
عرضٌ لكتاب:
«السودان وفشل المشروع الإسلامي: نحو مستقبل علماني ديموقراطي» لـ محمد محمود
منشورات الجمل، 2022
«المُلكُ بالدِّين يَبقى والدِّينُ بالمُلك يَقوى».
عليّ بن أبي طالب، نهج البلاغة، 759.
عرف مشهدُ الكتابة والدراسات الإنسانية في السودان محمد أحمد محمود – أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الخرطوم – منذ ثمانينيات القرن الماضي، ناشطاً في النقد الفكري عموماً، وفي مقاربات الفكر الديني والخطاب الإسلامويّ على وجه الخصوص. وكانت دوريّته الأشهر في فترة الديمقراطية الثالثة هي «اليقظة»، وهي دوريّة مكرَّسة لنقد العقل السلفي، صدرت منها بضعة أعداد تناولت محاور متنوّعة. نزعم هنا أنّ تلك المحاور اتسعت وتطوّرت لاحقاً إلى كتب فكرية تكشف عن انشغالات كاتبها بالمُقدّس، وتجلياته الاجتماعيّة، والسياسيّة، والأيديولوجيّة.
أصدر كتابه المهمّ عن فكر محمود محمد طه بالإنجليزية: البحث عن الألوهة: دراسة نقدية لفكر محمود طه (2007)، وأعقبه بكتاب نبوّة محمد: التاريخ والصناعة (الطبعة الثانية، 2019) الذي أثار جدلاً واسعاً في المحيطين العربي والإسلامي، ولا يزال؛ إضافة إلى ذلك إشرافه على دوريّة «العقلاني». ويُنتظر صدور كتاب جديد له عن النصّ المؤسِّس: القرآن. هنا، نقدم عرضاً لكتابه عن فشل المشروع الإسلامي في السودان.
أوضح الكاتب أنّ فصول هذا الكتاب نُشرت في أوقات متفرّقة، لكن يجمعها خيطٌ ناظمٌ واحدٌ، هو نقد خطاب الإسلام السياسي لدى حركة الإخوان المسلمين، في حالة السودان تحديداً، لا سيّما تجربتهم في الحكم (1989–2019). ثمّ يتأمل في لحظة الثورة – ثورة ديسمبر – مستبشراً بأن تتحقّق أحلام الشعب السوداني في السلام والحرية والعدالة، وكيف أنّ سلطة «الإنقاذ» قد استشرى فسادها حتى طال المجتمع نفسه «الذي حاولوا تدميره ودفنه في قاع الأرض وقاع النيل».
في الفصل الأول – الذي نراه يشكّل جوهر أو محور الكتاب – والمُعَنْوَن بـ: «الحركة الإسلامية: التاريخ وفشل الحلّ وضرورة العلمانية»، يُبيّن الكاتب أن «الحركة الإسلامية» في السودان لا تقتصر على جماعة الإخوان المسلمين، إنما تشمل أيضاً الإخوان الجمهوريين والكيانين الكبيرين: الختمية والأنصار. غير أن هذه الدراسة تركز فقط على جماعة الإخوان المسلمين والحركة الجمهورية.
تابَع الكاتب تطوّر الحركة الجمهورية منذ أواسط أربعينيات القرن الماضي حتى لحظة اغتيال محمود محمد طه في 1985، مع رَصْد دقيق للتحوّلات والمواقف الفكرية، بخاصةٍ في الفترة من مطلع الستينيات وحتى ما بعد منتصف السبعينيات. وهنا يفتي الكاتب بأنّ طه، بحكم تعليمه في كلية غوردون، والإخوان المسلمين، بحكم انخراطهم في التعليم النظامي الحديث، كانوا «ذوي حساسية «حداثية» منفتحة على دعوات تجديد الإسلام وجعله يتحدّث بلغة العصر». ويُعلّق محمود بأن الإخوان المسلمين، في سياق الممارسة السياسية، كانوا مهادنين للكيانَيْن.
بعد تقديم خلفية وافية عن تطور الفكر الجمهوري وتقاطعه مع السياسي، ينتقل الكاتب إلى نبش ذاكرة حركة الإخوان المسلمين وتكوّنها، مُلاحظاً أنه قد توفّرت لها «منذ منتصف الستينيات قيادة شابة حركية وميكافيليّة في شخص حسن عبد الله الترابي (1932–2016)»، الذي سيُفرِدُ له فصلاً خاصاً لاحقاً.
يرصد محمود ظهور الإخوان بوصفهم قوة سياسية في المشهد السوداني بعد ثورة أكتوبر، وما رافق ذلك من تعقيدات أبرزها طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، ثم يتتبّع تطوّرات المشهد حتى انقلاب مايو 1969، إذ ظلّ الخطاب الإسلامويّ نشطاً. وقدّم الكاتب نقداً قوياً وباهراً لتجربة الإخوان والجمهوريين، وحتى للكيانين، وما أفرزته ممارساتهم من واقع سياسي بائس أصاب الدولة والمجتمع معاً. تحديداً، حمّل الكاتب حركة الإخوان المسلمين المسؤولية عن الفساد الذي انغمس فيه نظام مايو، حتى لحظة إعلان تطبيق الشريعة في سبتمبر 1983، ثم إعلان نميري في 1984 نفسه «إماماً للمسلمين مدى الحياة» بسُلطات مطلقة، ثمّ تنفيذ حكم الإعدام بحقّ الأستاذ محمود محمد طه في يناير 1985.
ينقل محمود عن عبد الوهاب الأفندي في كتابه «ثورة الترابي: الإسلام والسياسة في السودان» قوله: «في ظل حُمّى الشريعة، ذاق الإخوان طعم السلطة الحقيقية لأول مرة، ونجحوا في إطلاق ثورتهم الإسلامية». في المقابل، ظهرت ملامح نقد سياسيّ آخر بعد انتفاضة أبريل 1985، ركّزت على فشل تجربة الصادق المهدي في الديمقراطية الثالثة، وكيف أنه ترك المجال مفتوحاً أمام جماعة الإخوان المسلمين، لتؤول الأمور إلى قيام دولتهم التي عاثت في البلاد فساداً، بطشاً ونهباً، ورهنت السيادة، حتى جاءت ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظامهم ومشروعهم الحضاري، بعد أن تحوّلت البلاد إلى «جمهورية الخوف»، كما وصف كنعان مكية عراقَ صدّام.
اندلعت الحرب في أطراف السودان ومحيطه، وانفصل الجنوب، وطفحت إلى السطح خطابات عنصرية وكراهية، وانكشفت طبيعة حروب الموارد والهوية، وخصوصاً في دارفور. هكذا كانت مآلات دولة الحركة الإسلامية. وبعد إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وفق أجندة الإخوان المسلمين، أصبحوا وأجهزتهم الأمنية ومليشياتهم هم الثورة المُضادّة بعينها، وارتبطت دولتهم بأسوأ سجلّات انتهاكات حقوق الإنسان، ونهب الموارد، وفساد الدولة الذي بلغ أقصى درجاته، فضلاً عن سَنّهم قوانين تُضاعِف تلك الانتهاكات.
يختتم محمود هذا الفصل بقوله: «كان الإخوان عشية انقلابهم قد فرغوا من تحقيق بضعة أهداف: نشر هيمنة الخطاب الديني وترهيبه، وخلق كيان اقتصادي متين مستند إلى بنية مالية تتجاوز السودان… مما مهّد لتمكينهم الاقتصادي… وأخيراً: احتكار السلطة وإقصاء كل قوة أخرى». ويضيف أنّ المشروع الحضاري فشل على المستويات كافة: السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بل حتى على المستوى الفكري، ما عجّل بسقوطه في مواجهة ثورة اجتماعية سلمية عظيمة.
في الفصل الثاني: «حسن الترابي: من البأس إلى البؤس»، يواصل الكاتب نقده الحادّ لدَور زعيم الحركة الإسلامية، منذ ظهوره بعد ثورة أكتوبر، ثم تكريسه زعيماً لدى عناصر الحركة، ونجوميّته المتعاظمة بعد انقلاب مايو، وصولاً إلى انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية الثالثة.
يرى محمود أنّ الترابي أدّى دَوراً تاريخياً في تمدُّد المشروع الإسلامي، مثل فرض خطاب يضع الإسلام في قلب السياسة السودانية، وجرّ الحزبين الكبيرين إلى مواقعه، لا سيّما بعد ما عُرف بـ «المصالحة الوطنية»، إذ دعا جماعته إلى الشروع في: التمكين المالي، واختراق المؤسسة العسكرية، وتأهيل كوادر الحركة الإسلامية.
من هنا يبدأ محمود نقده للرجل وفكره، ويختم بالقول: «مات الترابي بعد أن سَلَب السودانيين حرّياتهم الفكرية والسياسية وحقّهم في التعبير والتنظيم… سَلَب مواطنيه من دستورهم ومن حماية حكم القانون، ليصبحوا خاضعين لسطوة جهاز أمن حركته وعسفه… ماتَ الترابي بعد أن حوّلت حركتُه السودانَ إلى بلد من أكثر البلدان انحطاطاً… وأضحى بلداً تابعاً فاقداً لسيادته وكرامته».
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى الفصول الثالث والرابع والخامس، التي تواصل نسق النقد ذاته للعقل الإسلاموي، متناولاً المادة (126) من القانون الجنائي لسنة 1991 الخاصة بالردّة، موضحاً أنها «مادة أصيلة، بل وأساسية، في مشروع بعث الشريعة الإسلامية وفرض إكراه داخلي فعّال في مجتمعات المسلمين المعاصرين». ويرى الكاتب أنّ هذا الوجه من وجوه الخطاب الإسلاموي يعكس صِدَاماً أصيلاً بين الإسلام وحرية الفكر، «صِدَام لا يمكن إلغاؤه في إطار الهيمنة الإسلامية التي تفرض الشريعة بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع».
يواصل الكاتب في الفصلين الأخيرين نقد ما يسميه «آفاق نقد الشريعة»، متناولاً حدَّي السرقة والنشوز، ومفهوم القِوَامة، والضرب، بإشارات مباشرة إلى جمهور المجتهدين من أمثال محمد عبده، ومحمد شحرور، وسيد قطب، ومحمود محمد طه، حيث يَخلُص إلى أنّ أحكام الشريعة – خاصّة ما يتعلق بالردّة والسرقة والنشوز والقوامة – أعاقت تطوير شريعة الأحوال الشخصية، كما في محاولة طه، وعجزت عن مواكبة الحداثة أو إعادة التفكير في المعايير الأيديولوجية التي أرهقت الفقه الإسلامي، ولا تزال الحركة الإسلامية سجينة لظلمته.
ويختم محمود بقوله: «لقد عكس التشريع باستمرار تطوّراً وئيداً من قوانين في غاية القسوة والعنف والغلظة، إلى قوانين أكثر إنسانية وتوازناً وعدلاً وحكمة».