
أصدر مجلس حكومة ولاية الخرطوم قراراً بمزاولة العمل في الولاية، خلال موعدٍ لا يتجاوز يوم الأحد 15 يونيو الماضي، مُعلناً بذلك انتهاء «الإجازة المفتوحة الاضطرارية بسبب الحرب». في ذلك اليوم، بدأ العمل في عدة وزارات في حكومة ولاية الخرطوم، من ضمنها وزارة الصحة، ووزارة التنمية الاجتماعية.
كذلك، باشر العاملون في محلية الخرطوم مهامهم اليومية برئاسة المحلية والوحدات الإدارية الأخرى في اليوم ذاته. خلال أول أيام العمل، خاطب المدير التنفيذي لمحلية الخرطوم، عبد المنعم البشير، العاملين برئاسة المحلية بالعمارات، وشكرهم على «حضورهم المقدَّر» وسعيهم لإعادة إعمار المحلية حتى تعود لها «سيرتها الأولى»، وطالبهم بأن يبذلوا قصارى جهدهم ليعود سير العمل إلى ما كان عليه قبل 15 أبريل 2023.
ويبدو أنّ عودة العمل في حكومة ولاية الخرطوم تأتي ضمن توجّه أوسع لإعادة الخرطوم عاصمةً إداريةً ومركزاً سياسياً. ففي 13 يونيو، أعلن رئيس الوزراء، كامل إدريس، بدء عملية الانتقال التدريجي للوزارات والمؤسّسات الحكومية إلى الخرطوم؛ ومن ثمّ وجَّه بفتح أقسام الشرطة في ولاية الخرطوم بدءاً من 16 يونيو، ووجَّه في اليوم ذاته بإعادة الجامعات إلى الولاية، عبر حصر وصيانة ما لحق بها من أضرار.
استمارات غامضة
تتضمّن الاستمارة الأخرى أسئلةً ذات طابع أمني عن فترة الحرب، وأماكن نزوح الموظف، وعنوان عمله البديل خلال الحرب. ويعتقد الطاهر أنّ المستبطَن من خلالها أنّ بعض العاملين انضموا إلى قوات الدعم السريع أو تعاونوا معها.
يقول الطاهر مالك، وهو موظّف بوزارة التنمية الاجتماعية – ولاية الخرطوم، إنّ العاملين بالوزارة فوجئوا بإلزامهم بمَلء استمارتين شرطاً مُلزماً للرجوع إلى العمل. وتتضمّن الاستمارة الأولى (إلكترونية) طلباً للعودة إلى الوظيفة يُورِد فيه الموظّف بياناتٍ أساسية، هي: اسمه، وتخصّصه، ودرجته الوظيفية، والإدارة التي كان يتبع لها قبل اندلاع الحرب؛ بينما تتضمّن الأخرى – وهي ورقة من دون ترويسة الوزارة تحصَّلت «أتَـر» على نسخة منها من أحد الموظّفين – أسئلةً ذات طابع أمني عن فترة الحرب، وأماكن نزوح الموظف، وعنوان عمله البديل خلال الحرب. ويعتقد الطاهر أنّ المستبطَن من خلال الاستمارة الأخيرة أنّ بعض العاملين انضموا إلى قوات الدعم السريع أو تعاونوا معها. ويحتجُّ على سؤال الاستمارة عن مكان النزوح؛ إذ إنّه يضع العاملين الذين نزحوا إلى مناطقهم الأصلية، الواقعة ضمن مناطق الدعم السريع، تحت طائلة التخوين، ما يُشكّل عائقاً أمام عودتهم إلى العمل. ويضيف الطاهر أنّ بعض العاملين قدّموا طلبات التحاق وعبّأوا الاستمارة، ولم تتصل بهم الوزارة حتى الآن ليباشروا أعمالهم، بينما قدَّم آخرون طلباتٍ من مناطق آمنة وزاولوا أعمالهم مباشرة.
ترى رشيدة حافظ، وهي موظّفة تعمل في وزارة التنمية الاجتماعية – ولاية الخرطوم أيضاً، طابعاً سياسياً في ما يلي الاستمارات، قائلةً إنّ موقف الموظف من الحرب ودوره فيها يمكن أن يُحدِّد مستقبله الوظيفي، واستشهدت بحصول موظّفين عاديين على ترقياتٍ إدارية مرموقة لمجرد حملهم للسلاح أو ظهورهم في صور وهم يحملونه.
عودة متعثّرة ووظائف تحت التهديد
تضيف رشيدة كذلك أنّ القرار القاضي بعودة العمل الحكومي في الولاية، أصاب العديد من العاملين بإحساسٍ بالاستغناء عن خدماتهم، موضحةً أنّ القرار لم يُراعِ أوضاع الموظفين النازحين، وأنّهم سيكونون ضحايا لتبعاته؛ لافتقارهم إلى القدرة على العودة الفورية بسبب سرقة منازلهم أو هدمها.
متحدّثاً إلى «أتَـر»، يقول ياسر الطاهر، وهو موظّف في الدرجة الثامنة في الخدمة المدنية، إنّه لا يزال نازحاً ولا يفكر في العودة إلى العمل، حالياً على الأقل، مُعلّلاً ذلك بفقدان الخرطوم لمقوّمات الحياة وسرقة منزله الواقع في اللاماب بالكامل. «لم أتلقّ راتبي كاملاً منذ بداية الحرب. وخلالها، كنت أتسلَّم ستين ألف جنيه فقط في حسابي، ولم يتحدّث مسؤولي في العمل عن إمكانية دفع متأخّرات رواتبنا، ولا الكيفية التي يمكننا الرجوع بها، وهم على علم بجميع أحوالنا المعيشية الصعبة»، يقول الطاهر، ومن ثم يضيف: «سمعتُ بتهديدات بفصل الذين يتأخّرون عن المداومة في العمل والتي يحدّدها القانون بفترة تبلغ 45 يوماً. وبمحاسبة الذين تعاونوا مع الدعم السريع، ولا أدري كيف يمكنهم تحديد طبيعة التعاون، ويبدو الأمر من وجهة نظري أنّ الوالي يريد التخلّص من موظفين بعينهم».
يرجو ياسر ألا يخسر وظيفته، وأن تساعده المؤسّسة التي ينتمي إليها في العودة إلى بيته وتهيئة الظروف المناسبة ليُزاول العمل على نحو طبيعي من دون ملء استمارات تُخوّن بعض الموظفين أو تُشرّدهم عن العمل
يرجو ياسر ألا يخسر وظيفته، وأن تساعده المؤسّسة التي ينتمي إليها في العودة إلى بيته وتهيئة الظروف المناسبة ليُزاول العمل على نحو طبيعي من دون ملء استمارات تُخوّن بعض الموظفين أو تُشرّدهم عن العمل: «طلبتُ إجازة لمدة 60 يوماً باعتبارها حقاً قانونياً عن إجازتَي السنويَّتَيْن للعامين 2024 و2025 ولم أتلقّ ردّاً، وحدث ذلك لكثيرٍ من الزملاء الموظفين، وإذا وُوفق على طلب الإجازتين، سأطلب إجازة العام 2026، عندما يحين وقت استحقاقها».
وبالعودة إلى الطاهر مالك، يَقول إنّ المدير العام لوزارته أرسل خطاباً يُسهِّلُ من إجراء منح الإجازات السنوية للعاملين أو النقل إلى الولاية التي نزح إليها، من دون التطرّق للظرف الذي قد يمنع العامل من مباشرة العمل، ومن دون ملامسة مشكلات العاملين أو حلّها، ما عَدَّه الموظفون خطاب استغناء عن الخدمة. «شمل هذا الإجراء الجميع»، يقول مالك، ومن ثم يضيف: «يكابد كثير منّا أوضاعاً معيشية صعبة، وقد تأثّرنا بالحرب مثل عامة الناس؛ نُهِبت بيوتنا ودُمّرِت، ولا يَدْفعُ الراتب عنا غلاء المعيشة ولا يكفي قيمة المواصلات للذهاب إلى العمل، ولنا متأخرات عن 14 شهراً لم نصرف مُستحقّاتها بعدُ، رغم ذلك كله لدينا رغبة مُلحّة في أن نباشر العمل، ولا نريد الذهاب في إجازة من دون راتب على قِلّته».
تعقيدات قانونية
يرى المستشار في قانون الخدمة المدنية «عبّود إبراهيم»، بطلان قرار العودة؛ إذ تشترط قوانين العمل توافر البيئة الآمنة والسلامة المهنيّة ودفع الرواتب، ويضيف أنّ القرار قابلٌ للطعن لأنّ الناس في وضع قوة قاهرة تُعطّل جميع التعاقدات، ولا تُحفظُ تحتها حقوق العاملين والوصول الآمن إلى مكان العمل. ويعتقد عبّود في حديثه لـ «أتر»، أنّ القرار سياسي ويمكن الطعن فيه، لكنّ غياب الدَّور النقابي، وافتقار القوانين إلى إشارات صريحة حيال حقوق العمال في ظروف الحروب والكوارث، يجعلان من ذلك أمراً صعباً.
بينما يرى المستشار القانوني حافظ عثمان، أنّه لا يحقّ للموظّف أن يُطالب بعودة الأوضاع في الخرطوم إلى الحالة التي كانت عليها قبل اندلاع الحرب شرطاً لمزاولة العمل: «لا شكّ في حقّ الموظف في أن يكون الوضع آمناً، ولكن ليس من حقّه أن يشترط توفير الخدمات الأخرى إذا كان المطلوب أن يُسهم هو نفسه في عودة هذه الخدمات». ويضيف حافظ في حديثه لـ «أتَـر»: «كقاعدة عامة، يجب على صاحب العمل أن يُهيّئ للعامل الظروف التي من شأنها أن تمكّنه من أداء عمله، وهي نسبية بالنظر إلى الحالة العامة في البلاد، فمسألة توفير الظروف الملائمة مسألة واقع تحتاج إلى إثبات. الحياة في العاصمة لن تعود إلى طبيعتها ما لم يعد موظّفو الدولة إلى وظائفهم».
واحتجاجاً على عودة العمل الحكومي في ولاية الخرطوم، وصفت لجنة المعلمين السودانيين القرار بأنّه مُخالفٌ لقوانين العمل، التي تنصّ على ضرورة توفير البيئة الآمنة، والسلامة المهنية، والالتزام بتوفير الرواتب، كما قالت إنّه يخالف مواثيق منظمة العمل الدولية. وقالت اللجنة إنّ العاملين لم يتغيّبوا عن العمل بمحض إرادتهم، إنما أرغمتهم الحرب التي دارت في 15 أبريل 2023، حتى تفرّقوا بين نازح ولاجئ ومشرّد. وقالت اللجنة إنّ الولاية زادت من معاناة المعلّمين، بحرمانهم من الرواتب لما يزيد عن سنة، مضيفةً أنّ الولاية لم تُراعِ بهذا القرار الأمن الوظيفي، والوضع الصحي، وندرة الخدمات الأساسية وانعدامها في بعض مناطق الولاية، فضلاً عن السيولة الأمنية وانتشار السلاح.