
تحدثنا في الجزء الأول من المقال عن القيم والمبادئ المستقرّة في الوجدان الإنساني والتجارب الثقافية للمجتمعات الإنسانية بعامّة. وعلى هذه الأسس يتعيّنُ أن ينبعث ويتطوّر النظام القانوني دائماً من الإرادة الحرة لجميع المواطنين، ورأينا أنّ الأسبقيّة الأولى هي الاتفاق على المبادئ والأسس التي تقوم عليها استراتيجيات العمل لتأسيس النظام القانوني السوداني الشامل لجميع السودانيين. وتلخصت معالم أطروحتنا في تجسيد قيَم ومبادئ النظام القانوني على الممارسة الإنسانية المتبادلة، بالحرص على حقوق ومصالح جميع المواطنين فيما بينهم، خارج إطار الدولة ومؤسّساتها، وسياسات الحكومات وممارساتها؛ إضافة إلى ضرورة الفصل الصارم والمؤسّسي بين الدِّين والدولة لضمان التقوى الخالصة في المجتمع، دون إقصاءَ الدِّين عن الحياة العامة؛ والتوعية الشاملة بضرورة منع الدولة من ادّعاء قداسة الدِّين وسُلطته الروحية؛ ثم بينّا وظائف الدولة وأغراضها المعلومة، وهي مؤسَّسة سياسية مدنية لا يصحّ أن يُنسب لها الاعتقاد الديني أو النيّة اللازمة لصحّة العمل الديني؛ فضلاً عن دَور الدولة المحدود في تحقيق أغراض الشريعة من خلال التشريع والإدارة والعدل، شريطة أن يكون ذلك في حدود الدستور وسيادة حكم القانون العام، وضمان الحياد الذي يتجسد في الحرية والمسؤولية الفردية الدينية في إطار المجتمع؛ إضافة إلى مبدأ احتكار الدولة لاستخدام العنف؛ والقدرة على فرض إرادتها على عموم السكان؛ إضافة إلى التمييز بين الدولة والسياسة.
سنتناول في هذا الجزء علاقة الدولة بالدين والشرائع في هذه الأطروحة، والتعرّف على الأدوار المتعدّدة للإسلام في مجتمعات المسلمين باعتباره دِيناً، وثقافةً، وأساساً للممارسة الاجتماعية، وأهمية الإصلاح الإسلامي الخلاق والمتجدّد، وما تقدمه الأطروحة حول مفاهيم مثل المواطنة والعلمانية.
إن دَور الشريعة الإسلامية إنما يكون في التزام المسلمين بأحكامها عن طواعية وليس من خلال التطبيق القهريّ بواسطة أجهزة ومؤسسات الدولة التي تَفسد وتُفسد إذا حاولت فرض أحكام الشريعة الإسلامية بالسُّلطة الجبرية. وبحكم طبيعة وأغراض الشريعة الإسلامية، لا يصحّ العمل بأحكامها إلا في حرّيةٍ كاملةٍ وقصدٍ خالصٍ هو «النيّة» المطلوبة في كل عمل دينيّ، وينطبق هذا على ما يُسمّى «أحكام المعاملات»، مثل تحريم الربا وشروط البيع، كما يقوم في أمر العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، فكلّ أحكام الشريعة الإسلامية مُلزِمة للمسلم دينياً بمعزل عن سُلطة الدولة الجبرية.
ومع أنّ إجماع المذاهب المختلفة على كثير من الأحكام الشرعية كان له أثر إيجابي، إذ إنّ مبدأ الإجماع كان عامل توحيد تَمثَّل في جمع جوهر محتوى المذاهب السنية معاً، ما ساهم في استقرار أصول الفقه وأحكام الشريعة؛ إلا أن الإجماع، كذلك، ضيَّق مساحة الفكر الإبداعي للاجتهاد. والرؤية الشائعة هي أنه حدث ضعف تدريجي للفكر التشريعي الإبداعي، نجم عنه ما يُطلق عليه «غلق باب الاجتهاد»، بزعم أن الشريعة قد بلغت بالفعل مداها النهائي في ذلك الزمان. وسواءٌ أغلق باب الاجتهاد أم لم يغلق، وهذا موضوع خلاف بين المؤرّخين، فإن الواضح أنه لم يحدث تغيير حقيقي لبنية الشريعة ومنهاجها، منذ القرن العاشر الميلادي، رغم استمرار بعض التعديلات العملية، في مواقع ومجالات محدودة. والغالب أنّ هذا الجمود والتقليد كان ضرورياً للحفاظ على استقرار النظام أثناء فترات التدهور وانهيار المؤسسات السياسية والاجتماعية، للمجتمعات الإسلامية. لكن لا أحد يملك سلطة إيقاف الاجتهاد، في المرجعية الإسلامية، رغم ما ظهر من إجماع بين المسلمين على ذلك. ولذلك لا يوجد ما يمنع من ظهور إجماع جديد على ضرورة إطلاق حرية الاجتهاد، لمواجهة الطموحات والاحتياجات الجديدة للمجتمعات الإسلامية، وكذلك الإجماع على مراجعة مبادئ أصول الفقه، وهي ناتجة عن الاجتهاد البشري وليس الوحي المُنزل.
إنّ الطبيعة الدينية الأساسية للشريعة، وتركيزها على تنظيم العلاقة بين المسلم وربّه، تعني أنّ تلك المسؤولية لا يمكن التنازل عنها، أو تفويضها. ولا يمكن لمؤسسة بشرية، إدارية أو قضائية، أن تكون دينية بهذا المعنى، حتى عندما تزعم تطبيقها أو فرضها لأحكام الشريعة. وبعبارة أخرى، فإنّ الدولة بمؤسساتها كافةً، هي ذات طبيعة مدنية لا دينية، مهما كانت المزاعم بالدولة الدينية. كذلك الأمر في مسألة الإفتاء التي تتعلق أيضاً بالطبيعة الدينية للشريعة، فقد أصدر العلماء المستقلّون عن سلطة الدولة فتاوى استجابة لحاجات حكام الإمارات، وقضاة الدولة، وعامة المسلمين. إلا أنّ هذه الفتاوى، حتى عندما تصدر عن مؤسّسة لها صفة رسمية، لا تعفي المسلم طالب الفتوى من مسؤوليته من وجهة نظر دينية، عما يتخذه أو يدعمه من تصرف بناء على الفتوى، كما يكون المفتي مسؤولاً كذلك عن فتواه. ستبقى بالطبع الحاجة العملية إلى الإدارة والقضاء، كما ستبقى الحاجة إلى التماس الفائدة من معرفة العلماء وآرائهم. ما أعنيه هنا هو أنّ هذه الأعمال مدنية بطبيعتها، لأنها لا يمكن أن تحلّ محل المسؤولية الدينية لكل مسلم.
رغم الاعتراضات الواضحة على الطريقة التي استقرّت بها الدولة، تحت الرعاية الاستعمارية، فإنّ رسوخ النموذج الأوروبي للدولة في المجتمعات الإسلامية، بوصفه جزءاً من نظام عالمي يرتكز على نفس النموذج، قد غيَّر على نحو جذري العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في شتى البقاع. وباحتفاظها بهذا الشكل الخاص لتنظيم الدولة بعد الاستقلال، تكون المجتمعات الإسلامية قد اختارت أن تتقيّد بالقَدْر المتعارف عليه من الالتزامات الإقليمية والدولية، لعضويتها بالمجتمع العالمي للدول الوطنية. ومع وجود فروق واضحة في مستوى نموّها الاجتماعي، واستقرارها السياسي، وطبيعة دولتها، فإنّ كثيراً من المجتمعات الإسلامية اليوم تحيا تحت نظم دستورية قانونية، تقرّ المساواة وعدم التمييز بين مواطنيها. وحتى حين تَقْصُر الدساتير، والنظم القانونية الوطنية، عن التعبير عن هذه الالتزامات بوضوح، أو رعايتها بفاعلية، فإنّ واقع العلاقات الدولية الحالي يضمن حداً أدنى من الانصياع الواقعي لحقوق المواطنة. وهذه التغيّرات لا يمكن ببساطة الرجوع عنها، رغم أنه ما زالت هناك حاجة ملحّة وماسّة إلى توافق أكبر وأشمل، مع متطلّبات الحكم الديمقراطي، وحماية حقوق الإنسان، في معظم هذه البلدان، وغيرها من مجتمعات العالم.
يقتضي فصلُ الإسلام عن الدولة تنظيمَ المجالات المتعلّقة بتصرّفات الدولة وضبطها، عبر سياساتها الحكومية، من خلال الضوابط والضمانات الدستورية والقانونية. غير أنّ ضبط هذه العلاقة في المجالات الرسمية لا يتحقّق إلا إذا رافقته مجهوداتٌ للتوعية والتفاعل على الصعيد الاجتماعي، سواءٌ أكان على المستوى الفردي أم الجماعي، كي يكون هناك سعيٌ لتأكيد الحياد الديني للدولة، وحماية الحكم الدستوري، وحقوق الإنسان، على نحوٍ يتّسق مع الإسلام، بما يكفل تأصيل ذلك في الثقافة الشعبية والسلوك الاجتماعي. وهذان المجالان للتغيير والإصلاح، عبر التغييرات الرسمية المؤسسية، والمدنية، هما في الواقع متكاملان. ومع أنّ كلاً منهما قد يستدعي أعمالاً واستراتيجيات مختلفة، تتباين حسب السياق الاجتماعي والثقافي، فإنّ ما يجري في أي من المجالين يؤثّر على الآخر. من شأن ضمان حقوق الإنسان مثلاً أن يوسّع فرص الحوار والإصلاح الديني الذي ينعكس على سلوك المسلمين وقبولهم لمشروعية حقوق الإنسان، ما يؤدّي إلى مزيد من الحماية لتلك الحقوق. وحتى تؤتي هذه التحولات المتفاعلة ثمارها، ينبغي علينا أن ننظّم ونضبط العلاقة بين الإسلام والسياسة لكي نضمن استمرارية فصل الإسلام عن الدولة.
تقوم أطروحتي على التعرّف على الأدوار المتعدّدة للإسلام في مجتمعات المسلمين باعتباره دِيناً، وثقافةً، وأساساً للممارسة الاجتماعية. ويشير هذا إلى بُعد ثالث في رأيي، يكمن في مسألة تأصيل التغيير الاجتماعي في ثقافة المجتمع، أو تدعيمه بالشرعية الثقافية. إنّ فصل الإسلام عن الدولة، كما سلف القول، لا يعني إقصاء الإسلام عن السياسة والتشريع والحياة العامة كلياً، شريطة أن يُدعَم ذلك بالمنطق المدني، وأن يخضع لمبادئ الحكم الدستوري وحقوق الإنسان، كلما أتى الأمر من أجهزة الدولة ومؤسساتها الرسمية. للشريعة إذن مستقبل بالغ الأهمية في المجتمعات الإسلامية، نظراً إلى دورها التأسيسي في تطبيع الأطفال اجتماعياً، وإضفاء الطابع الديني على العلاقات الاجتماعية. كما أن لها دَوراً مهماً آخر في صياغة وتطوير تلك القيم الأصيلة، التي تنعكس في التشريعات والسياسات عامة، عبر العملية السياسية الديمقراطية. ولكن لا يكون لها دَور أبداً بوصفها نظاماً معيارياً، تفرضه الدولة وتشرعه، قانوناً وسياسةً عامَّيْن. قد يحدث، كما نرى أن تزعم حكومة أو جهة ما بأن قانوناً ما أو سياسة معيّنة هما الشريعة، لكن هذا زعمٌ باطلٌ، ولا يعدو كونه محاولة لإضفاء قداسة الإسلام على الإرادة السياسية للصفوة الحاكمة. إنّ ما تفرضه أجهزة الدولة لا يمكن أن يكون الشريعة الواجبة دِيناً على المسلم، لأنّ الإيفاء بذلك الواجب الديني يقتضي صحة الاعتقاد والنية في العمل الديني، وهو لا يمكن أن يتحقَّق من جانب أجهزة الدولة.
ما يتبع بالضرورة من حتمية التفسير والفهم البشري للقرآن والسنّة اختلافُ وتعدّد المذاهب والآراء التي لا يمكن لعامة المسلمين قبولها أو رفضها على مسؤوليتهم الدينية. وبما أنه من غير الممكن التنبّؤ بقبول أو رفض عامة المسلمين لرأي أو آخر حتى يجري عرضه ومناقشته على نحو علنيّ وحرّ، فمن الضروري الحماية الكاملة لحرية الاعتقاد والتعبير لكي تبرز الآراء المختلفة وتحظى بالدعوة لها. وهكذا، فإنّ الرقابة والتقييد المسبق يضرّان بإمكانية استنباط وتنمية المبادئ الإسلامية نفسها من المصادر الأصلية في القرآن والسنّة.
وبذلك فإنّ حماية الحقّ في المعارضة والاختلاف هو الوسيلة الوحيدة لتنمية الثقافة الإسلامية ومقدرتها على الاستجابة لاحتياجات المجتمعات الإسلامية، وأحسن سبل حماية هذه الحقوق في الاعتقاد والتعبير والمعارضة في الرأي هي من خلال ضمانات الحكم الدستوري وحماية حقوق الإنسان. وهكذا، فإنّ هذه الوسائل الحديثة ضرورية في إطار الدولة المعاصرة من أجل استمرارية وتنمية المرجعية الإسلامية نفسها. وليس هذا القول بجديد، لأنّ ضمان هذه الحريات، وسَعَة الرأي في الاختلاف، كانت هي أساس استخلاص وترسيخ قواعد الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام، مع اختلاف في الوسائل العملية التي كانت في ذلك الوقت بحسب مقتضيات ذلك العهد والإطار السياسي والاجتماعي. فقد نشأت منهجية أصول الفقه وتفاصيل الأحكام الشرعية ونالت القبول عن طواعية من خلال الإجماع، وليس بفرضها من خلال أجهزة الدولة، وهكذا ينبغي أن تتواصل علاقتنا بالشريعة من خلال الإقناع والإجماع وليس بفرض آراء الحكام من خلال سلطة الدولة.
يجب أن تبدأ جميع إمكانيات التغيير والتطوّر بحقيقة أن نظام الدولة الوطنية وتبعاته التي جاءت إلى البلدان الإسلامية من خلال الاستعمار الأوروبي، قد غيّرت أسس وطبيعة التنظيمات السياسية والاجتماعية جذرياً، وذلك بين المجتمعات الإسلامية بعضها ببعض كما في علاقاتها بالمجتمعات الأخرى. ومن المستحيل عملياً العودة إلى ما كانت عليه أحوال المجتمعات الإسلامية قبل مرحلة الاستعمار، وأيّ تغيير أو إصلاح في هذا النظام الدولي والمحلي الجديد، إنما يكون من خلال مفاهيم ومؤسّسات هذا النظام نفسه. ومع هذا، فإنّ العديد من المسلمين، وربما أغلبيتهم في بعض البلدان، يرفضون بعض جوانب هذا التحوّل وتبعاته اللازمة. ويبدو أن هذا الرفض يكمن خلف التوهّم بإمكانية إقامة دولة إسلامية تطبِّق أحكام الشريعة الإسلامية من خلال المؤسسات الرسمية للدولة، كما أن هذا الرفض يَظهر في التخبّط العميق في العنف السياسي باسم الجهاد. ونحن في حاجة إلى الإصلاح الإسلامي لصياغة هذه الجوانب من الفهم التقليدي للشريعة الإسلامية، إلا أنّ هذا لا يعني القبول الكامل بالنظريات والممارسات الغربية. والمطلوب هو الإصلاح الإسلامي لاستحداث المفاهيم والمؤسسات التي تناسب المُسلمين الذين يعيشون في هذا العالم كما هو الآن، وليس التبعية العمياء لكلّ ما عليه الحال في المجتمعات الغربية.
ولتوضيح نوع التحوّلات الإسلامية التي أدعو إليها بهذه الطريقة الأصيلة، يمكن النظر في إمكانية تحوّل مفاهيم أحكام أهل الذمةّ التقليدية إلى مبادئ متنافسة وإنسانية لمفهوم المواطَنة في الدولة الوطنية. وأول ما يُقال في هذا المجال، أن طبيعة الإنسان تتعلّق بتعدّد الانتماء إلى جماعات مختلفة في آن معاً، مما يرتبط مثلاً بالهوية العِرقية أو الدينية أو الثقافية، والانتماء السياسي والاجتماعي والمهني، أو المصالح الاقتصادية. وهكذا لا تَستبعد الانتماءات والهويات المختلفة بعضها بعضاً، وإنما تترافق في آن معاً لأنها تخدم أغراضاً مختلفة للأفراد والجماعات.
أستخدم مصطلح «المواطَنة» بمعنى الانتماء السياسي في الدولة الوطنية في إطارها العالمي الراهن. ورَبْط مفهوم المواطنة بهذا الفهم لا يمنع إمكانيات الانتماءات الأخرى لأغراض مختلفة، فانتمائي للمواطنة لا يتعارض مع انتمائي لجماعة عِرقية أو دينية، إلا أنه يختلف عن تلك الأنواع من الانتماء. والملاحظ أن الناس لا يعون عادةً حقيقة هذه الانتماءات المختلفة وتنوّعها، ولا يقدّرون أنّ هذا الانتماء لا يكون على حساب ذلك الانتماء المختلف. إنما يميل الناس إلى الجمع والخلط بين الانتماءات المختلفة، مثل مساواة الانتماء الديني أو العِرقي مع الجنسية والمواطنة، وهذا الجمع إنما يأتي من المفاهيم الأوروبية التي ورثناها من الاستعمار.
كذلك أستخدم مصطلح «المواطَنة» لتأكيد أن يكون الانتماء الوطني شاملاً لجميع المواطنين في مجتمع متعدّد الأعراق والأديان والثقافات؛ مجتمع يَقبل وينظّم إمكانيات الانتماءات المتعدّدة في إطار المواطَنة الكاملة والمتساوية للجميع، بلا تمييز على أساس الدّين أو الجنس أو الرأي السياسي وما إلى ذلك من الاعتبارات. ويقوم مصطلح «المواطَنة» عندي على مفهوم ثقافي مُشترك للكرامة الإنسانية المُتساوية والمشاركة السياسية الكاملة لجميع المواطنين. والمواطَنة عندي قائمة على أساس عالمية حقوق الإنسان باعتبارها معياراً مُشتركاً بين شعوب البلدان المُختلفة، بحيث تحدّد مبادئ حقوق الإنسان معنى وتداعيات مفهوم «المواطَنة» لكل قطر أو بلد.
كما أن هناك علاقة حيوية ومتبادَلة بين المستويين المحلي والعالمي لمفهوم «المواطَنة»، إذ يعمل الفاعل الاجتماعي على صيانة الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية في كلّ مكان، محلياً وعالمياً. ويتعيّن على المواطنين المُشاركة في العمل السياسي محلياً وفق الفهم الواضح والالتزام المؤكد بحقوق الإنسان، وذلك يُسهم في تعريف مفهوم «المواطَنة» وتأسيسه في البلد المعين. كذلك يُسهم هذا العمل في تحديد وتطوير مفاهيم مبادئ حقوق الإنسان على المستوى العالمي. وبهذا تكون العلاقة بين المواطنة وحقوق الإنسان ضرورية وضمنية في كل من المفهومين في حدّ ذاتيهما، كما هي في العلاقة بين المفهومين معاً.
تؤكّد هذه المؤشرات على أهمية الإصلاح الإسلامي الخلاق والمتجدّد الذي يوازن بين ضرورة المشروعية الدينية والممارسة السياسية والاجتماعية المؤسسة على القيم الأخلاقية، وكل هذا يقتضي علمانية الدولة كما أقدّمها في هذه الأطروحة. كذلك ينبغي مناهضة وهم «الدولة الإسلامية» الذي يستهوي كثيراً من المسلمين اليوم – وهو محض سراب مخادع – وبقول البعض بالاحتفاظ بمفهوم الدولة الإسلامية بوصفه نموذجاً مثالياً، مع تأكيد حقّ المواطنين في ضبط وتنظيم هذا النموذج في الواقع العملي. لكن ما دام هذا النموذج المثالي الوهميّ قائماً، فسيحاول بعض المسلمين فرضه حسب فهمهم البشري والمغلوط، ما تنتج عنه أوخم العواقب في كل مكان. ومن المستحيل عملياً ضبط وتنظيم مفهوم «الدولة الإسلامية»، إذا جرى الإقرار به نموذجاً مثالياً، إلا من خلال رفض مزاعم القدسية الدينية لفهم البشر للإسلام، وذلك ينفي بالضرورة إضفاء صفة «الإسلامية» على الدولة وهي مؤسّسة بشرية.
ولمّا كانت فكرة «الدولة الإسلامية» متناقضة وغير ممكنة عملياً، قد يتساءل البعض: كيف يختلف البديل الذي أقدّمه هنا عن ما يُسمّى «العلمانية الغربية» التي يعارضها كثير من المسلمين؟ ولتأكيد وتوضيح كيف أنّ دعوتي لعلمانية الدولة ليست دعوةً للعلمانية بوصفها فلسفة تُعارِض المرجعية الدينية، سأقدّم في ما يلي شرحاً لمفهوم «علمانية الدولة» الذي أعنيه، وكيف أنه أقرب إلى توفير المناخ والإطار للتديّن الصادق والمخلص وتفادي مضار النفاق بين المسلمين.
إنّ علمانية الدولة تعني حيادها تجاه العقائد الدينية، فلا تفرض أيّ حكم في مسألة دينية، ولا تمنع أصحاب ذلك الدّين من اتّباع مقتضيات معتقداتهم الدينية. وهذا الحياد يصعب تحقيقه عملياً في الحياة اليومية، لكن لا بدّ من السعي باستمرار لتحقيق أكبر قدر منه. ويَحسُن هنا أن نميّز بين أعمال الدولة في التشريع والقضاء والإدارة من جهة، وحياة الناس وفق معتقداتهم الدينية من الجهة الأخرى. ولا يعني حياد الدولة تقصيرها في الحفاظ على حقوق الناس من خلال حكم القانون وحسن تدبير أمور الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية. وعلمانية الدولة تعني قيامها بهذه المهام على أساس مرجعية المواطَنة وليس برفض الحلول من منظور العقيدة الدينية للقائمين على أمور القضاء والإدارة والأمن أو التعليم أو مؤسسات الدولة الأخرى. ومن الناحية الأخرى، يَحسُن أن لا تتدخّل الدولة في المسائل المتعلقة بالمعتقدات الدينية والسلوك الأخلاقي الاجتماعي لكي يمارس المواطنون ذلك وفق معتقداتهم الدينية والأخلاقية. المطلوب هو الوزن بين ضبط الدولة للأمور المتعلقة بالمواطَنة والمصلحة العامة مع توسيع المجال المواطنين جميعاً ليلتزموا بمقتضيات عقائدهم وأخلاقهم، شريطة ألا يتعدّوا في ذلك على حقوق الآخرين.
إنّ مفهوم «علمانية الدولة» الذي أدعو إليه يعتمد الدَّور المهمّ للدين في الحياة العامة، بما في ذلك التأثير على السياسات العامة والتشريعات، شريطة أن يجري ذلك من خلال مرجعية المواطنة. واعتماد دَور الدِّين في الحياة العامة يشجّع ويسهّل الحوار والاختلاف في الرأي بين أتباع الدين الواحد، ويمكّن من حلّ إشكالات الفهم التقليدي للشريعة مثل مسألة المساواة لعامة المسلمين وغير المسلمين في حقوق المواطنة. وحياد الدولة تجاه الدِّين يعني استبعاد السُّلطة الجبرية للدولة من التدخّل في الحوار والإصلاح الديني، وحماية المعارضين من استغلال خصومهم لسلطة الدولة لإكراههم على الخضوع للرأي الديني من غير قناعة حرة وواعية. لكن على المواطنين استخدام ذلك المجال العام لتقديم وتدعيم وجهات نظرهم في قضايا الدين والأخلاق والسياسة في المجتمع. وهذه المشاركة الحرة ضرورية لتنمية وتصعيد المشروعية الدينية لمبادئ الحكم الدستوري والديمقراطية وحقوق الإنسان التي يحتاج إليها جميع المواطنين، من مسلمين وغير مسلمين.