أتر

سوق الدواء في السودان: حياة على أمل مُهرّب

قبل اندلاع الحرب في أبريل 2023، كان السودان يُواجِهُ صعوباتٍ مُتزايدة في تأمين احتياجاته من الأدوية، لكن أجهزت الحرب على ما تبقّى من بنية القطاع الصحي، فتعرّضت منظومته لضربات قاضية شلّت قدرته على الإنتاج والاستيراد والرقابة، ما حوَّل الأدوية والمحاليل والحُقن إلى سلع نادرة، باهظة الثمن، بل وخطيرة أحياناً.

في ظل هذا الانهيار، ظهرت طبقة جديدة من «المزوِّدين» الذين يسدّون الفراغ: مهرّبون، وسطاء، وصيادلة سابقون، يعرضون بدائل دوائية مُستوردة من مصر وجنوب السودان ودول أخرى، تُنقل عبر المعابر البرية أو تُهرّب داخل حقائب من المطارات.

من عطبرة إلى الخرطوم، ومن كوستي إلى نيالا، تتكرّر الحكاية ذاتها: مرضى يبتلعون الوهم في أقراص مجهولة المصدر، وأطباء يكتبون وصفات وهم يعلمون أنها لن تُصرف، وصيادلة يكافحون لأداء واجبهم المهني في سوق تتراجع فيه الأخلاق لصالح الربح.

قبل الحرب: نظام دوائي هش

لم تكن أزمة الدواء في السودان وليدة الحرب الحالية وحدها، إنما امتدت جذورها لسنوات سبقت الرصاص، حين بدأ القطاع الصحي يفقد توازنه تحت ضغط الأزمات الاقتصادية، وشُح النقد الأجنبي، والاعتماد شبه الكلي على الاستيراد. وبحسب إحصائيات وزارة الصحة السودانية، فإن أكثر من 90% من الأدوية المُستخدمة في البلاد كانت مستوردة من الخارج حتى عام 2022، بينما ظل الإنتاج المحلي يغطي بعض الأصناف الأساسية، في ظل ضعف المصانع الوطنية وغياب الحوافز. وكان الصندوق القومي للإمدادات الطبية، وهو الجهة المسؤولة عن توفير الدواء للمؤسسات الحكومية، يُعاني من تأخُّر في التمويل، ما أدى إلى تكرار أزمات الندرة في الأدوية المُنقذة للحياة، مثل الأنسولين وأدوية الأمراض المزمنة والمحاليل الوريدية.

حينها، بدأت الصيدليات الخاصة تُعاني بدَورها من غلاء الأسعار، وازداد اعتماد المواطنين على «دواء السوق»، أي ما يُجلب عبر وسطاء خارج قنوات الدولة، وهو ما مهّد الطريق لاحقاً لانفجار سوق التهريب بعد اندلاع الحرب. ولم يكن الوضع القانوني أو الرقابي صارماً بما يكفي، إذ تسرّبت كميات من الأدوية من دون شهادة منشأ أو رقابة مخبرية. ومع ذلك، بقي القطاع الصحي مُتماسكاً نسبياً في العاصمة وبعض المدن الكبرى، قبل أن تسقط البنية كلها في دوامة الحرب.

الكُوكُو: مزيج الأمل والسم

نتعامل بما يُعرف باسم «الكوكو»، وهذا مصطلح نستخدمه للإشارة إلى الأدوية المهرّبة، وهو مشتق من كلمة Corruption. والسبب بسيط: لا يوجد بديل حالياً

في ظل هذه الأزمة الدوائية الحادة، اندلعت الحرب، فتوقفت معظم الشركات المُستورِدة ودُمّرت مصانع الأدوية المحلية، وبدأ سوق التهريب في الصعود بديلاً أساسياً لتوفير الدواء. وهو سوق كان موجوداً في الخفاء قبل الحرب، لكنه أصبح اليوم الوجه العلني الوحيد لتوفير الدواء في السودان رغم مخاطره الصحية والإنسانية.

منى أحمد، صيدلانية تعمل في مدينة عطبرة، تحدّثت لـ «أتَـر» عن الواقع الصعب الذي يواجهه القطاع الصحي قائلة: «نحن نتعامل بما يُعرف باسم «الكوكو»، وهذا مصطلح نستخدمه للإشارة إلى الأدوية المهرّبة، وهو مشتق من كلمة Corruption. والسبب بسيط: لا يوجد بديل حالياً. انسحبت معظم شركات الأدوية من السوق بسبب الحرب، ما أجبرنا على العمل بهذه الطريقة. إذا لم نفعل ذلك، فلن يتوفر أي دواء للمريض، سواء أكان جيداً أم سيئاً».

وتفسّر منى غياب الرقابة من قبل الصيادلة بأنه لا يوجد شيء ليُراقبوه، وترى أنّ الوضع واضح للجميع: «نحن نميِّز بين الدواء المسجَّل وغير المسجَّل، لكن الدواء المسجَّل اختفى كما ذكرت. والصيدليات وأصحابها ضحايا مثلهم مثل المواطنين، لأنه ليس بيدهم شيء يمكنهم فعله».

وقد اضطر المرضى بدورهم للتكيف مع هذا الواقع، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري، بعد أن استغرق معظمهم وقتاً ليعتادوا على التغيير. تقول منى: «في البداية، كانوا لا يقبلون الدواء بشكله المختلف، لكن لا بدّ من تناول الجرعة، لذلك بدأ الناس في تناول الأدوية المتاحة دون نقاش».

ولا تغفل منى عن التعقيدات الأخلاقية لما يجري في سوق الدواء، نظراً إلى أنّ أخلاق المهنة تحتّم على الصيادلة تقديم الجيد والمضمون للمريض، لكنها ترى أنّ موضوع المهنية والأخلاقية نسبيّ: «أرى أنني مسؤولة أخلاقياً ومهنياً عن تقديم شيء للمريض. والدواء المسجّل غير متوفر. ماذا نقول للمرضى؟ يجب علينا تقديم الدواء لهم».

ما يمكن القيام به الآن لحل المشكلة كما تقترح منى، هو أن تحصل شركات الأدوية الحكومية أو الخاصة على تسهيلات عاجلة من الحكومة لجلب هذه الأدوية من دول الجوار، أو على الأقل فحص الأدوية الموجودة حالياً من قبل وزارة الصحة لحظر الفاسد منها وتسجيل الصالح، وذلك لتوفير الأدوية بطريقة نظامية.

انقطاع الكهرباء يقضي على ما تبقى

وعند وصول الأدوية المهرّبة إلى الصيدليات في أغلب مدن السودان تكون عرضة للفساد، إذ لا توجد كهرباء مستقرة أو لا توجد أساساً، ولا يتوفر الوقود لاستخدامه في المولدات. من منطقة الحاج يوسف بولاية الخرطوم، وهي إحدى المناطق المتأثرة بانقطاع الكهرباء ونُدرة الوقود منذ بداية الحرب، تحدّث لـ «أتَـر» الصيدلي مروان الطيب عن ما تكابده صيدليته والأدوية فيها من شدّة الحرارة، إذ فقدت أغلب الأدوية فاعليتها، بسبب بظروف التخزين والحرارة الخانقة، يقول: «عند دخولي إلى الصيدلية أشعر بأنني دخلت إلى غرفة ساونا. لا توجد كهرباء ولا وقود لتشغيل المبرّدات أو مكيّفات الهواء».

عند دخولي إلى الصيدلية أشعر بأنني دخلت إلى غرفة ساونا. لا توجد كهرباء ولا وقود لتشغيل المبرّدات أو مكيّفات الهواء

وكان شح بعض الأدوية الأكثر استخداماً مثل فلوتاب Flutab لعلاج أعراض البرد والرشح، وأزيثروميسين Azithromycin وهو مضادّ حيوي واسع الاستخدام، وشرابات السعال بمختلف أنواعها، هو ما دفع مروان وبعض الصيادلة الآخرين في المنطقة للتعامل في الدواء المهرب رغم علمهم بظروف نقله وتخزينه السيئة. وأوضح أنّ التقلبات الجوية، لا سيما التغيير الحاد في الطقس، قد أسهمت في ارتفاع الطلب على هذه الأصناف، رغم أن فاعليّتها قد تراجعت بفعل التخزين والنقل السيء.

وأغلب الأدوية المتوفرة حالياً في منطقة الحاج يوسف، وفقاً لمروان، صناعة مصرية وكينية وهندية ومن جنوب السودان، ومعظمها غير مسجّلة. وأشار إلى أن الأسعار أصبحت لا تُطاق: «كنا نظنّ أن الأسعار ستنخفض بعد دخول الجيش، لكن الواقع أصبح أسوأ. تحوّلت الأسعار من الجملة إلى التجزئة، وقد صُعقت عندما رأيت أسعار بعض الشركات التي عادت للمرة الأولى».

الناس لا يتناولون وجبات طعام جيدة وكافية، إنهم يعتمدون على وجبات التكية المجانية وحدها، فكيف لهم أن يتعافوا وهم لا يحصلون على تغذية كافية، حتى لو توفر لهم الدواء؟

ورغم توفّر معظم أصناف الأدوية، ينبّه مروان إلى أنّ الظروف الاقتصادية للمواطنين لا تسمح لهم بالحصول عليها بسهولة، وعند الحصول عليها لا تكون ذات فاعلية كافية لشفائهم. ورغم عدم جودتها إلا أن هذا ليس هو السبب الوحيد في عدم شفاء المرضى. يشرح مروان: «الناس لا يتناولون وجبات طعام جيدة وكافية، إنهم يعتمدون على وجبات التكية المجانية وحدها، فكيف لهم أن يتعافوا وهم لا يحصلون على تغذية كافية، حتى لو توفر لهم الدواء؟».

وشدّد مروان على أنّ أي خطة للاستجابة العاجلة يجب أن تركز على توفير الأدوية الضرورية لإنقاذ الحياة، وخاصة: الأنسولين لمرضى السكري، وحقن الملاريا.

سوق الدواء: ما خفّ وزنه وغلا ثمنه

بات الفيتافيرول، وهو ڤايتامين ضروري جداً للحوامل، للوقاية من فقر الدم الناتج من نقص الحديد خاصة من الشهر الثالث وحتى نهاية الحمل، نادراً لأنّ أرباحه قليلة، لذلك لا يهتمّ التجّار بجلبه، مثلما لا يهتمون بجلب المحاليل الوريدية، بسبب تكلفة نقلها العالية

ومن نيالا بجنوب دارفور، وهي مدينة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، تحدّث لـ «أتَـر» عمار آدم، وهو صيدلي وصاحب صيدلية، قائلاً: «الدواء مُتوفّر في المدينة، لكن ليس على النحو الذي يُطمْئن المريض أو الصيدلي. صحيحٌ أنّ بعض الأصناف تنقطع من وقت إلى آخر، لكنّ التجّار يُوفّرون البدائل، وهم في الغالب أشخاص عاديون وبعضهم صيادلة سبق أن عملوا في تهريب الأدوية من دولة جنوب السودان».

حتى نهاية السنة الأولى من الحرب، يذكر عمار أنهم كانوا يجدون بعض الأدوية المسجّلة في السوق، أما الآن، فجميع الأدوية المتوفرة غير مسجّلة لدى وزارة الصحة، ولا خيار أمامهم غير التعامل بها. ويذكر أيضاً أنّ فاعلية الدواء قد انخفضت على نحو ملحوظ، خاصةً الأدوية التي تحتاج إلى التبريد، مثل الإنسولين وبعض القطرات والحقن، والتي غالباً ما تصل وهي فاقدة الصلاحية. لهذا توقف عمار عن بيع هذه الأنواع تماماً، رغم الحاجة الماسة إليها. وشرح ذلك قائلاً: «في صيدليتي أمتلك مولداً كهربائياً، لكنه يعمل فقط لساعات محدودة بسبب شُحّ الوقود، وقد يتوقّف أياماً. لهذا، لا أضمن التبريد المطلوب للأدوية الحساسة».

ومن النتائج السيئة لسيطرة شبكات التهريب والتجّار على السوق حالياً، وتحكّمهم في التوزيع والأسعار، يرصد عمار كيف أنّ بعض الأدوية، مثل الفيتافيرول، وهو ڤايتامين ضروري جداً للحوامل، للوقاية من فقر الدم الناتج من نقص الحديد خاصة من الشهر الثالث وحتى نهاية الحمل، قد بات نادراً لأنّ أرباحه قليلة، لذلك لا يهتمّ التجّار بجلبه، مثلما لا يهتمون بجلب المحاليل الوريدية، بسبب تكلفة نقلها العالية، لذلك أصبحت بدورها نادرة.

ونفى عمار وجود جهة رقابية حقيقية، مُعبّراً عن خوفه من أن تتحوّل تجارة الأدوية المهرّبة إلى نشاط دائم، حتى لو توقفت الحرب واستقرّت البلاد. وأضاف قائلاً: «إننا مجبرون على التعامل في أدوية لا نعرف مدى سلامتها، لأنها الخيار الوحيد المتاح. وفي ظل هذا الوضع، لا أرى حلاً قريباً إلا بإيقاف الحرب، أو بتدخّل إنساني عاجل من منظمات قادرة على توفير أدوية آمنة للمواطنين».

الرحلة السّرية لقرص الدواء

مع تفكّك المنظومة الرسمية لتوفير الدواء ومراقبته، برزت شبكات معقدة من الوسطاء والمهربين وتولّت مسؤولية جلب الأدوية عبر طرق غير رسمية من مصر وجنوب السودان وغيرها، وعملت على توزيعها علناً. ولا تخضع هذه الشبكات لأي رقابة، لكنها أصبحت المصدر الأساسي للدواء في السودان.

يعمل «أبو خالد» الذي طلب حجب اسمه في تجارة الأدوية غير المسجّلة منذ 2012. كانت البداية حين سلّمه صيدلي صديق قائمة من الأدوية كان في حاجة ماسّة إليها وطلب منه أن يجلبها إليه. لم يفكر «أبو خالد» يومها في أنه سيدخل هذا المجال، لكن مع مرور الوقت كبرت شبكة معارفه من الصيادلة، وبات يتعامل مع عدد كبير منهم داخل السودان وخارجه.

اليوم، بعد أكثر من عشر سنوات، يفخر «أبو خالد» بما حقّق من خبرة في المجال، ويجزم في حديثه لـ «أتَـر»: «أستطيع أن أقول بثقة إنني أعرف الأدوية بجميع أنواعها أفضل من كثير من الصيادلة، وأعرف الشركات؛ الجيد منها والسيّئ، في مصر وفي السودان. وكثيرٌ من الصيادلة يطلبون مني أدوية نادرة، خاصة في أوقات الأزمات، وحتى قبل الحرب الحالية».

ورغم اعترافه بخطورة ما يحدث، يرى «أبو خالد» أنّ السوق الحالي في حاجة إلى «خبراء في التعامل مع الأدوية»، قائلاً بأن كثيراً من الصيادلة وقعوا ضحايا لتهريب أدوية فاسدة لتعاملهم مع أشخاص غير مُحترفين. يفسّر ذلك قائلاً: «بعد اندلاع الحرب، أصبح الأمر أسهل من ناحية الرقابة. لم تعد هناك مضايقات كما في السابق، لكن الجانب السلبي هو أنّ السوق انفلت تماماً، وكل من هبّ ودبّ دخل مجال تجارة الأدوية، حتى من ليست لديهم أي خبرة»!.

إذا ضُبطت الشحنة، نحاول تمريرها بأنها أدوية لمرضى بعينهم، وأحياناً نستخدم وصفات طبية جاهزة. لكن في كثيرٍ من الحالات نخسر الشحنة ببساطة. رغم ذلك، لا أتوقف، لأنني أُعوّض الخسارة في شحنة قادمة.

يتعامل «أبو خالد» مع صاحب مخزن أدوية في مصر، له صلات مباشرة مع شركات توزيع كبرى. يشرح لـ «أتَـر» مختلف وجوه العملية وتفاصيلها: «أطلب منه الكميات التي أحتاج إليها، ويُجهّزها لي. أحياناً أذهب بنفسي، وأحياناً يرسلها مع مندوب. للدخول إلى السودان، أستخدم معبر وادي حلفا عادةً، أو أعتمد على أشخاص موثوقين من أصحاب البكاسي. في السابق كنت أستخدم المطار عندما أحتاج لجلب أدوية تحتاج إلى تبريد مثل الإنسولين وقطرات العين، خاصة إن كان العائد المادي مُغرياً. لا أتعامل مع الضباط في المعابر أو الجمارك، لأنهم يطلبون أموالاً كثيرة. أفضّل التعامل مع الجنود العاديين، فهم أكثر مرونة. وإذا ضُبطت الشحنة، نحاول تمريرها بأنها أدوية لمرضى بعينهم، وأحياناً نستخدم وصفات طبية جاهزة. لكن في كثيرٍ من الحالات نخسر الشحنة ببساطة. رغم ذلك، لا أتوقف، لأنني أُعوّض الخسارة في شحنة قادمة. أحرص على عدم جلب أدوية تقتضي تبريداً إلا إنْ توفرت لي وسائل تبريد جيدة. أضعها في حافظات خاصة أحياناً، لكن الأفضل تجنّبها إن لم تكن هناك ظروف مناسبة».

يرى «أبو خالد» أنه تاجر مفيد للمجتمع، ويُعلّل ذلك بأنه يوفّر أدوية رخيصة، وربما غير متوفرة أصلاً في السودان. وعلى الرغم من اعترافه بأنه يُخالف القانون، يستدرك قائلاً: «لكني لا أخالف الشرع والدين، وفي ظل انهيار النظام الصحي، أرى أنّ ما أفعله هو نوع من الحل المؤقت. الغاية تبرّر الوسيلة، والناس يموتون إن لم يجدوا الدواء»!.

يعلم «أبو خالد» أنّ الرقابة غائبة، الأمر الذي يجعله يعمل بكل أريحية. يقول: «لا أعتقد أن الحكومة تنتظر المساعدة من أحد في هذا الموضوع، فهي تعرف كل شيء، وتغضّ الطرف. إذا أرادوا تنظيم هذا السوق، فليفعلوا، لكن هذا يحتاج إلى أموال كثيرة، والحكومة لديها مشكلات أكبر. أما الآن، فنحن البديل للمرضى».

عبر الحدود إلى جسد المريض

شارحاً تفاصيل رحلته عبر الحدود، يقول محمود، وهو سائق سيارة «بوكس» يعمل في تهريب الأدوية من مصر إلى السودان: «نحن نعمل حسب المحطات. هناك من يتسلّمون في منطقة الأُبيار، وهي مخصّصة للولاية الشمالية. وهناك شلاتين لمن يعملون على طريق بورتسودان وسيدون، لمن يتّجهون إلى عطبرة. كل طريق له أشخاصه الذين يعرفونه جيداً».

لكن الطريق ليس آمناً كما يظنّ البعض، فخطر «البلطجية» في مصر أكبر من خطر الشرطة، كما يخبر محمود «أتَـر»: «السلطات يمكن التفاهم معها أو تجنبها، لكن إذا قبض عليك البلطجية، فإنهم يستولون على عربتك وكل ما فيها من أدوية، وربما يؤذونك أنت أيضاً. لذلك لا نتحرك فرادى، إنما نخرج في مجموعات لحماية بعضنا البعض».

نحن نحاول توفير الدواء للناس، فالبلد لا يوجد فيها دواء، والناس مضطرون. قد يكون ما نفعله غير قانوني، لكنه ليس حراماً. في هذا الوضع، من يمكنه أن يدّعي أنه على صواب؟.

لا يتاجر محمود بالدواء كما يقول، إنما يعمل ضمن شبكة تشمل صيادلة داخل السودان، وأطباء في مصر، ومرضى يُرسلون له الوصفات الطبية عبر تطبيقات مثل واتساب وفيسبوك. «بعض الصيادلة يتواصلون معي مباشرة، وبعض المرضى يرسلون لي روشتات، وأنا أعرف أطباء في مصر يوفّرون لي الأدوية، وحتى الكريمات وبعض الطلبات الخاصة»، يضيف.

ورغم إدراكه مخاطر تهريب الأدوية دون حفظ أو تبريد مناسب، يشترك محمود مع «أبو خالد» في قوله إنه يقدم خدمةً للمجتمع: «نحن نحاول توفير الدواء للناس، فالبلد لا يوجد فيها دواء، والناس مضطرون. قد يكون ما نفعله غير قانوني، لكنه ليس حراماً. في هذا الوضع، من يمكنه أن يدّعي أنه على صواب؟».

طمع أم ضرورة؟

بعد أن سيطر الجيش على منطقتهم وبدأ الناس في العودة من النزوح، يقول هشام عوض الله الرضي، وهو صيدلي وصاحب مركز صحي في منطقة أم درمان فلاتة بولاية سنار، إنه لم يكن أمامهم من خيار سوى العمل بالأدوية المُهرّبة. لكن مع استقرار الوضع، عادت التوكيلات للعمل في سنجة وسنار، واستأنفت معظم الشركات نشاطها، لذلك توقف هشام عن التعامل في الأدوية المهربة. وعلى الرغم من الفرق في السعر، لكنه يعلم الأدوية الرسمية مضمونة وسليمة، وهو مطمئنّ لما يقدّمه للمرضى، ومتأكّد من أنه لا يخالف القانون.

ويضيف هشام متحدّثاً لـ «أتَـر»: «صحيح أن بعض الأنواع غير متوفرة، لكن الأدوية المهرّبة ليست مضمونة. أما بالنسبة للإنسولين، فإنّ عليهم التوجه إلى المستشفيات، حيث وفرت الإمدادات الطبية هذه الأدوية والأمصال في صيدليات المستشفيات بالولاية، بما في ذلك المحاليل الوريدية بأنواعها».

ويذكر هشام أن من الأمور التي دفعته إلى اتخاذ موقف واضح من الدواء المُهرّب هو «دواء الهيبارين». ويقول: «إنه ليس دواءً عادياً، بل هو من الأدوية الحيوية والخطيرة في الوقت نفسه، ويُستخدم لمنع تجلط الدم، بخاصة في غرف العمليات وأقسام العناية المكثفة. كنا نتعامل معه بحذر بالغ، لأن أي خطأ في الجرعة أو في طريقة التخزين يمكن أن يؤدي إلى نزفٍ خطير أو حتى الوفاة».

يُخزّن الهيبارين ويُنقل في درجة حرارة تتراوح بين 2 و8 درجات مئوية، أي في ظروف تبريد مستمرة، ولا يجوز أن يُترك في درجة حرارة الغرفة العادية، لأنها تفسده وتُفقده فاعليته، ولا يجب أن يُجمّد فهو غاية في الحساسية.

ويمضي هشام قائلاً: «حين توقّفت الإمدادات الرسمية، بدأت تظهر عبوات الهيبارين في السوق عبر وسطاء مجهولين. يأتون به في حقائب وأكياس، أو يعرضونه عبر مجموعات واتساب، ويقولون إنه مضمون ومُخزَّن جيداً، لكن لا أحد يعرف مصدره الحقيقي، ولا نملك وسيلة للتحقق من طريقة نقله وتخزينه».

أدوية التبريد تحت حرارة الحرب

عادل، صيدلي كان يعمل إدارياً في شركة أدوية متخصّصة في إنتاج وتوزيع قطرات العيون، يخبر «أتَـر» بأنهم قد توقفوا عن العمل بالكامل منذ اندلاع الحرب، وقد نُهب مخزونهم من الأدوية، ولم يتمكّن المالك من تحمّل حجم الخسائر، فتوقفت الشركة كلياً. ويذكر عادل أن قطرات العيون من أصعب أنواع الأدوية في التهريب من حيث الحفاظ على فاعليتها، لأنها تحتاج إلى ظروف تخزين دقيقة. وبفعل انهيار سلاسل التبريد الضرورية لحفظ الأدوية الحسّاسة، فقَد معظمها فاعليته وغدا خطراً على المرضى. «ومن تجربتي، أؤكّد أن معظم القطرات المهربة التي تُباع الآن في السوق فاقدة للفعالية وغير مجدية طبّياً»، يقول عادل.

حُقن Anti-D الحسّاسة، التي تُعدّ منقذة للحياة وتُستخدم لمنع تكوّن الأجسام المضادة التي قد تهاجم خلايا دم الجنين في الحمل الحالي أو المستقبلي. تُعرَض هذه الحقن للبيع في مجموعات واتساب مخصّصة لبيع الأدوية، ويتجوّل أفراد مجهولو الهوية بين الأسواق والصيدليات وهم يحملونها في أكياس عادية، دون أدنى شروط للتبريد أو الضمان، وهي تُحفظ في درجة حرارة 8 درجة مئوية دون تجميدها، يُروَّج لها فقط بعبارات مثل «مخزّنة تمام»، بينما تغيب أي إثباتات مهنية أو سلاسل تبريد حقيقية تضمن سلامتها.

يذكر عادل من الشركات القليلة التي دخلت السوق بعد الحرب، شركة Unipharma، وهي وكيل لشركة Orchidia المصرية، وتعمل حالياً في استيراد قطرات العيون رسمياً. ويستدرك قائلاً: «لكن ما زال السوق غارقاً بالمهرّب من الأنواع المصرية».

حالياً، حسب ما ذكر عادل، هناك قطرات مهمة جداً مثل الزلمول، والترافتان، وبريمو، ويستخدمها المرضى باستمرار، خصوصاً أصحاب الأمراض المزمنة في العيون، لتقليل ضغط العين. لكن حتى الموجود منها في السوق الآن هو من المخزون القديم قبل الحرب، وآخر تاريخ صلاحية لها هو فبراير وأبريل 2025.

قطرات عيون مصرية مهربة (إلى اليمين) والمنتج السوداني المسجل في وزارة الصحة (إلى اليسار)

جهود محدودة في ظل خطر أوسع

رغم خطورة الوضع الصحي في السودان، تبدو الاستجابة الدولية خجولة ومحدودة مقارنة بحجم الكارثة. فالمنظمات الإنسانية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، أطلقت تحذيرات متكررة من انهيار النظام الصحي، لكنها تواجه تحديات لوجستية وأمنية تعيق قدرتها على التدخل الفعال. أما منظمة «أطباء بلا حدود» فقد تمكّنت من تقديم مساعدات محدودة في بعض المناطق، خاصة في دارفور والنيل الأزرق، لكن فرقها تواجه صعوبات في التنقل والوصول بسبب التهديدات الأمنية وغياب الضمانات.

يُعدّ التهريب وغياب الرقابة نتيجة طبيعية لانهيار مؤسسات الدولة، لكن تحوّله إلى «نظام دائم» هو ما يهدّد مستقبل السودان الصحي بأكمله.

أسعار الأدوية الرسمية والمهربة

الاسم العلمي الشكل الصيدلاني السعر المهرب (ج) السعر الرسمي (ج) الفرق (ج) نسبة الفرق% ملاحظات
Tamsulosin أقراص 0.4mg 900 6,250 5,350 85.6% علاج البروستاتا
Amoxicillin كبسول 500mg 1,750 10,000 8,250 82.5% مضاد حيوي
Cefixime أقراص 400mg 6,500 10,000 3,500 35.0% مضاد حيوي
Ceftriaxone حقن 1g 2,600 6,733 4,133 61.4% مضاد حيوي
Azithromycin أقراص 500mg 2,000 4,166 2,166 52.0% مضاد حيوي
Rivaroxaban أقراص 10mg 3,800 8,333 4,533 54.4% مميع دم
Pantoprazole أقراص 40mg 2,400 4,620 2,220 48.1% علاج الحموضة
Piracetam أقراص 400mg 2,300 4,166 1,866 44.8% منشط ذهني
Hydrocortisone أقراص 10mg 3,000 5,452 2,452 45.0% كورتيزون
Artesunate حقن 120mg 3,500 5,600 2,100 37.5% علاج الملاريا

جدول يقارن أسعار الأدوية

الاسم التجاري الاسم العلمي السعر الرسمي (جنيه) السعر المهرب (جنيه) فرق السعر (جنيه) النسبة % تقريبًا الملاحظات
Optidex-T Dexamethasone + Tobramycin 10,000 3,900 -6,100 -61% مضاد حيوي وكورتيزون، بالغة الخطورة عند سوء التخزين
Tears Guard Lubricant Eye Drops 5,000 2,800 -2,200 -44% قطرة مرطبة للعين
Polyfresh Lubricant Eye Drops 5,000 3,800 -1,200 -24% قطرة مرطبة، حساسة للتخزين
Zolmole Olopatadine 10,000 4,700 -5,300 -53% مضاد للحساسية، بالغة الخطورة عند سوء التخزين

جدول يقارن أسعار قطرات العيون

Scroll to Top