المرتبطة بالمعيشة صارت أكثر صعوبة، لعزلة المنطقة وانقطاعها، وبدا أنّ هنالك مصدرين للمواد الغذائية، من جهة ليبيا، وهي مسافة قريبة، ومن ثم مدينة الدبة في الولاية الشمالية، عن طريق القوافل التجارية التي تتحرّك بحماية القبائل نفسها، وتشمل الغذاء والدواء ومدخلات الإنتاج، ثم تتسرّب هذه البضائع إلى الأسواق الصغيرة المعروفة بأم دَوَرْوَر على ظهور السيارات، لتتوزّع حسب أيام الأسبوع لكل منطقة، وبذلك ضمنت المنطقة استقراراً نسبياً في المعيشة. لكنّ توقُّف نشاط التعدين، وهو مصدر دخل أول، بسبب غلاء أسعار المدخلات والوقود والظروف الأمنية، أدّى إلى تحول المعدِّنين إلى جنود ارتكاز.
«يُستجلب الوقود منذ وقت مبكر من الكفرة الليبية، ويُستخدم في استخراج المياه من الآبار الجوفية ومن بحيرة أم بادر التي تغذّي المدن عبر التناكر المتحركة»، يقول المبروك، ومن ثم يضيف: «لم تتأثّر قطعان الثروة الحيوانية بظاهرة السلب والنهب، لأنها موجودة في الفلوات البعيدة، لكنها تأثّرت بمنع الدعم السريع انتقالها إلى مناطق سيطرة الجيش، ومن ثم للتصدير».
ويعود محمد بدوي بالقول إنّ مناطق الإنتاج بشمال كردفان، تأثّرت كثيراً بالحرب في الخرطوم، ما خلق كساداً في أسواق المحاصيل ومنتجات المنطقة الزراعية. يقول بدوي: «كانت مدينة ود مدني، قبل سقوطها في يد الدعم السريع، تغذّي مناطق كثيرة بالمواد الغذائية، وجزء منها يأتي إلى شمال كردفان وآخر إلى جنوب كردفان». ويضيف: «في فصل الخريف السابق استخدم المزارعون من مناطق دار الريح التركترات والترلّات في نشاطهم التجاري للحصول على عائدات مالية للعيش، كانت تصل حتى مناطق الترتر في جنوب كردفان».
مع مشاعية السلاح وتدفّق الذخائر في أيدي الجميع، وامتلاك القبائل أسلحة ثقيلة، تضاعفت أسعار تأمين الشاحنات وتطويفها على الطريق الممتد بطول 1200 كلم عبر الصحراء، من مدينة الدبّة بالولاية الشمالية إلى دارفور وكردفان، مروراً بمدن دار الريح وطرقاتها بأوديتها الوعرة وكثبانها الرملية وجبالها الشاهقة، وهو طريق قديم منسيّ، استعادته الحرب الأخيرة. وارتفعت قيمة خفارة الشاحنة الواحدة من 6 ملايين جنيه، بداية الحرب، إلى أكثر من من 15 مليون جنيه بنهاية العام المنصرم في 2024. ورغم إعلان حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، من مدينة دنقلا في 10 يناير 2025، عن اتجاهه لتشكيل متحرك لفتح الطريق بين الولاية الشمالية وشمال كردفان، لا تزال الطرق موصدة بحواجز الارتكازات المسلحة التي لا تسمح بالمرور إلا بعد دفع مبالغ نقدية باهظة وجبايات عدّة.
يُخبر أحمد الصادق، وهو سائق شاحنة متنقلة، وخبير في طرق دار الريح، أن السّلطات في مدينة الدبة تفرض رسوماً تتجاوز مليون جنيه عن كل شاحنة، تشمل رسوم نظافة ودعم استنفار، كما تتقاضى الإدارة الأهلية لقبيلة الكبابيش مبلغ 500 ألف جنيه عن كلّ شاحنة تمرّ بارتكازات مدن أبو زعيمة وأم بادر وغيرهما من المدن التي يعبرها طريق الشاحنات. يقول الصادق مخبراً «أتَـر»: «تحمل الشاحنات مواد غذائية متنوّعة منها الدقيق والأرز والعدس والمكرونة والوقود والمياه الغازية والسكر، فهناك طرق تذهب إلى مليط عبر حَمرة الشيخ وكوبري أبوزعيمة وأم كريدم ومنها إلى ساري وهجليج والكومة في شرق دارفور، وأخرى تتجه من الدبة إلى وعرة التوم وأم سيالة ومنها إلى الدويم عبر مثلث جبل أولياء، أو إلى المزروب والنهود وغبيش ومنها إلى دارفور، وجميع هذه الطرق تجابه كثيراً من الارتكازات المسلحة التي تفرض جبايات كثيرة ورسوم تطويف باهظة».