
في وقت تشهد فيه البلاد تشوّهات عدلية ماثلة بسبب الحرب؛ ونُذر انفلات أمني مريع في المدن والبلدات السودانية، وفقدان أعداد كبيرة من المواطنين لممتلكاتهم، أصدرت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، بتوصية من النائب العام، قراراً يقضي بفرض رسوم على 52 إجراءً قانونياً تُقدّمها النيابة العامة، بحسب وكلاء نيابة ومحامين وقانونيين تحدّثوا لـ «أتَر»، مؤكّدين صحة القوائم المتداولة على وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقها. وبحسب متابعات مراسلي «أتَـر»، جرى تطبيق القرار في ولاية سنار منذ شهر أبريل الماضي، وفي الشمالية منذ مايو، وبدأ تطبيقه في ولاية نهر النيل في يونيو الجاري.
وتتراوح دفعيات الرسوم المُلزِمة، بين 1000 جنيه سوداني و100 ألف جنيه، بدايةً من فتح البلاغ، إلى إصدار أمر القبض وإطلاق السراح وطلب نبش الجثة، وأي أمر آخر يُصدره وكيل النيابة أثناء عمليات التحرّي.
وبحسب قانونيّين، يستند القرار، الذي لم تَعثر «أتَـر» على نسخة منشورة منه على موقع وزارة العدل أو المواقع الرسمية الأخرى، إلى قانون النيابة العامة لسنة 2015م، الذي مَنح النيابة العامة سلطةَ فرض رسوم على بعض الخدمات بحسبانها مورداً مالياً، شريطة أن يجري ذلك وفق إجراءات وضوابط محدّدة؛ ولا يُعدّ القرار تأسيساً لفرض الرسوم، إنما هو تفعيل لصلاحية قائمة ومقرّرة منذ عشر سنوات، لكن هذا التفعيل المتأخّر – حسبما يرون – يُثير تساؤلات عميقة حول توقيته وأبعاده القانونية والاجتماعية.
يتضمّن القرار قيود الدعوى الجنائية في الجرائم المتعلّقة بالشيكات ويبلغ رسمها 3%، وقيد الدعوى الجنائية في الجرائم الجنائية الأخرى ويبلغ رسمها 10 آلاف جنيه، وطلب استئناف القرارات الصادرة من النيابة إلى الوكيل أو الوكيل الأعلى أو رئيس النيابة ويتراوح رسمها بين 20 ألف جنيه و60 ألف جنيه، ويبلغ رسم بلاغ استعادة الرصيد المُحوَّل بالخطأ مبلغ 5 آلاف جنيه.
تذهب الأموال المحصَّلة، بحسب المنشور، إلى خزانة النيابة العامة، وتُصرَف على بنود التسيير والحوافز، مع منح ولاية حرّية تحديد رسومها محلياً.
وشمل القرار خدمات الضمانة، والمخاطبات، وفكّ الحجز، والحجز، وتحريك الإجراءات، وطلبات شطب الدعوى، واستلام صورة القرار، وطلبات استلام المعروضات، وطلبات المحامين، والطلبات الخاصة بالشخصيات الاعتبارية، وشهادات الفقدان، وطلبات التنازل عن الحقّ الخاص، وطلبات المرور، وطلبات فك الحظر، وطلبات إحالة الدعوى، وغيرها من الإجراءات المرتبطة بحقوق المواطنين في العدالة.
فور تطبيق القرار أصدرت اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين بياناً رفضت فيه فرض رسوم خدمات النيابة الاتحادية الموحّد، وطالبت بإلغائه فوراً، وقالت إنّ القرار شمل خدمات أساسية مرتبطة بحقوق المواطنين أثناء التحرّي، «ما يُكرس التمييز في التقاضي، ويُهدِّدُ بإقصاء الفقراء والنازحين وضحايا العنف من حقهم المشروع في الحماية، وهذه الرسوم يمكن أن تستخدم كأداة لتعطيل العدالة أو لتوظيفها للإضرار بحقوق المواطنين بعضهم ضد بعض، بدلاً من أن تكون وسيلة لإنصافهم».
هدم العدالة والمساواة
جرى العمل في جميع محاكم البلاد بأن التقاضي في المسائل الجنائية مجّاني، أما في المسائل المدنية فهو مدفوع الأجر
وبحسب حديث وكيل النيابة السابق والمستشار القانوني عمر عثمان، لـ «أتَـر»، فإنّ «القرار المفاجئ يفتقر إلى القانونية والشرعية، ويؤثّر مباشرة على إجراءات التقاضي في جميع مراحلها، ويحرم الفقراء من حقوقهم، ويدعو بكل بساطة إلى قانون الغاب، فإن لم يستطع المواطن دفع تكاليف إجراءات قضيته، لجَأ إلى أخذ حقّه المُضاع بيده، وهو مدعاة للعنف الاجتماعي الصريح». ويضيف عثمان أنّ العمل في جميع محاكم البلاد جرى بأن التقاضي في المسائل الجنائية مجّاني، أما في المسائل المدنية فهو مدفوع الأجر، وفي الحالين يعتمد الأمر على نزاهة وأمانة القضاة لتحقيق مبدأ المساواة أمام العدالة ورفع الظلم عن المُتضرِّر.
«يتنافى القرار مع وضعية النيابة العامة، بحكم موقعها المركزي والتزامها السيادي في منظومة العدالة الجنائية، وبما يضمن استقلالها وفاعليّتها وحيادها، لتتحوّل إلى جهة ذات طبيعة إيرادية تعتمد على رسوم تُفرض على المواطنين، بدل أن تحظى بتمويل كامل من الدولة، فالعدالة يجب أن تكون متاحة أمام الجميع وليست خدمة تجارية تُموَّل من جيوب الفقراء»، يقول عمر عثمان، ومن ثم يضيف مستنداً إلى مقولة المفكّر الفرنسي مونتسكيو: «(لا يمكن ترسيخ الحرية دون نظام قضائي عادل ومجّاني)، فالقرار في جملته جائر، والقانون المُسند إليه ليس إلا نتيجة لأخطاء وتجاوزات متراكمة تعمل دون مشروعية».
متحدثاً لـ «أتَـر»، يقول عوض عبد البيّن المحامي، إنه وفقاً لنصوص قانون تفسير القوانين والنصوص العامة لسنة 1974، فإنّ القانون يكون باطلاً حال تعارضه مع الدستور، وكذلك الأمر بالنسبة للمنشور أو الأمر أو الحكم، فجميعها تكون باطلة حال تعارضها مع القانون أو مع الدستور، ويرى أن هذا التشريع الفرعي قد شابَهُ البطلان لمخالفته للدستور والقانون وأسس التشريع، لصدوره من جهة غير مختصة، من دون مروره بالبرلمان الذي يُمثله في الواقع الماثل إجماع مجلسَي السيادة والوزراء لإجازته وإصدار أمر العمل به، وهذا لم يحدث حتى تاريخ صدوره وتطبيقه، إضافةً إلى غياب النصّ الذي يُعالج حالات العجز عن التوفر على الرسم المقرّر لدى بعض المواطنين، فقد سَنَّ قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 قاعدة الإعفاء من الرسوم عند ثبوت فقر طالب العدالة.
وبحسب ما أخبر وكيل نيابة تحدَّث لـ «أتَـر»، استند القرار على المادة الثالثة من الفصل الثالث لقانون النيابة العامة لسنة 2015. ويمضي مفنّداً القرار: «يكون الرد بتكذيب الادّعاء وتأكيد التبعية للسلطة التنفيذية وولاية وزارة المالية على النيابة العامة، لكون القرار صادراً إدارياً عن سلطة عامة وقابلاً للطعن فيه وفقاً للقانون السوداني، بتوفير شروط منها أنه لا يوافق أحكام القانون، أو صادراً من جهة ليست مكان اختصاص وله تأثير مباشر على حقّ صاحب الشأن». ويقول إنه يمكن الطعن في القرار برفع دعوى إلغاء أمام القضاء الإداري، يسبقها تقديم مظلمة إدارية إلى الجهة التي أصدرت القرار قبل اللجوء للقضاء بقيود زمنية محدّدة.
تحلُّل من الالتزام الوظيفي
ويضيف عبد البيّن أنّ موقف القانونيين والمواطنين بعامة واضح في رفض هذا المنشور الذي تتبدّى خطورته ليس في إلقاء أعباء مالية على طالبي العدالة فحسب، إنما أيضاً في كونه يكرس للفوضى، ويفرض حالةَ اللا دولة التي تمدّدت لتُغرق جميع أجهزة الحكم وتُخرجها على نحو متعمّد من الخدمة وتُحَلّلها من التزاماتها الوظيفية دون مبرّر، ويبدو ذلك جلياً في خدمات المياه والكهرباء والصحة وإصحاح البيئة». ويرى عبد البيّن أن المنشور يؤسّس لتصدير نهج التحلّل إلى أجهزة العدالة من خلال تسليع خدماتها، متجاهلة بذلك أوجب واجباتها؛ أي حماية الضحايا وحقوقهم وأموالهم وفق أحكام الدستور، أياً كان، لأنّ تعديلاته المختلفة كانت في غالبها تعديلات سياسية لخدمة مشروع سلطوي. ويلفت إلى أن تلك التعديلات لم تنص على إلغاء مسؤولية الدولة في حقّ المواطن العادي في الحصول على العدالة أو في اللجوء إلى القضاء أو في الحصول على الحماية لحقوقه وأمواله. ويؤكّد عبد البيّن أن «قانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1991 لا يزال ينصّ على مجانية تحريك الدعاوى الجنائية وغيرها من الإجراءات، كما ينصّ على واجب النيابة العامة في تحريك الدعاوى والإجراءات بمجرد تلقّيها العلم بوقوع الجريمة سواءٌ أكان ذلك من تلقاء نفسها أم بناءً على شكوى أو بلاغ مرفوع إليها، تطبيقاً لهذه المبادئ الدستورية والقانونية.
ويخالف المنشور، بحسب عبد البيّن، المبدأ العام في القانون؛ كما يخالف مواد دستورية واضحة في الدستور السوداني الانتقالي لسنة 2019 (أو ما يقوم مقامه في أي مرحلة انتقالية) وفق المادة 48 التي تقرّ الحق في الوصول للعدالة، والمادة 53 التي تقرّ مبدأ المساواة أمام القانون، والمادة 56 التي تقرّ الحق في التقاضي. ويأتي مخالفاً لقانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1991 وتعديلاته، والذي لا يتضمّن أي نصّ يجيز فرض رسوم على المجني عليه أو المُبلغ لفتح دعوى جنائية.
إنّ غياب المعالجات، مع اتساع قاعدة الفقر في راهن الحرب، وفقدان المواطنين أموالهم وممتلكاتهم جراء النزوح من مَواطنهم الأصلية طلباً للنجاة، أو جراء النهب أو الحرمان من مصادر الرزق والعمل، من شأنه خلق حالة منفرة من التمييز ضد الفقراء
ضدّ الفقراء
ويرى عبد البيّن أن غياب المعالجات، مع اتساع قاعدة الفقر في راهن الحرب، وفقدان المواطنين أموالهم وممتلكاتهم جراء النزوح من مَواطنهم الأصلية طلباً للنجاة، أو جراء النهب أو الحرمان من مصادر الرزق والعمل، من شأنه خلق حالة منفرة من التمييز ضد الفقراء، على الرغم من أنّ القاعدة الذهبية في جميع الشرائع والقوانين الوضعية وغير الوضعية تنصّ على المساواة بين الجميع أمام القانون. وفي سيادة هذا المنهج، انتهاكٌ صارخ لمنظومة حقوق الإنسان وللعهود والمواثيق الدولية التي صادقت عليها دولة السودان. ويقول عبد البيّن: «أرى أنّ إعادة الأمور إلى نصابها الدستوري والقانوني تقتضي إبداء درجة عالية من المقاومة الداخلية وكسب التضامن الخارجي في أوساط النقابات الحرّة للمحامين والمنظمات الحقوقية وكذلك نشر الوعي بالحقوق على نحو واسع ومثابر».
متحدّثة لـ «أتَـر»، قالت المواطنة فتحية أحمد إنها فوجئت برسوم بلغت 5 آلاف جنيه لفتح بلاغ في استرداد رصيد بنكي قدره 56 ألف جنيه وقد حُوِّلَ بالخطأ إلى حساب آخر، وكانت من قبل مجّاناً.
دخل قرار دفع رسوم للنيابة العامة حيز التنفيذ في شندي منذ 25 مايو 2025م، وأبدى عددٌ من المحامين تذمّرهم من القرارات غير المسبوقة والتي نُفّذت على عجل
وقد شهد محمد خير المحامي، على حالات سخط وغضب أمام النيابة العامة في شندي، أبداها مواطنون تقدّموا ببلاغات فقدان حوالات مالية خاطئة وهو الإجراء الأوسع حسبما يخبر «أتَـر». يقول: «شعور المواطن محدود الدخل بتكبيله بقيد القرارات الجائرة والرسوم المفروضة ثمناً للعدالة، صادم؛ إذ صار للعدالة ثمن مثل أي سلعة أخرى في السوق، يستطيع شراءها أو يعزف عنها لضيق ذات اليد». ويضيف خير في حديثه إلى «أتَـر»: «ينصّ القانون على أن النيابة العامة تحرّك الدعوى الجنائية نيابة عن المجتمع والحقّ العام، ولا يجوز أن يُحمَّل صاحب البلاغ أعباء مالية مقابل ذلك، لأنه ليس خصماً خاصاً إنما ممثل للحقّ، وبغير ذلك سيعزف كثير من المواطنين عن استرداد حقوقهم عبر النيابة العامة، فكلفة فتح البلاغ ودفع الرسوم المتوالية في أحايين كثيرة تكون أكثر من القيمة المُطالَب بها، مثل بلاغات التحويلات الخاطئة عبر التطبيقات البنكية، ما يمثل إهداراً للعدالة، وهي قرارات أقسى من المظالم التي تقع على من يطرقون أبواب النيابة طلباً للعدالة، فيُفاجأون بانحيازها إلى فئة دون أخرى، ما يُفقدها شَرطَي الحياد والاستقلال، ويُفرغ نظام العدالة من مضمونه، ويُحوّل النيابة إلى جهة جباية بدلاً عن كونها حامية للحقوق والضمانات».
ويخبر محمد عبد الرحمن المحامي «أتَـر»، أنّ قرار دفع رسوم للنيابة العامة دخل حيز التنفيذ في شندي منذ 25 مايو 2025م، وأنّ عدداً من المحامين أبدوا تذمّرهم من القرارات غير المسبوقة والتي نُفّذت على عجل: «وصلت رسوم الحصول على صورة من البلاغ بواسطة محامي من النيابة إلى مبلغ 10 آلاف جنيه». ويضيف: «يضع القرار ثمناً للعدالة، ويعطّل إجراءات التقاضي، ويسيء للقانون ويشوّهه مزيداً. والتشدّد من قبل وزارة المالية التي عيّنت موظّفين لها داخل النيابات العامة للتحصيل، مُضرٌّ بمصالح المواطن قبل المحامي. أخشى أنّ ما تبقى من العدالة في السودان على المحك».