أتر

الواقعيّة السحريّة؟ أم ورشة العمل الاستشراقيّة غير المقصودة؟

يوم 2 فبراير 2025، في مقهى سانكوفا للكتب والڤيديو، داخل زقاق ثقافي في «واشنطن العاصمة»، شاهدتُ في عرضٍ خاصٍّ فيلماً سودانياً بعنوان «Khartoum» (العاصمة أيضاً). أما لو شاهدتم الفيلم في السودان أو في أي عاصمة خليجية أو عربية فسيكون عنوانه «الخرطوم» وليس «كَارتُووم». ولأني لا أريد أن أفسد عليكم «متعة المشاهدة»، سواءٌ أكنتم في الخليج العربي، أم في بيرث الأسترالية، أم حتى في سينما النيل الأزرق شرق النيل (قريباً يا رب!)، يُفضَّل تأجيل قراءة هذا المقال المنشور إلى ما بعد مشاهدة الفيلم.

لا بدّ أن أقول إنني من عشاق «السينما السودانية» بجميع تجاربها، من عمّك جاد الله جبارة إلى إبراهيم شدّاد، ومن شدّاد إلى الطيب المهدي إلى حسين شريف، ومن حسين شريف إلى صهيب قسم الباري إلى أمجد أبو العلا إلى محمد كردفاني، وصولاً إلى آخر عصاميّي صناعة سينما سودانية. والقول الأدقّ هو أني من عشّاق السينما السودانية التي لم تَحْدُث بعد! أو لنقل إنها قيد التشكُّل الآن، في تجارب العصاميّين الجريئة التي ظلّت تستكشف آفاقها في العقد الأخير تحديداً. بالطبع هناك أيضاً «عصاميّات» سينمائيّات، يلفت إليهن حاضر السينما السودانية، وربما مستقبلها. كما أن هناك منظّمات «عون» (!) فنّي وثقافي. وأنا ممتنّ لانتشار الإنتاجات السودانية الجديدة ولجهود الأفراد والمنظّمات – السودانية والأجنبية – التي ظلّت تدعم صناعة السينما في بلادنا.

السينما والمكان

منذ بداياتها العسيرة في الستينيات وحتى الآن، لم تنجح الأفلام السودانية بَعدُ في أهمَّ ما يمكن أن تقدِّمه لنا السينما: اكتشاف المكان، أو إعادة اكتشافه من جديد؛ لم يحدث ذلك إلَّا في ومضات قصيرة ونادرة، (حسب متابعتي الطويلة). واكتشاف المكان وإعادة اكتشافه ليست كلمات معلّقة في الفضاء، إنما هو حلمُ كلِّ حركة سينمائية في أي مكان، لأنّ المكان حتى في مفهومه المباشر «المدينة، الشارع، القرية، الزقاق، إلخ…»، سواءٌ أكان سودانياً أم غير ذلك، هو دائماً جوهر كلّ شيء في خيال الصورة السينمائية، وربّما في الأدب والشِّعر أو حتى في الكلام العادي، كما سيخبرُك (إذا سألته) الناقدُ السودانيّ الحصيف عبد اللطيف علي الفكي، وهو المتخصّص في علم اللسانيات ونَقد الخطاب، وصاحب «نظام اللغة – نظام اللون» 1986، و «اللغة الخفية في السرد» 2015.

مثلاً، أسَرَني فيلم «وداعاً جوليا» سريعاً، وأشبعَ نهَم عيني لرؤية الخرطوم؛ المدينة التي أعرفها من الداخل والخارج. من حيث الصورة السينمائية، نجح مخرجه محمد كردفاني في «إعادة الكشف» عن زوايا أعرفها في مدينة الخرطوم، بصرياً وسردياً، على نحو «يؤثِّث» المكان بوضوح. وتأثيث المكان في هذا التعبير، وليس تأسيسه، هو «بناؤه» وتشكيله فعليّاً في الصورة والمفهوم. حتى اللقطة القصيرة لـ «بيت العَرَقي الملاصق للعمارة» كانت بالنسبة لي تواصلاً «تليباثياً» مع المكان. والأمر نفسه فعَله المخرج أمجد أبو العلا، في فيلم «ستموت في العشرين»، حين اكتشف مكاناً سودانياً «واقعياً وسحرياً» في آن واحد، بين القرية و «قِيفة البَحَر» وبيت الطين (وقِيفة البَحَر في الدارجة السودانية تختلف تماماً عن شاطئ النهر!) – فقرية فيلمه هي قرية أعرفها في خيالي وذاكرتي. أما فيلم صهيب قسم الباري «الحديث عن الأشجار»، على الرغم من أنه «وثائقيِّ»، فقد تعامَل مع المكان بلمسة شعرية، وربما «سحرية» لو أردت، اعتنَت بالمكان عنايةً خاصة في صورتها السينمائية. ولا عجب هنا، فقصّته تتمحور حول السينما، وحول «مكان» العرض السينمائي نفسه، وهو «المكان» الذي صار الحديث عنه «جريمةً مثل الحديث عن الأشجار». وعنوان الفيلم مقتبس من مقطع شعري معروف للشاعر والمسرحي الألماني بِرتولد بريخت، يقول: «أي زمانٍ هذا، الذي يوشِكُ الحديثُ فيه عن الأشجار أن يكون جريمة، لأنه يعني الصمت على جرائم أشدّ هولاً».

في صالة العرض

يَستعرض فيلم «Khartoum» قصصاً وثائقيّة مؤثّرة تدور أحداثها في مدينة الخرطوم، مستخدِماً أسلوبَ سردٍ تجريبيّاً لا يلتزم بالضرورة بالقوالب الوثائقية المعهودة: أطفال يكسبون قوت يومهم من جمع الزجاجات والعبوّات البلاستيكية وبيعها لتجّار الجملة؛ رجل خمسيني يعمل في الخدمة المدنية ويهوَى تربية الحمام؛ خريجة جامعية تعمل بائعة شاي وقهوة؛ شاب منخرط في الحراك الثوري أصبح لاحقاً لاجئاً وصاحب مطعم سوداني في القاهرة.

يقدِّم الفيلم هذه القصص عبر مَشاهد يبدو معظمُها «مُمسرَحاً» وبعضُها تسجيلياً واقعياً، وعبر صوت رواة متعدّدين وحوارات يجري ترتيبها على نحو وثائقيّ تارةً، ومُتعمّدٍ في أحيان أخرى. ويعتمد الصوت على أصوات أربعة رواة أو أكثر، وهي تمثّل أصوات «شخصيات» الفيلم، التي تتحدّث بنَفَسٍ شِعريّ، أو فلنقل «شاعريّ» إن شئنا الدقة، (فالشاعرية تنسابُ حرةً ومنفلتةً كمياه النهر، بينما يتأثّث الشِّعر تأثيثاً، وبقصدية جمالية مُتعمَّدة، في المكان والزمان، وكأنّ القصيدةَ حجرٌ أو صخرةٌ راسخة في مجرى، في ذات النهر). وتلك أصوات «مكتوبة» – أي إنها تنتمي إلى صنف أدبي – وليست ناطقة.

كذلك يتجاوز الفيلمُ في بنيانه الأسلوبَ الوثائقي التقليدي، ليصير أسلوبُه الصوريّ السينمائي التركيبي «تركيباً روائياً» أقرب إلى أسلوب «الواقعية السحرية» (ذلك التيار الأدبي، ولاحقاً السينمائي، الذي ازدهر منذ غارسيا ماركيز وحتى نيتفلكس ديجيتال). وبكلّ ذلك تبدو ترتيبات هذا الفيلم جريئةً في اختياراتها الفنية المقصودة، وهي ترتيبات تُظهر خطّة مخرجيه الواضحة، والتي يوحي بها العنوان الفرعي: «الخرطوم: خمس حيوات، مدينة واحدة، ومصير أمّة». والعنوان في الأصل بالإنكليزية:KHARTOUM, Five Lives, One City and the Fate of A Nation.

ومع ذلك، شعرتُ في تجربة المُشاهَدة بأنّ صورة المكان وتأثيثه في الفيلم قد جاءت مُلتَبسة. لماذا؟ ستكشف مُلابسات الإنتاج الكثير، فلكلّ فيلم «مُلابسات»، وظروف إنتاج خاصة.

قدّم لنا منظِّمو العرض؛ شبكة عاين وداعمون آخرون، الفيلمَ في صالة عرض (Sankofa Video, Books & Café)، وموقعه في شمال غرب واشنطن (شارع جورجيا، في واشنطن العاصمة، مقابل جامعة هوارد)، وقد سُمّي على الفيلم الإثيوبي المعروف سانكوفا لمخرجَيْه ومؤسِّسَي المقهى منذ عام 1997، الثنائي السينمائي هايلي وشيريكيانا قيريما. وأعلن المنظمون أن الفيلم من إخراج أربعة مخرجين سودانيين مقدِّمين الدعوة إلى الجمهور لمناقشتهم بعد العرض. لكنهم لسبب غير واضح، أغفلوا ذكر اسم مخرج آخر خامس: فيل كوكس، السينمائي البريطاني من شركة إنتاج (Native Voice Films) وهو الذي يبدو أنه قد عاش فترات متقطعة أو مطوَّلة في السودان.

خلال النقاش مع المخرجين السودانيين الأربعة، أنس سعيد وراوية الحاج وإبراهيم سنوبي وتيمية م. أحمد، يتبيّن لنا أنّ الفيلم كان نتاجاً لورشة عمل لصناعة الأفلام تقدَّم لها المخرجون الأربعة بمشاريعهم الخاصة لأفلام وثائقية قصيرة تتناول شخصيات «واقعية» تعيش في مدينة الخرطوم. ويبدو أنّ هذه الأفلام قد اختيرت ضمن مجموعة «مختارة» لتُدمَج لاحقاً في تجربة تسمِّي نفسها «تجربة إخراج جماعي» لفيلم واحد هو (Khartoum). كذلك يظهر مع نهاية الفيلم اسم فيل كوكس موسوماً بـ: «خلق وإخراج فيل كوكس»، بينما توزّعت أسماء المخرجين الأربعة الآخرين على قصصهم الخاصة داخل الفيلم، كلٌّ بعنوان مختلف. هذا السياق الإنتاجي ليس تفصيلاً هامشياً، بل له أثر حاسم على المنتج النهائي الذي شاهدناه في واشنطن.

من المهمّ أن أذكر هنا أنني كتبتُ من قبل عن تجارب لمخرجين غير سودانيين (مثل البريطانيين الراحل آرثر هويس وإيمي هاردي في أفلامهما عن جبال النوبة مثلاً). ليس لديّ موقف «مبدئي» ضدّ تجارب أفلام «إثنوغرافية» الطابع، عن أيّ مكان أو من أي مؤلف سينمائي، إذ إن «المعرفة حرة والعالم لا ينبغي أن تمزقه جدران التعصّب»، كما يقول الشاعر الحكيم طاغور في مقطع أطول يغنّيه الفنان السوداني أبوعركي البخيت منذ ثمانينيات القرن الماضي. وعندي كذلك، أنَّ العين «الغريبة» يمكنها أن تكون «بصـيرة» أكثر من العين المحلّية، المعتادة على المشهد والمكان.

واقعية سحريّة؟

جاءت تجربتي في مشاهدة «Khartoum» – من خَلق وإخراج فيل كوكس – مختلفة ومُلتبَسة وأثارت عدداً من الملاحظات التي أقدّمها هنا. لقد كان المحتوى النصّي للفيلم غريباً، وتحديداً «مونولوجات» شخصياته التي أخذت حيّزاً كبيراً من الصوت في الفيلم، كما لو أنها مترجمة (بل هي في الغالب مترجمة ما دامت من خلق وكتابة ف. كوكس). كذلك لم تخلُ الحوارات القصيرة النادرة في الفيلم هي الأخرى من روح الكتابة «المترجمة» وبدت غير متماسكة في عاميّتها السودانية.

من ناحية «السرد» السينمائي كان الخيط الناظم لقصص الشخصيات في الفيلم هو سلسلة مقاطع «فانتازيَّة» مصمَّمة بتقنية الموشان قرافيك «Motion Graphics»، وهي تعكس أحلام الشخصيات الأساسية أو خيالاتها. هذا الخيط الناظم بين القصص الأربع هو في الحقيقة ما يشكِّل بنية الفيلم ويحدّد أسلوبه ويرسم تصوّراته المقترحة عن المكان وعن الشخصيات المركزية فيه. بل هو الفيلم نفسه. فالمسافة بين لقطة وأخرى، قصة وأخرى، وبين مقطع وآخر؛ هي ما يصنع الفيلم في هيئته النهائية (على الأقل من وجهة نظر فنيّي المونتاج من أمثالي).

كذلك نُلاحظ أنّ الفيلم يكشف بِقصد، في كثير من مشاهده الداخلية المطوّلة، عن أدواته وحيله الفنية، إذ يجري إظهار لحظات التصوير والإنتاج، مثل مشاهد/ خلف/ الكاميرا، أو تصوير يكشف استخدام تقنية الشاشة الزرقاء «Blue Screen» التي تتيح عملية الإيهام بصور الفانتازيا (مثل مشهد موظّف الخدمة المدنية، مُربّي الحمام وهو يدخّن الشيشة ويحلّق على جناح حمامة/ بساط سحري فوق سماء الخرطوم!). والكشف عن دواخل صناعة الفيلم هو بالطبع تقنية سينمائية معروفة تُستخدم لكسر الحاجز بين المشاهَدة ومُلابسات الإنتاج، تماماً كما يفعل المسرحيون في الأسلوب البريختي حينما يكسرون «الحاجز الرابع» الفاصل بينهم والجمهور.

لكن فيلم «Khartoum» يضيف بُعداً «غرائبياً» آخر إلى هذه التقنية؛ بوَضْع الشخصيات (وهي شخصيات واقعية، وليست روائية، حسب منطق الفيلم)، في ما يشبه «جلسات المعالجة النفسية» وكأنها مع طبيب تحليل نفسي فرويدي، لا تنقصه سوى الأريكة والنافذة المطلة على فناء (!). في بعض المَشاهد «تبكي» الشخصيات بكاءً أقرب إلى التحلّل والتطهّر (Catharsis) لكنه تطهير للشخصية (الواقعية؟) وليس للمُشاهد، وفي َمَشَاهد أخرى «يحتضن» المخرجون الشخصيات ويشاركونها المشهد والأداء.

مُشاهَدة غير مريحة

بوصفي مُشاهِداً غير محايد تجاه السينما وفنون العرض عموماً، وتجاه الخرطوم، باعتبارها مكاناً نشأتُ وتحرّكتُ فيه لسنوات، بل تجاه المكان أينما كان؛ يضعني هذا الفيلم بهذه الترتيبات الفنونية «المنفلتة» في تجربة مشاهَدة «غير مريحة». من ناحية، استقبلَت عيني بسهولة صور الأحياء والشوارع والزقاقات الخرطومية، وتأثّرتُ بالقصص الواقعية التي يسردها الفيلم. ومن ناحية أخرى جاءت المشاهد الفانتازية الناظمة (إضافة إلى حوارات ولقطات ما وراء الكاميرا والإنتاج) منقطعةَ الصلةِ الجمالية عن أي «أصل» قابل للتصديق والقبول. فبدا لي أن المكان في فيلم «Khartoum» قد انسرق من الصورة السينمائية، ومن الواقع في آن واحد.

في مجمله، يختلق الفيلم (الذي بدأ إنتاجه قبل اندلاع الحرب في السودان واستُكمل بعد ذلك في نيروبي)، مزيجاً من الفانتازيا والواقعية. لكنه يترك أسئلة فنية مُعلّقة: من أين يأتي خيال الفانتازيا؟ ومن أي «واقعية» نكتشف السحر، أو نبصر المكان ونتحسّسه في فيلم الخرطوم؟ من خيال الشخصيات الواقعية؟ أم من تمثُّلاتها الأدائية، أم من حياتها الموثّقة في المكان الخرطومي؟ أم ترى من خيال المخرج المؤلّف والكاتب (!) في بحثه عن خيال «السكّان الأصليين؟» كيف تتشكّل مثلاً «أحلام موظف الخدمة المدنية الخرطومي وخيالاته» في غرفة مؤلّف القرافيك الحاذق (فيليب K قوود)؟ وبعامّةٍ، كيف تعالج «سينما فيل كوكس» الشخصيات والحكايات السودانية من زاوية نظرها «الإثنوغرافية» بالضرورة؟ لكن السؤال العملي الأكثر وضوحاً هو: كيف أُسِّست العلاقات والحوارات بين المخرج والكاتب الإبداعي كوكس والمخرجين السودانيين الأربعة في هذه التجربة السينمائية السودانية البريطانية؟ كيف تعاوَن المخرجون الخمسة لرسم الصورة المشتركة لفيلم واحد؟ الإجابات غير المُكتملة عن جميع هذه الأسئلة، وكثير غيرها، تبدّت لي في نظر «غير مريح»: لمكان الخرطوم الملتبس على الشاشة، وللأحلام الملتبسة لشخصيات متجاذبة بين واقعيتها وحقيقيتها وبين «خيال» المؤلف السينمائي التجريبي الحُرّ.

كانت السينما التجريبية طليعيةً دوماً في مُساهماتها التي تفتح الحدود للخيال الإبداعي، بل هي التي تدفع هذه الصناعة تحديداً لفتح الحدود وكسر التابوهات. ويَحتشد تاريخ السينما حول العالم بالمؤلّفين والمُخرجين السينمائيين الذين أسهموا بتجاربهم الجريئة في تطوير السينما نفسها فنّاً قائماً بذاته. ومن التحديات الصعبة التي تُواجه صانعي الأفلام التجريبية على وجه التحديد، كيفيةُ تحقيق الموازنة الدقيقة، والضرورية، بين وضعية «سينما المؤلف» التي تُتيح حرية إبداعية شاسعة لخيال صانعي أو مؤلفي هذه الأفلام، وبين المعالجة «الموضوعية» لموضوعات الأفلام نفسها، لكونها في النهاية أبحاثاً في صميم القضايا الإنسانية التي تتناولها، سواءٌ أكانت اجتماعية، سياسية في مضمونها، أم حتى «وجودية». بل وتتفاقم هذه التحديات على نحو أكبر، خصوصاً في تجريب الأفلام ذات الأساس الوثائقي، بأبعاده السوسيولوجية وتعقيداته الثقافية المتوقّعة. يعرف السينمائيون أنّ الحوار بين التجريب ومعالجة الواقع يقتضي حذراً وتحكّماً إبداعياً ضرورياً، عالي الانتباه.

Scroll to Top