أتر

كيف يُكتب اسمي: تعليم البنات في قرية الدّاقوي

تُلقِي الشّمس بظلالها على قرية الدَّاقُوي في محلية التضامن بجنوب كردفان، حيث تجلس النسوة على أعتاب بيوتهنّ الطينيّة، في قريةٍ لا يتجاوز عدد منازلها أحد عشر بيتاً: بيوت متقابلة كما لو أنها تفضي من أبوابها إلى بعضها البعض بالحكايات. لا جدران تفصل بين النسوة، وهذه أصواتهنّ الحادّة التي ورثنها من لدنّ الجبال، تصل من بيت إلى آخر في نهارات بطيئة وممتدّة.

في الدّاقُوي، النهار لا ينتهي بسهولة، والنساء ينسجن الوقت بالقهوة، والحكايات، وكتابة الشِّعر. يبدأ يومهنّ بزياراتٍ تتنقّل من بيتٍ إلى بيت حتى موعد المغيب، حين يعود الأزواج والآباء. يَطهين وجبتَيْن في اليوم، ويصعدن إلى أسطح المنازل لجلب «جرو» التبَلدي، فيصنعن من ثماره البيضاء عصيراً يروين به العطش ويكرمن به الضيفات.

لكن، خلف هذه الصّورة اليومية الرتيبة، تتوارى قصة طويلة من الحرمان، والتهميش، والقطيعة مع التعليم. هنا، لا يُسأل أحد عن عمره، ولا يملك الناس أقلاماً يحاولون بها كتابة أسمائهم. هنا، تتعلّم الفتاةُ التحمُّلَ قبل أن تتعلّم الكتابة، وتُمنَع من المدرسة قبل أن تُمنَح صوتاً.

محليّة التضامن بولاية جنوب كردفان، هي محلية زراعية في الأساس، تحدُّها من ناحية الشمال ولاية النيل الأبيض، ومن الجنوب ولاية أعالي النيل في دولة جنوب السودان، وغرباً محلية العباسية، ومن ناحية الجنوب الغربي محلّية أبو جبيهة. تحفُّ بمنطقة «الداقوي» هضابٌ وسلاسلُ جبلية بامتداد البصر. وقد سَلِمت من نيران حرب 15 أبريل، بينما لا تزال تداعياتها تعصف بحياة المواطنين.

كانت مراسلة «أتَـر» هناك، وروَت في عددين سابقين قصّة الزراعة والحصاد في قريتي الدّاقوي وأم بيّوض المتجاورتين، وكيف يتشارك نساؤهما ورجالهما في ترميم الأرض. ههنا، نقرأ قصة أخرى عن فتيات الدّاقُوي والحقّ في التعليم.

أُجبِرَت «زهرة» على مغادرة المدرسة باكراً، وهي في السنة الخامسة من التعليم الأساسي. تقول بألم إنها كانت تحبّ القراءة والدراسة والطريق الطويل إلى المدرسة التي تقع في قرية أم بيّوض المجاورة؛ الطريق الذي يستغرق منها أكثر من نصف ساعة مشياً على الأقدام.

«زهرة»، فتاة في السادسة عشرة وأمّ لتوأمين فقدت أحدَهما نتيجةً لعُسر في الولادة وبقي لها الولد الآخر الذي تناديه باسم «التِّنيّ»، وتحتضنه كثيراً كما لو أنها تحتضن فيه توأمه الميت أيضاً. التِّنيّ في الثالثة من عمره، لا يتحدّث كثيراً، ويغلب على طبعه البكاء. تخبر أمُّه مراسلةَ «أتَـر» بأنها قد ولدته في ظرف قاسٍ، بلا تحضير، وفي بيت غريب، وهم في طريق عودتهم إلى المنزل. ورغم أنها متقبلة لحياتها التي تقول إنها لم تخترها بقرارها إلا أنّ الحزن دائماً ما يجد سبيله إلى «زهرة»، وتسمعه يرنّ خفيضاً في صوتها عند نهاية ضحكتها التي ترنو بعيداً في مقاومةٍ لكلّ تسلُّط تتعرَّض له.

أُجبِرَت «زهرة» على مغادرة المدرسة باكراً، وهي في السنة الخامسة من التعليم الأساسي. تقول بألم إنها كانت تحبّ القراءة والدراسة والطريق الطويل إلى المدرسة التي تقع في قرية أم بيّوض المجاورة؛ الطريق الذي يستغرق منها أكثر من نصف ساعة مشياً على الأقدام. كانت تستيقظ قبل أن تشرق الشمس للذهاب إلى المدرسة، تجتمع هي وبنات القرية ويذهبن معاً في طريق ألِفْنَه واختبرنه، طريق طويل يراجعن فيه جداول الضرب، ويتبادلن الوَنَس، ويحاولن استعادة طفولتهنّ والشغب، كأنهنّ يسعفن به طريق حياتهنّ الذي تعيَّن عليهنّ أن ينضجن خلاله أسرع مما توقّعن.

لكن في النهاية انقطع هذا الطريق. ذات يوم طبيعي من أيام المدرسة، وهنّ في الطريق إليها، تحكي زهرة لمراسـلة «أتَر» كيف اعترض طريقهنّ ابن عمومتهنّ، بموافقة آبائهن، وأمرهنّ بالعودة إلى القرية على الفور. حينما تحكي «زهرة» عن أيامها في المدرسة، تسترسل سريعاً وتقول: «قَرَعُونا»، والكلمة شائعة لدى أهل جنوب كردفان وتعني «مَنَعُونا»، ويستخدمها الرجال غالباً بصيغة الأمر: انقَرِعْ أو انقَرْعِي! بظلالٍ من معاني المنع والنهي والرفض والتقريع.

هكذا، مُنِعت «زهرة» ورفيقاتها من المدرسة، وبعد أشهر قليلة من ذلك زُوِّجت لابن عمها قبل أن تصل سنّ الرشد، في قرار جرى اتخاذه إنابةً عنها ودون أخذ رأيها ومشورتها.

إنها معادلة صعبة حقاً وغير متكافئة. سيأتي يوم الزفاف إلى جميع بنات القرية وهنّ بلا رأي ولا إرادة ولا حتى مشورة. وذات المرأة التي تَقْوَى على حمل جركانة الماء وحزم الأفرع القاسية على رأسها، هي ذات المرأة التي ليست لديها القدرة على الرفض أو المماطلة أو أن تقول رأيها بوضوح شديد

أما «صفاء»، وهي بدَورها في السادسة عشرة، فإنها لم تسلك السلم التعليمي أبداً، لأنّها رأت ما حدث للجيل الذي قبلها من الفتيات، وكيف مُنعن من الدراسة، لذلك لم تشأ أن تخوض المغامرة ليجري «قَرْعها» منها في خاتمة المطاف. وصفاء فتاة خدومة للغاية، تطوف أغلب البيوت وترى ما الذي يمكن فعله، وأغلب هذه المساعدات التي تقدّمها تكون بلا مقابل. وهي خبيرة في تمشيط شعر البنات، وتعلم كيف يمكن تسريح الشعر الخشن الذي يحتاج إلى شخص دقيق وماهر في رسم تقاسيمه. يستغرق منها المشاط ربع يوم بكامله، تُوْقِفه قليلاً وتذهب كي تَرِد الماء لأهلها، ثم تعود ومعها كثيرٌ من الأخبار والمواقف الساخرة عن بنات القرية المجاورة، إذ تلتقي بهنّ في بَيَّارة الماء التي أنشئت قبل سنوات ثلاث. يَرِدن الماء، ويضعن على رؤوسهن «الوِقَاية»، وهي قطعة قماش ملفوفة، ثمّ يضعن الجركانة الملأى بالماء من فوقها. إنه حمل ثقيل للغاية، لكنه لا يُقاس بالاحتطاب من الجبل، إذ يتعيّن عليهنّ أن يتسلّقن الأشجار وهن يحملن قطعة حديد حادّة لقطع الأعواد القوية واليابسة القابلة للاشتعال وقوداً للطهي، ثم يجمعنها ويبدأن بتقسيمها بالفأس أجزاء صغيرة حتى يسهل ربطها مع بعضها، ثم يضعن وِقَاية القماش ذاتها على رؤوسهنّ، ومن فوقها حِزَم الأفرع، كي يحتملنها مسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات من الجبل وحتى منازلهنّ. يقدّرن عادةً أن يكفي ما احتطبنه أسبوعاً من الطهي المستمرّ. وقد يدفِنَّ أعواداً، ويشعلنها تحت روث البهائم حتى تستوي فحماً يَبعن بعضَه، ويجلبن بعضه الآخر إلى بيوتهن لصنع القهوة والشاي في النهارات الثقيلة.

صفاء إذن، شأنها شأن فتيات كثيرات في المنطقة، تحاول عيش حياتها والتحايل على النظام المفروض عليها، لكنها في الأشهر القادمة ستقف أمام تحدّيات كثيرة لا اختيار لها فيه، أوّلها الزواج، إذ إنها أيضاً في رأي والدها غير مؤهّلة للاختيار أو الشورى. تسأل مراسلة «أتَـر» والد صفاء عن السبب، فيقول: «إنها غير متعلّمة». أما صفاء فتردّ: «هم من يَحجرون الفتيات من التعليم!».

إنها معادلة صعبة حقاً وغير متكافئة. سيأتي يوم الزفاف إلى جميع بنات القرية وهنّ بلا رأي ولا إرادة ولا حتى مشورة. وذات المرأة التي تَقْوَى على حمل جركانة الماء وحزم الأفرع القاسية على رأسها، هي ذات المرأة التي ليست لديها القدرة على الرفض أو المماطلة أو أن تقول رأيها بوضوح شديد. من جهته يرى والد صفاء أن حبّه لبناته يجعله قادراً على اختيار الأفضل لهنّ مع أهل القبيلة، حتى إن كانت صفاء لا تعرف عن خطبتها شيئاً.

الآن تعيش صفاء حياتها يوماً بيوم، وتبتكر النكتة، لكنّ يوم الزفاف يلوح في الأفق، وقبله سوف تذهب إلى «الودّاعية» لترى ما يضمره لها المستقبل.

وبدَورها، لم تكن «زهرة» بمنجاةٍ من مواجهة الأمر ذاته. تقول: «قَدِم إليّ أبي فجأةً وقال: زوَّجناك لابن عمّك». وتروي كيف انغمرت حينها بالبكاء والرفض، وهي تحسّ بأنها عديمة الحيلة. لم تكن تتوقّع ذلك مطلقاً؛ لأنّ أباها يفضّلها على باقي إخوتها.

يرى الآباء هنا أنّ تعليم بناتهم ليس أمراً ضرورياً، وأنّه من الأفضل لهنّ البقاء في منازلهنّ وتدبّر أمور المعيشة. وهذا ليس مقتصراً على البنات وحدهنّ، إنما يسري على أبنائهم الصبيان أيضاً. ربما لذلك باتت مدرسة البنات التي في القرية المجاورة ملجأ للغنم، وما من جيل واحد أكمل مرحلة التعليم الأساسي.

شهدت تلك الأيام ولعاً كبيراً من النساء والصبايا في الدّاقوي بشيء حُرمن منه طويلاً. وأصبحن كما لو أنهنّ يأخذن حقّهن بطريقة أخرى، أكثر ليناً وتقبّلاً. لقد زاد وعيُهنّ بعد خوضهنّ تجربة التعليم، وأصبحن أكثر إدراكاً، وكأنهن أضفن إلى استنارتهنّ نوراً جديداً فوق ما علّمتهن الحياة القاسية

أمّا «إيمان»، وهي فتاة متعلّمة، فقد جاءت إلى القرية نازحة مع أبنائها من الخرطوم بعد نشوب الحرب، إذ إن زوجها من سكان المنطقة. استقبلها الأهل بحفاوة وترحيب، ويوماً بعد يوم، بدأت الفتيات يأتين إليها ويحكينَ لها عن مشكلاتهن. لقد وجدن فيها ملجأ آمناً وبوابةً للأمل. وبالضرورة تحدّثن عن معاناتهن مع التعليم، ورغبتهنّ القوية في أن يعرفن كيف يقرأن ويكتبن. لكن لم يقتصر الأمر على الفتيات وحدهنّ. روَت «إيمان» لمراسلة «أتَـر» أنّ فتىً صغيراً سألها ذات يوم إن كانت متعلّمة، وعندما ردّت بالإيجاب قال لها إنه لم يحظ بالتعليم، لأنه كُلف برعاية البقر و«السّروح» بها ما إن كبر قليلاً. وأبدى رغبته الصادقة في التعليم، وأن يكون له شأن في المستقبل.

إزاء هذه الحاجة الملموسة، أنشأت «إيمان» نموذجاً بسيطاً لمدرسة صغيرة، تُعلّم فيه الفتيات الفقه والقرآن والقراءة. بدأت الفتيات والنساء يتجمّعن بعد صلاة العصر أمام غرفة إيمان، وأحياناً داخل قطّية جدّتهن الكبرى. يحفظن سورةً تلو الأخرى، وحديثاً بعد حديث، وكلّ يوم يخرجن من الدرس بمعلومة جديدة. هكذا، تغيّرت اهتمامات الفتيات، وزادت حماستهنّ تجاه الحياة، إذ أصبح مطلوباً منهن المراجعة والمثابرة. يَقرأن لبعضهن قبل بداية الدرس، وإذا أخطأت إحداهن، سارعت الأخرى بتصويب الخطأ.

وشهدت تلك الأيام ولعاً كبيراً من النساء والصبايا في الدّاقوي بشيء حُرمن منه طويلاً. وأصبحن كما لو أنهنّ يأخذن حقّهن بطريقة أخرى، أكثر ليناً وتقبّلاً. لقد زاد وعيُهنّ بعد خوضهنّ تجربة التعليم، وأصبحن أكثر إدراكاً، وكأنهن أضفن إلى استنارتهنّ نوراً جديداً فوق ما علّمتهن الحياة القاسية. وعندما كان الفتيان ينظرون إليهنّ بسخرية ويقولون: «إنتو أسِّي بتتعلَّموا شنو؟»، كنّ يُجبن جميعهنّ بصوتٍ واحد: «بنتعلّم! مالنا؟، أحسن منكم».

Scroll to Top