أتر

معاناة بلا سقف: لاجئات تولوم يتحدّثن في يومهنّ العالمي

«أنا قادمة من مدينة الفاشر. طاردني النزوح حتى وصلت إلى هنا برفقة زوجي وستة من أبنائي، أربعة منهم أطفال، وفتاتان في سنّ الشباب. قضينا سنة كاملة في هذا المعسكر، في ظلّ أوضاع معيشيّة قاسية للغاية، تكاد تفتك بالأرواح»، تروي لاجئة سودانية من معسكر تولوم بوادي فيرا شرق تشاد لمراسلة «أتَـر».

وتتابع في وصفها للوضع الإنساني قائلة: «كل شهر، تَمنحنا المنظّمات مبلغاً لا يتجاوز 1600 فرنك تشادي، أي نحو 32 ألف جنيه سوداني. هذا المبلغ لا يكفي حتى لتغطية احتياجات أسبوع واحد. إنها المساعدة الوحيدة التي نحصل عليها. وكم نأمل أن تتحسّن هذه الإغاثة المؤقتة، وتتحول إلى مشاريع حقيقية ومُستدامة، تُعيد إلينا شيئاً من الكرامة، وتمنحنا القدرة على الوقوف من جديد. هذا هو الأمل الذي نتمسّك به».

ثمّ تسرد واحدةً من أقسى لحظات حياتها: «المرارة لا تُفارقني كلّما تذكّرت ذلك اليوم الذي ضاقت بنا فيه الحياة في المعسكر، فقرّرت العودة إلى السودان، معتقدةً أنّ الموت هناك سيكون أرحم من حياة اللجوء هنا. وهناك، وسط لهيب الحرب، قُتل زوجي وشقيقه أمام عينيّ بوحشية. وبعد عشرة أشهر من تلك الفاجعة التي كَسَرَتْ ظهري، عدتُ إلى هذا المعسكر ثانيةً، لأجد الأبواب كلّها موصدة في وجهي. لا عمل، ولا فرصة، ولا حتى أمل يلوح في الأفق».

وتختتم حديثها بأسى: «ما يُؤلمني أكثر هو أنّ اللاجئين الذين وصلوا حديثاً يحظون بدعم وتسهيلات أفضل بكثير مما نحصل عليه نحن، رغم أننا سبقناهم إلى هذا المعسكر وذقنا مرارة العيش فيه لسنوات».

من بين خيام معسكر تولوم المُترامية الأطراف، سمعت «أتر»، أصواتاً تحمل أوجاع اللجوء، وصرخات أطفال فقدوا طفولتهم، وأصوات نساء حملن على عاتقهن أعباءً لا تُطاق، ورجال يصارعون اليأس. هناك بيانات للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة الصحة العالمية، واليونيسف، وأطباء بلا حدود توثق الأوضاع. لكن الأهم، هي قصص اللاجئين أنفسهم، فهي ليست مجرد أرقام، إنها نبض حياة يعصف به الألم. وقد حذّرت البيانات من أن الأزمة قد بلغت «نقطة اللاعودة»، مع تضاعف أعداد اللاجئين في تشاد إلى 851,687 منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. وقد وصل 70,492 لاجئاً جديداً مع اشتداد هجمات الدعم السريع على معسكرات شمال دارفور في منتصف أبريل، 61% منهم أطفال.

ويقع معسكر «تولوم الانتقالي» في منطقة وادي فيرا شرقي تشاد. كوّن عام 2004 من قبل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، مع عدة معسكرات أخرى لإيواء النازحين الذين انتقلوا إلى تشاد عقب اندلاع الحرب في دارفور عام 2003، نتيجة لقصف الجيش السوداني معسكر نازحين في مدينة الطينة الحدودية، ما أدى إلى نقل النازحين داخل حدود تشاد. وشهد المعسكر احتجاجات في 2024 بسبب تردي الأوضاع المعيشية. وبحسب شبكة عاين، يبلغ عدد النازحين الجدد في المعسكر حوالي 18 ألف نازح سوداني.

أطفال عطشى بلا طفولة

تصوير: فاطمة فضل جاسر

لأطفالنا قصّة أخرى من الألم الذي لا ينتهي. العام الماضي، كانت فصولهم الدراسية محض ظلال تحت شجرة يابسة، لا تحميهم من شمس حارقة أو مطر مباغت. لكن بفضل الله، ثم بدعم منظمة «جرس» ومبادرة «أ. عائشة بدوي» الخيريّتين، بُنيَت مدرستان، كلّ واحدة تضمّ ستة فصول، إضافة إلى روضة أطفال

رَوَتْ لاجئة سودانية أخرى من معسكر تولوم بشرق تشاد لـ «أتَـر» جانباً من معاناة الأطفال في ظلّ النزوح، قائلة: «لأطفالنا قصّة أخرى من الألم الذي لا ينتهي. العام الماضي، كانت فصولهم الدراسية محض ظلال تحت شجرة يابسة، لا تحميهم من شمس حارقة أو مطر مباغت. لكن بفضل الله، ثم بدعم منظمة «جرس» ومبادرة «أ. عائشة بدوي» الخيريّتين، بُنيَت مدرستان، كلّ واحدة تضمّ ستة فصول، إضافة إلى روضة أطفال».

وحسب اللاجئة، التي أخفينا هويّتها لضمان سلامتها، تفتقر هذه المدارس إلى البنية الأساسية، لا سيّما المرافق الصحية. ويعتمد المعلّمون في الغالب على جهود تطوعية من شباب سودانيين، إضافة إلى أربعة مُعلّمين تشاديين تدفع الحكومة التشادية رواتبهم. وفي ظلّ غياب أبسط مستلزمات الطفولة من ألعاب ووسائل ترفيه، يعيش الأطفال في بيئة قاسية، تحمل آثار الحرب واللجوء في تفاصيلها اليومية.

وتنتقل اللاجئة إلى الحديث عن أزمة المياه في المُعسكر، فتقول: «أما الماء، شريان الحياة، فإننا نتلقّاه من منظمة أطباء بلا حدود ومنظمة «ألمي» بالتناكر يوماً بعد يوم. نعم، هناك آبار، لكنها بعيدة جداً، ومياهها ملوّثة بالطمي ولا تصلح للشرب. وحتى المياه التي تصلنا، فهي محدودة جداً ولا تكفي أسرة كاملة».

وتُتابع: «لا نملك من أدوات التخزين سوى الجراكين التي وزّعتها منظمة أطباء بلا حدود أربعاً لكل أسرة. لكنها لا تصمد طويلاً، إذ تتكسّر سريعاً تحت شمس تشاد الحارقة. نحن في حاجة ماسّة إلى براميل متينة أو خزانات كبيرة تحفظ الماء وتخفف عنا عبء العطش المتكرّر».

حلَّ اليوم العالمي للّاجئين في 20 يونيو الماضي، وسط تصاعد التحذيرات بشأن الأزمة الإنسانية المُتفاقمة للاجئين السودانيين في شرق تشاد. وحذّرت الحكومة التشادية، الاثنين الماضي، من أنها قد تضطر لإغلاق حدودها البرية مع السودان بسبب عدم توفر الدعم. تتفاقم الأزمة بسبب نقص التمويل الحادّ؛ ففي مارس 2024، حذّر برنامج الأغذية العالمي من توقف المساعدات الغذائية للاجئين في تشاد بسبب هذا النقص، ما يترك حوالي مليون شخص في مواجهة الجوع.

وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإنها تسعى، ضمن إطار الاستجابة الإقليمية لأزمة اللاجئين السودانيين، إلى جمع 553.7 مليون دولار أمريكي على نحو عاجل، وذلك بالتعاون مع شركائها في تشاد. وتهدف هذه الميزانية لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة للاجئين الفارّين إلى شرق تشاد، بما يشمل توفير خدمات الحماية والمأوى والغذاء والمياه والصرف الصحي.

معاناة الولادة ونقص الإسعافات

وصفت لاجئة الأوضاع الصحية داخل معسكر تولوم شرق تشاد بأنها «كارثية»، حيث لا تتوفّر خدمات الرعاية الطبية الكافية، خاصة لأصحاب الأمراض المزمنة. ويضمّ المعسكر مستشفيَيْن، لكن خدماتهما تقتصر على علاج أمراض محددة مثل الملاريا ونزلات البرد، بينما يُترك مرضى السكري والضغط والربو دون أدوية أو متابعة طبية.

تبرز معاناة النساء بخاصة في لحظات الولادة، إذ يُضطرّ بعضهنّ إلى الإنجاب في الشارع بسبب بُعد المستشفى وغياب وسائل النقل، فضلاً عن عدم توفر قسم ولادة أو طبيب نسائي مختص

وتبرز معاناة النساء بخاصة في لحظات الولادة، إذ يُضطرّ بعضهنّ إلى الإنجاب في الشارع بسبب بُعد المستشفى وغياب وسائل النقل، فضلاً عن عدم توفر قسم ولادة أو طبيب نسائي مختص. وتطالب نساء المعسكر المنظمات الإنسانية بتوفير غرفة ولادة مجهّزة وطبيب نساء موجود على مدار الساعة، إضافة إلى غرفة للعمليات الصغرى الضرورية.

وفي حالات الطوارئ الناجمة عن الاشتباكات داخل المعسكر، يُترَك المصابون دون إسعافات أولية بسبب غياب المعدّات الطبية الأساسية، وغياب فريق الطوارئ المؤهّل في المستشفى، ما يزيد من خطورة الوضع الإنساني داخل المعسكر.

الاكتفاء الذاتي في مواجهة التحديات

تصوير: فاطمة فضل جاسر

تحدّثت لاجئة من مدينة نيالا، وتقيم حالياً في معسكر تولوم، لمراسلة «أتَـر»، مفضّلةً عدم الكشف عن اسمها، عن الواقع الأليم في معسكرات اللجوء، مؤكّدة أنّ الظروف المعيشية القاسية قد دفعتها، شأن العديد من النساء في المعسكر، إلى العمل في الزراعة سبيلاً وحيداً لتأمين لقمة العيش لعائلتها، رغم المسافات الطويلة التي تقطعها سيراً على الأقدام يومياً للوصول إلى الحقول.

ومضت في حديثها قائلة: «واجهنا صعوبات جمّة في عملية الزراعة، لعلّ أبرزها الافتقار إلى الآلات والمعدّات الزراعية الحديثة»؛ وأضافت متسائلةً: «كثيراً ما نسمع عن الدعم المُخصَّص للمزارعين، خاصة في الزراعة الصيفية والمطرية، لكننا لا نعلم أين يذهب هذا الدعم حقيقةً!».

وأوضحت أنهنّ يزرعن ما تيسّر من محاصيل كالذرة، وتسمّى «الماريك»، والدخن والسمسم، لكنها شدّدت على أنّ زراعتهنّ لا تُحقّق النجاح المرجوّ منها، «وتكمن المشكلة في نقص الأدوات الأساسية التي تُمكّننا من العمل بفاعلية».

كثيرون عملوا لساعات طويلة في ظروف قاسية دون أن يتقاضوا أيّ أجر، ومن نال شيئاً، كان زهيداً لا يعادل الجهد المبذول ولا العرق المسكوب

تحدّثت اللاجئة عن تداعيات النقص الحادّ في الموارد، مؤكّدة أنّ «هذا العجز دفع بعضنا إلى البحث عن عمل في حصاد أراضٍ زراعية تابعة لآخرين، وهناك تعرّضنا للنصب والاحتيال». وأضافت: «كثيرون عملوا لساعات طويلة في ظروف قاسية دون أن يتقاضوا أيّ أجر، ومن نال شيئاً، كان زهيداً لا يعادل الجهد المبذول ولا العرق المسكوب».

وتطرّقت إلى معاناة الشباب في معسكر تولوم، قائلة: «حتى شباب المعسكر، الذين خرجوا إلى الزراعة بأحلام كبيرة، عادوا بخيبة أمل مريرة بعد عام كامل من العمل المضني دون أي عائد». وأضافت بأسى: «تدهورت صحّتهم البدنية والنفسية بفعل هذا الجهد الضائع، وقد شهدنا حالة مؤلمة لأحدهم، أُنهك تماماً من العمل والمرض، وعاد إلى المعسكر جثة هامدة».

وختمت حديثها بالقول: «هذه هي معاناتنا اليومية، وهذا هو الثمن الباهظ لمحاولتنا البقاء على قيد الحياة وسط ظروف لا ترحم».

لا حلول مستدامة

تصوير: فاطمة فضل جاسر

من معسكر تولوم، سلّطت فاطمة فضل جاسر، وهي لاجئة وقيادية مجتمعية، الضوء على التحديات المعيشية القاسية التي يواجهها اللاجئون السودانيون، داعيةً المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية إلى التدخّل العاجل وتقديم حلول جذرية ومستدامة. في حديثها لـ «أتَـر»، أشارت جاسر إلى أنّ أكبر التحديات تكمن في انعدام فرص العمل، وهو ما دفع العديد من اللاجئين إلى مغادرة المعسكر باتجاه مناطق مجاورة مثل الطينة، وأريبا، وأبشي، وحتى مناطق تعدين الذهب في كوري، بحثاً عن مصادر دخل بديلة. ووصفت هذه الرحلات بأنها «محفوفة بالمخاطر لكنها ضرورية من أجل البقاء».

وحول الدعم الغذائي، أوضحت جاسر أن معظم اللاجئين يعتمدون على برنامج الغذاء العالمي (WFP)، بينما يعتمد الباقون على تحويلات أقاربهم أو عائل واحد يعمل خارج المعسكر. وأضافت مؤكدة ما قالته اللاجئة عائشة إبراهيم، من أن المساعدة النقدية التي يحصل عليها الفرد شهرياً لا تتجاوز 1600 فرنك، أي نحو 32 ألف جنيه سوداني، وأن هذا المبلغ لا يُغطّي حتى نفقات أسبوع واحد. وأفادت بأنّ بعض الأسر، رغم حاجتها المُلحّة، تفضل التعفّف على طلب المساعدة، مُشدّدة على أن الوضع يستدعي تدخّلاً إنسانياً فاعلاً قبل أن يتفاقم أكثر. ولفتت إلى تدهور الأوضاع الصحية داخل المعسكر، مُحذّرة من تفاقم الأزمات مع اقتراب فصل الخريف وغياب التدخّلات المستدامة.

وحول أزمة المياه، أوضحت جاسر أنه «بعد معاناة الأشهر الستة الأولى، جرى توفير المياه عبر منظمة سقاديف سابقاً، وحالياً تتكفّل منظمة أطباء بلا حدود (MSF) ومنظمة ألمي بتوزيع المياه بالتناكر، إلى جانب توفير جراكين للحفظ». لكنها شدّدت على أن «الاحتياج الأهمّ الآن هو لوسائل تخزين أكبر مثل البراميل أو الخزّانات لضمان توفر المياه وسلامتها لفترات أطول».

وفي ما يتعلّق بالخدمات الصحية، أشارت إلى وجود مستشفيين تابعين لمنظمتي IRC وMSF، مؤكّدة أن هناك «بعض التدخّلات من منظمات أخرى خلال فترات انتشار الأوبئة»، لكنها استدركت: «ما ينقصنا بشدة هو الأدوية المنقذة للحياة، التي كثيراً ما لا تتوفر عند الحاجة».

أما في ملفّ الصرف الصحي، فقد كشفت جاسر عن غياب نظام متكامل، قائلة: «نستخدم دورات مياه بلدية، وكلما امتلأت تُحفر أخرى بديلة، لكن عند التأخير نُضطرّ لقضاء الحاجة في العراء، ما يعرّضنا لأخطار صحية حقيقية». وأضافت: «نخشى من كارثة مع دخول فصل الخريف، حيث تزداد فرص انتشار الأمراض بسبب مياه الأمطار وتكاثر الذباب».

وفي جانب الصحة النفسية، أكّدت أنّ الدعم النفسي في المعسكر «ضعيف للغاية ولا يُقدَّم بالصورة المطلوبة». وأوضحت أنّ منظمة أطباء بلا حدود تبذل بعض الجهود، لكنها غير كافية، مضيفة: «نحتاج إلى جلسات نفسية منتظمة، فردية وجماعية، يشرف عليها مختصّون مدرَّبون».

واختتمت بالقول: «كلّ من مرّ بتجربة الحرب والنزوح هو في حاجة إلى رعاية نفسية احترافية، فالصدمة لا تأتي من المعارك فقط، بل أيضاً من ظروف المعسكر القاسية، ونقص الخدمات، وانعدام فرص العمل. وهذه كلها عوامل تؤدي إلى تآكل الاستقرار النفسي».

Scroll to Top