أتر

أطراف مبتورة وبيانات ضائعة: تدمير مركز المايستوما في السودان

قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب في أبريل 2023، عاد بروفيسور أحمد الفحل، مدير مركز أبحاث المايستوما بالخرطوم، إلى السودان بعد أن أمضَى عدة أسابيع في سويسرا واليابان، حيث قدّم نتائج تجربة سريرية لعقار «فوسرافوكونازول»، وهو علاج جديد لمرضى المايستوما. وبعد يومين فقط من عودته، غادر الفحل السودان متوجّهاً إلى مصر، حيث وصله خبر اندلاع الحرب. حينها أدرك أنه لن يتمكّن من العودة إلى البلاد في القريب العاجل. وعندما اشتدّ القتال في العاصمة، اضطرّت الفرق التطوّعية التي نظّمها المركز إلى الانتقال إلى ود مدني، حيث استأنفت عملها، لكن القتال لحق بها هناك أيضاً. وفي أواخر أبريل 2024، أعلن بروفيسور أحمد الفحل أن مركز أبحاث المايستوما التابع لجامعة الخرطوم، قد جرى تدميره كلياً. 

في مارس الماضي، وبعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية السيطرة على الخرطوم، تمكّن فريق من المركز من زيارة الموقع لأول مرة منذ اندلاع الحرب لتقييم الوضع. 

الدمار الذي لحق بمركز أبحاث المايستوما بالخرطوم

متحدّثاً لـ «أتَـر» يخبر بروفيسور أحمد الفحل، «أنّ المركز فقَدَ كلّ ما يملك من عينات دقيقة جُمعت على مدار السنوات السابقة. ويحتوي المعمل على بنك بايولوجي يحوي 1000 عينة من الفطريات و700 عينة من البكتريا، وقدر هائل من المدخور الجيني المُخزّن في ثلّاجات مُخصّصة لحفظها في درجة حرارة بين 20 و40 درجة مئوية تحت الصفر». 

ويضيف: «كذلك فقَدنا الأدوية المجانية التي كانت في صيدلية المركز، والتي جُمعت من منظمات خيرية ومنظمة الصحة العالمية. كما فقدنا المعدّات المخبرية وأجهزة فحص الدم والمايكروبات، وثلاثة أجهزة موجات فوق صوتية، وثلاثة أجهزة لفحص الجينات. ولم ينجُ من هذا الدمار سوى ملفات المرضى المحفوظة إلكترونياً». 

صورة قديمة لمركز أبحاث المايستوما

ويُعدّ المركز أحد المراكز القليلة في العالم المختصّة في أبحاث مرض المايستوما والأمراض المدارية المهمَلة، وهو المركز الوحيد المختصّ بأبحاث المايستوما الذي يتعاون مع منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة السودانية في سبيل التصدّي للمرض. 

المايستوما هو مرض مداريّ مُعدٍ ومزمن ومدمّر، يصيب القدمين غالباً، لكنه قد يظهر في أي جزء من الجسم. يؤدّي إلى تورّم وتشوّهات، وإذا تُرك دون علاج، يتسبّب في تدمير الأنسجة. ينقسم المرض إلى نوعين: الورم الشعاعي الناتج عن البكتيريا الهوائية، مثل النوكارديا والستربتوميسيس، والورم الفطري الذي تُسبِّبُه الفطريات، وأكثرها شيوعاً مادوريلا مايستوماتيس في إفريقيا والهند. وسجل السودان أول حالة مايسوتوما عام 1904، وهو الدولة التي سجّلت أكبر عدد من الحالات. 

بكتيريا النوكارديا (على اليمين) وفطريات المادوريلا (على اليسار)

ويَنتشر المرض في دول مجاورة للسودان مثل إثيوبيا وتشاد. كذلك في مناطق استوائية وشبه استوائية أخرى، من بينها المكسيك وتايلاند؛ وينتشر كذلك وسط الرعاة والمزارعين وغيرهم من العمال الذين يعتمدون على العمل اليدوي للبقاء على قيد الحياة.  

للمرض أعراضٌ تشمل التورّم والتشوّه، والحركة المحدودة. ويُشخّصُ عبر الفحص السريري، والتصوير الطبي، والفحوصات المخبرية. وفي عام 2019، عقدت منظّمة الصحة العالمية والحكومة السودانية أول ورشة عمل دولية حول الورم الفطري في الخرطوم. 

وتسبّبت الحرب في دمار واسع للقطاع الصحّي. فقد توقفت 70% من المستشفيات عن العمل، وتعرّض معظمها للنهب والتدمير، بخسائر قُدّرت بـ 11 مليار دولار وفق وزارة الصحة. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن 70-80% من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة مغلقة أو غير قادرة على العمل. 

يؤكّد الفحل، متابعاً: «علاج المايستوما صعب بسبب غلاء الأدوية وقلّة توفرها. يستغرق العلاج أشهراً، وفي حالات كثيرة، يكون البتر هو الخيار الوحيد. لقد دمّرت الحرب المركز وقلّلت قدرة المرضى على الحصول على الدواء، ما ترك الآلاف بلا رعاية». ويضيف بأسى أن تدمير المركز مثّل انتكاسةً خطيرةً في مكافحة المايستوما، «إذ يعتمد العديد من المرضى في السودان والبلاد الأخرى على الخدمات التي يوفرها». 

ويضيف أيضاً: «أوقف التدمير المختبرات التي كانت نشطة في البحث العلمي، وأضاع خبرة أكثر من 40 عاماً، بما في ذلك الفطريات والبكتيريا النادرة والعينات الجينية، وجميعها عناصر ضرورية لفهم المرض وتطوير علاجات جديدة»، موضحاً أن «حوالي 20% من المرضى من الفئات الأكثر فقراً، وبعضهم خضع للبتر. هذا الدمار لا يهدّد المشاريع الجارية فحسب، إنما يعرقل التقدم المستقبلي أيضاً. إنه كارثة مزدوجة: علمية وإنسانية». 

منذ 1991، قاد الفحل المركز، الذي بدأ وحدة صغيرة في مستشفى سوبا، ثم توسّع ليشمل عيادات محوَّلة، وثلاثة مختبرات، واستوديو أنتج أكثر من 200 ڤيديو تعليمي عن المايستوما. قدّم المركز 160 طرفاً صناعياً مجانياً، وعالج نحو 12,000 مريض، وعقد شراكات مع منظمة الصحة العالمية وجامعة ناغازاكي ومبادرة DNDi. في 2023، قدّم المركز وDNDi نتائج تجربة فوسرافوكونازول إلى المجلس الأعلى للأدوية. أُطلِقت التجربة عام 2017 بالتعاون مع شركة إيساي اليابانية. 

يقول الفحل: «كان هدف التجربة تقييم فعالية فوسرافوكونازول مقارنة بإيتراكونازول. وأظهرت النتائج تقارباً بين الدواءين من حيث الفاعلية»، ويضيف: «لقد حَرَمت الحرب أكثر من 12,000 مريض من العلاج. والمرض يؤدّي إلى تعفن الأنسجة والبتر، بل وحتى الوفاة. لقد مات كثير من المرضى، لكن لا نملك أرقاماً دقيقة». 

تواصل المركز مع المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم، الذي زار المركز سابقاً، لدعمه في إعادة الإعمار. كما أُطلقت مبادرة لجمع التبرعات، وخُطط لإعادة افتتاح المركز قريباً. 

لا يقتصر تدمير مركز أبحاث المايستوما على كونه خسارة وطنية للسودان في أوقات الشدّة هذه، إنما يمثّل كارثة إنسانية تطال أفقر المرضى الذين لم يجدوا غيره مأوىً وأملاً في الشفاء. 

Scroll to Top