أتر

صور تتحلّل، لكنها ناطقة

إزاء ما تَبلغه الحروب من مدىً بعيدٍ في العنف والانتهاك، ربما تكون الكاميرا طريقة مُباشرةً ورمزيةً للتعبير في آن. ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، أعلنت الصورة عن نفسها شاهدةً على هذه المرحلة العصيبة من تاريخ السودان؛ وانخرط المصوّرون والمصوِّرات في مختلف ولايات السودان في توثيق آثار النزاع على المدنيين، مُستخدمين الكاميرا عيناً ترى القصة، تُسجّلها وتَرويها.

يجلس المصور الفوتغرافي مروان محمد لدى ستّ شاي بالقرب من موقع ستارلينك، مُحاولاً تذكّر صورة مُحدّدة تستحق أن تُعبّر عنه، عن فكرته وآماله وأحلامه، لكنه يجد نفسه، منذ أن بدأ التصوير، مَسكوناً بالجانب المُظلم والأشدّ واقعية من الحياة، وهو المعاناة. بدأ مروان التصوير في سنّ باكرة، يَلتقط المشاهد ويروح يتأمّل فيها ثمّ يتابع الخيط، ولا تنتهي القصة. في أوقات قليلة، رأى السعادة في أصدقائه، وراح يُحاول قبض الذاكرة وتخليد اللحظة كي يتمكّن من الاستمرار، صوَّر المدينة والألم، الأطفال والمشرّدين. لاحقاً، عمل مروان مُصوّراً مع عدد من المنظمات. وفي دارفور، عكَسَ بطريقة لمّاحة، عمالة المرأة والأطفال، مُحاولاً توظيف البورتريه، وإظهار العينين بطريقة واضحة، كأنه يقول: هنا تختبئ الحكاية، من ثم إرسال رسالة عن المجتمعات المهمّشة، مستخدماً منصّة إنستغرام موقعاً لعرضه. وقد نُشرت إحدى صوره في مجلة «نيويرك تايمز»؛ وهي صورة امرأة تعمل وهي حاملةً طفلها الرضيع.

تصوير: مروان محمد

شعر مروان بأنه مقيّد، ليس خياله إنما يده. لم يكن يستطيع التنقّل ولا حتى التعبير بأريحية، لكنه لم يتوقّف. قرّر أن ينشئ له عملاً خاصّاً؛ مشروعاً يُبرز ما يعانيه أطفال جراء وجودهم في بيئات غير صالحة من عنف وسوء تغذية وحرمان من التعليم. وبحكم وجوده فيها، كانت الفاشر موقعاً جغرافياً للمشروع.

بعد نشوب الحرب، عمل مروان مصوّراً صحافياً مستقلّاً، مركزاً على توثيق الانتهاكات، مُستخدماً كاميرا هاتفه بعد أن أفقدَته الحرب، في ما أفقدَته، معدّات التصوير؛ إذ تعرّض للنهب أثناء توثيقه بعض ما كانت ترتكبه أمامه قوات الدعم السريع من انتهاكات في دارفور. صوَّر الدماء والقتل والحَرق، وسُجِن لمدة ثلاثة أيام لأنه التقط صورةً توثّق الانتهاكات.

تصوير: مروان محمد

شعر مروان بأنه مقيّد، ليس خياله إنما يده. لم يكن يستطيع التنقّل ولا حتى التعبير بأريحية، لكنه لم يتوقّف. قرّر أن ينشئ له عملاً خاصّاً؛ مشروعاً يُبرز ما يعانيه أطفال جراء وجودهم في بيئات غير صالحة من عنف وسوء تغذية وحرمان من التعليم. وبحكم وجوده فيها، كانت الفاشر موقعاً جغرافياً للمشروع. لكن بما أنها مدينة تعاني الويلات من الحصار المفروض عليها، لا يعرف مروان كيف سيتمكن من الحصول على كاميرا ليبدأ بها عمله الخاص، لكنه لم يفقد الأمل على الرغم من الصعوبات. وهو لا يني يتجوّل في المدينة بكاميرا هاتف مفتوحة وفلاش مغلق، راعياً للسلام عن طريق لقطاته.

تصوير: محمد زكريا

في العام 2019، أسّس محمد زكريا «دار برودكشن»، وهي شركة إعلامية تعمل في التوثيق في دارفور. يجد زكريا في التصوير وسيلةً يستطيع من خلالها نقل قصص الناس ورواياتهم، موصلاً أصوات القضايا الاجتماعية التي تستحقّ أن يُسلّط عليها الضوء. البيئة التي نشأ فيها أكسبته الإلهام والقدرة على التكيّف والصمود والمقاومة، وهو يخلق منها صوراً بالتأكيد! ويقول «إنها حقيقية جداً».

يوثّق زكريا حالة المجتمع الدارفوري، وقد نُشر عمله الفوتوغرافي في مواقع صحفية من ضمنها بي بي سي وذا قارديان. بعد الحرب، أطلق ومجموعة من أصدقائه المصوّرين من أبناء دارفور مبادرة «أصوات من دارفور» ليعرضوا أعمالهم من خلالها، إضافة إلى المعارض، وأخرج فيلماً وثائقيّاً يحكي عن حياة الأطفال داخل معسكر لجوء «كرياندنقو» بدولة يوغندا، فضلاً عن عمله في كتابة التقارير الصحفية.

لا أحد يستطيع رواية الحكاية مثلنا، لأننا نحن من عايشناها.

تصوير: محمد زكريا

ومما يأسى له زكريا أن الحرب قد جلبت جميع صنوف الانتهاكات إلى كثير من المناطق. ومدفوعاً بحسّ المسؤولية، يفكّر في توثيق ما يجري، لكنه لا يستطيع الوصول إلى تلك المناطق جميعها. يقول: «لا أحد يستطيع رواية الحكاية مثلنا، لأننا نحن من عايشناها».

يعمل زكريا حالياً على مشروع تصويري عنوانه «الصمود والخراب»، لتوثيق حياة المدنيّين في مدينة الفاشر أثناء الحصار، لكنه يعاني كثيراً من انعدام الكهرباء والإنترنت لمواصلة عمله. ويلفت الانتباه إلى أنّ المجتمع السوداني غير ودود مع الكاميرا، وهذا ما جعل التصوير أمراً بالغ الصعوبة. ومثل مروان، فقد محمد عدّته التصوير، لذلك يستخدم كاميرا هاتفه للتوثيق.

يُراقب زكريا البيئة من حوله بدقة، يتفحّص ويتوارى، ثمّ يلتقط صورته، وهذا في حالات التهديد الأمني العالي. ومع ذلك لم يضطرّ لإخفاء توقيع اسمه في كل صورة التقطها.

في أثناء بحثه المتواصل عن لقطات تستحقّ التوثيق، يتذكّر محمد زكريا لقطة محدّدة لا يستطيع نسيانها، وهي صورة بورتريه لامرأة تُدعى «قسمة» تسكُن في معسكر زمزم، كانت قبل الصورة بشهرين قد فقدت ثلاثة من أطفالها في وقت واحد بسبب سوء التغذية.

يرى محمد زكريا أنّ صور الدماء المنتشرة على الإنترنت بعد الحرب تجعل الناس يتساهلون مع فكرة الموت، وهو لا يميل لتصوير القتلى، احتراماً لكرامة القتيل، لكنه يقرّ بأن ذلك قد يكون ضرورياً في بعض الأحيان. في المقابل، يرى مروان أنّ الحرب التي أصبحت واقعاً لا مفرّ منه، قد فرضت على المصوّرين مهمّة التوثيق للجرائم المختلفة التي يَتعرّض لها الناس، كي تصير مرئية ومسموعة ويجري التصرّف حيالها، أما من ناحية أخلاقيه فإنه لا يجد مانعاً في تصوير القتلى مجهولي الهوية، يقول: «حتى يتعرّف عليهم أهلهم». 

في أثناء بحثه المتواصل عن لقطات تستحقّ التوثيق، يتذكّر محمد زكريا لقطة محدّدة لا يستطيع نسيانها، وهي صورة بورتريه لامرأة تُدعى «قسمة» تسكُن في معسكر زمزم، كانت قبل الصورة بشهرين قد فقدت ثلاثة من أطفالها في وقت واحد بسبب سوء التغذية.

تصوير: فائز أبو بكر

بدأت قصة فائز أبوبكر مع التصوير الصحفي الوثائقي هوايةً، ثمّ تطوّرت إلى أن غدت مهنةً. وفائز شغوف بتصوير اللقطات اليومية التي تحكي حياة الشارع والناس، وتمنحه قصة. نال فائز جائزة World Press Photo في العام 2022 لصورة صائدة البمبان «روان» كأفضل صورة فردية من أفريقيا. أقام معارضه داخل السودان وخارجه في الهند ورومانيا ومصر والإمارات، كما نُشرت أعمال من تصويره في نيويورك تايمز ورويترز.

في الآونة الأخيرة، انتشرت صور التقطها فائز، وهو يتجوّل بكاميرته في الخرطوم التي طغى عليها الدمار، موثّقاً مشاهد الشوارع والبنايات التي عصفت بها الحرب. وقد لقيت هذه الصور رواجاً واسعاً لأنها وثقت آثار الحرب المُدمّرة على أماكن ومواقع ألِفها الناس في مدينتهم قبل الحرب، وكانوا يَجهلون ما آل إليه حالها في غيابهم. وقد واجهته صعوبات كثيرة وقتها، أولها أنه يتعين عليه أن يستخرج تصريحاً من الجهات المسؤولة ليُباشر عمله، فضلاً عن ما يواجه التصوير الحربي في السودان من مخاطر جمّة، ما جعل منه في مناطق سيطرة الدعم السريع أمراً مستحيلاً، أما في مناطق سيطرة الجيش فإنه لا يُسمح بالتصوير إلا في أماكن محدّدة. ومن حسن حظّه وسرعة تصرّفه، لم يفقد عدّته للتصوير.

تصوير: فائز أبوبكر

يَستعدّ فائز للّقطة أياً كانت، ويُوثّق ما حدث، مُتحاشياً ما يمكن أن تسبّبه له من مخاطر أمنية ونفسية، ويرى أن ذلك واجبه. يقول: «الزمن سيُصلح ذلك». ما كان يُنقذه دائماً هو حدسه الذي يعتمد عليه في النجاة من المخاطر، وبطاقة الصحافة الصغيرة التي يحملها في جيبه، كما عوّدته الحرب أنه في حاجة دائمة إلى وثيقة إثبات تحميه.

يعمل فائز حالياً على عدة مشاريع، منها برنامج «عمران» الذي يُعنى بالنازحين في سنجة وولاية الجزيرة كمثال. من أكثر اللقطات التصاقاً بذاكرته صورة كان قد التقطها في اليوم الثاني للحرب، لرجل على سطح بيته وهو ينظر إلى الدمار وغبار المقذوفات يتطاير من حوله.

تصوير: رتاج يحيى

أما رتاج يحيى، وهي مصورة مستقلّة أيضاً، فقد تعوّدت على التقاط الصور في زمن الحرب بطريقة الاختباء والتلصّص، وساعدها في ذلك عدم تعرّضها للمساءلة الأمنية. وثّقت رتاج ليوميات النزوح في أم درمان والخرطوم وقرى مدني إلى أن أكملت طريقها إلى العاصمة اليوغندية كمبالا. وهي تجد إلهامها في الأفكار والشعور الذي يتخمّر لديها ويحثها على إنشاء لقطة، فتستجيب له إلى أن تخرج الصورة، وتكون عادة بالأبيض والأسود، بأسلوب مُشابه للفنّ السريالي، وبتفاصيل دقيقة. وترغب رتاج في أن يصل صوتها إلى مدارس الفنون الأخرى، كأنها تجدّف بموجة وحيدة ليبقى أثرها. وقد شاركت رتاج في معرض بكمبالا يُعبّر عن أوضاع النازحين في المعسكرات، وشاركت أيضاً في إنشاء قصص مصوّرة مناصرة للقضايا النسوية.

تصوير: رتاج يحيى

ما ترغب فيه رتاج الآن، هو إنتاج كتاب يتضمّن صوراً لكل ما التقطته أوان الحرب، استجابة لضرورة الاحتفاظ بهذه الذاكرة التي تنقل حقائق ما جرى، للتوثيق والتاريخ والشفاء أيضاً. وقد انخرطت حالياً لتعمل مصوّرةً وكاتبةَ سيناريو في العمل على فيلم عن حياة النساء في كمبالا.

تصوير: خالد بحر

يهتمّ المصور الفوتغرافي خالد بحر بالتنوع الثقافي والاجتماعي في السودان، بالثقافات المطمورة في جُبّ النسيان، النسيان الطبيعي أو المُتعمّد. وتهمّه أيضاً قضايا البيئة والتحديات التي تُجابهها. بحسبانه راوياً بصرياً ملعبه الميدان، يرى خالد أن كلّ قصة تصلح للسرد البصري، عبر المشاريع التي تضمّ عدداً من الصور المتتابعة، أو من خلال الصورة المُفردة التي قد تلخّص كل الحكاية. وهو مداوم على نشر صوره في المجلات والصحف المحلية منها والعالمية، كما أنه أقام عدة معارض من قبل؛ وفي 2017 نُشرت لقطة من تصويره على مجلة «ناشيونال جيوغرافيك».

فقَد كل خالد أرشيف صوره، نتيجةً لتعرّض منزله للنهب، ويذكر أنه بعد نزوحه قد احتاج إلى وقت طويل لاستعادة شغفه بالتصوير. ومن خلال خبرته، يرى أن «تجربة التصوير الفوتوغرافي في السودان تختلف عن معظم تجارب التصوير في بلدان أخرى. فالمجتمعات السودانية شكّلت مخيالَها الذاكرةُ الشفاهية، وهي ذاكرة تقوم على المشافهة والمَرْويات المتناقَلة، أكثر مما تقوم على التوثيق الكتابي أو الصوري. ولعلّ هذه الترسّبات المستقرّة في وعي المجتمعات السودانية، قد أسهمت بقدر كبير في عزوف السودانيين عن تقبّل التصوير الفوتوغرافي».

تصوير: خالد بحر

احترف خالد التصوير وتعامَل معه مهنةً منذ أكثر من 15 سنة، لكنه يقول إنه لا يزال في البدايات «لأنّ التصوير بحر بلا ضـفاف»، ويرى أن هنالك مستقبلاً واعداً لجميع الفنون التعبيرية في السودان، لا سيّما التصوير الفوتوغرافي الذي يشهد عصره الذهبي بفضل الشابّات والشباب المنخرطين في هذه المهنة على نحو دؤوب، والذين وضعوا الصورة السودانية في المشهد الإقليمي والدولي.

هؤلاء المصوِّرون والمصوِّرات، من مختلف الجهات، يجتمعون تحت مظلّة السرد البصري للمأساةِ السودانية؛ يكتبون الرواية بالضوء والظلّ، يعبّرون عن لحظات قاسية، ويحوّلون الألم إلى أرشيفٍ مقاومٍ للنسيان.

Scroll to Top