أتر

الخبز أولاً: وجبات الحرب في مدينةٍ آمِنة

يُصنَّف الجزء الشمالي من مدينة أم درمان (محلية كرري)، منطقةً ذات استقرار نسبيّ طوال سنتَي الحرب، عدا موجات القصف المدفعي المُتبادَلة بين الجيش والدعم السريع، خلال سيطرة الأخيرة على أجزاء واسعة من المدينة، وحتى إعلان الجيش خلوّ ولاية الخرطوم منها في 20 مايو الماضي؛ إلا أنّ هذا التصنيف لا يعكس بالضرورة واقع الحياة اليومية لسكّانها، إذ يكشف واقع حياة الناس أزمةً غذائيةً مُتصاعدة، تتراوح مظاهرُها بين الجوع الصامت، وتقلص عدد الوجبات، على الرغم من مظاهر التضامن الاجتماعي.

خلال سنتين طالت آثارُ الانهيار الاقتصادي وانقطاع سلاسل الإمداد الغذائي المائدةَ الأمدرمانية على نحو مباشر، ما أدّى إلى تغيّرات عميقة في طريقة الحصول على الطعام. ووسط هذه الصورة الرمادية، لم تعد الأرقام أو البيانات كافيةً لفهم عمق الأزمة؛ فالحكايات الشخصية وحدها تكشف ملامح الجوع، وتُظهر كيف تغيّرت العلاقة مع الطعام، ومع الكبرياء، في قلب أم درمان.

السبب الرئيس لخروجي من أم درمان هو أنني لم أعد قادراً على تأمين الطعام، ولا حتى وجبة واحدة لأطفالي.

من بين هذه الحكايات، تبرز قصة عمر، الذي اضطرّ لترك المدينة، ليس بحثاً عن مستقبل أفضل، بل عن «وجبة لأطفاله»؛ فقد غادر أم درمان في يوليو من العام الماضي بعدما عجز عن تأمين قوت اليوم لأسرته. وبشقّ الأنفس، تمكّن من نقل زوجته الحبلى وأطفاله إلى مدينة كسلا، حيث تقيم عائلتها؛ ثم عاد إلى أم درمان، ليسكن مع صديقين في منزل مشترك، ويتقاسم معهما وجبات شحيحة. الإفطار: فول بألف جنيه و8 أرغفة بألف جنيه، والعشاء في أفضل حالاته: فتة فول من الدكان. «لم أعد أسمع بسيرة اللحم أو السمك، حتى البيض أصبح من مظاهر الرفاهية»، يقول عمر. لاحقاً، دَفعَه غياب الطعام للنزوح إلى نيروبي، حيث بدأ مشروع بقالة صغيرة بمساعدة أصدقائه. ويرسل شهرياً مليون جنيه إلى أسرته في السودان، لكنه يدرك أنها لا تكفي.

«السبب الرئيس لخروجي من أم درمان هو أنني لم أعد قادراً على تأمين الطعام، ولا حتى وجبة واحدة لأطفالي»، يقول عمر، ثم يتابع: «كيف لرجل أن يأكل وهاجس جوع أطفاله يخنقه؟».

لكن لم يكن الجميع يملكون خيار الرحيل؛ ففي المدينة نفسها التي غادرها عمر، بقي كثيرون مثل عبد الحي يحاولون التأقلم مع الجوع يوماً بيوم، معتمدين على ما يتوفر من تضامن الجيران أو زملاء السوق. عبد الحي، شابّ من أمبدة، كان يعمل سائق أجرة قبل أن تُصادَر سيارته من قِبل عناصر الدعم السريع، يقول: «غالباً ما أتناول الطعام في البيت. وجبتان في اليوم، تزيد أو تنقص حسب التساهيل. آخر مرة تناولتُ فيها وجبة كاملة ومشبعة كانت في عيد الأضحى».

يختصر عبد الحي واقع المعيشة اليومية بجملة واحدة: «الطعام أهمّ من كل شيء، وبعده يأتي الأمان». ويوضح: «في السوق، يمكن أن تشتري وجبة بسيطة، مثل الفتة أو شِيبْس البطاطس، إذا توفر المال. وحين يغيب، يبدأ التضامن الشعبي. نلجأ إلى جيراننا أو أصدقائنا، وأحياناً إلى ستّ الشاي، أو بائع الفرن، أو حتى إلى «الميريّا» في دكان الحي. وهم بدَورهم يأتون إلينا عند حاجتهم».

تغيّرت أولويات أسرة عبد الحي بعد الحرب، مثل آلاف الأسر السودانية. غابت اللحوم والألبان عن المائدة تماماً، وحلّ محلها العدس رفيقاً يومياً في ظل خيارات غذائية شحيحة.

معادلةُ اليوميِّ في السوق

لكنّ الجوع لا يُقاس فقط بما يدخل البيوت، إنما أيضاً بما يُطهى خارجها. ففي زوايا أم درمان، يحاول بعض أصحاب المطاعم الصغيرة إبقاء نار القدور موقدة، وسط غلاء الأسعار، وضعف الطلب، وتزايد الزبائن العاجزين عن الدفع.

في حيّ ود نوباوي، كانت لخضر – صاحب مطعم شعبي قديم بجوار مسجد ود نوباوي بأم درمان القديمة – قصّته الخاصة مع الفول، والكفاح الصامت ضد الجوع. وبصوتٍ يحمل تعب السنوات وعزيمة البقاء، يروي خِضر، رحلته الطويلة مع بيع الفول والطعمية، والكوارع التي كانت تُحضّر فقط يوم الجمعة.

«عملتُ في هذا المحل قرابة العشرين سنة. كنا نقدّم الكوارع يوم الجمعة فقط، لكن بعد الحرب تغيّر كل شيء. أغلقتُ المحل لأكثر من عام أثناء الاشتباكات، لغياب الزبائن، ولأن المواد كانت شبه معدومة. عدتُ بعد سيطرة الجيش على المنطقة، ومع العودة التدريجية للناس»، يقول خضر متحدّثاً لـ «أتَـر». ومع ازدياد عدد الزبائن تغيَّر نمط الطلبات كثيراً: «صار الناس يطلبون أقلّ. من قبل، كانوا يطلبون «فول مُصلَّح بالبيض والطعمية، وكوارع كاملة». الآن، يكتفي معظم الزبائن بنصف طلب فول، ورغيفة واحدة فقط. أما الكوارع فقد اختفت من القائمة منذ العودة، لأنّ أسعارها صارت فوق طاقة الزبائن».

يقارن خضر بين الحال قبل الحرب وبعدها: «طلب الفول كان بـ 500 جنيه، والآن صار بألفي جنيه. ولم أستخدم في حياتي إلا فول (السِّليم) الأصلي، لكن بعد الحرب صرنا نستخدم أنواعاً أرخص، وإلا فكيف نستطيع مجاراة السوق».

من يأتينا جائعاً لا نردّه، ولا نحرجه. لديّ عهد مع نفسي: سندوتش فول لكلّ جائع يقصدني، خاصةً الأطفال. على الرغم من سوء وضعي، فقد قسمتُ أسرتي في النزوح على ثلاث مدن متفرّقة، وفي معظم الأوقات يقضون حوائجهم بالاستدانة.

تحت ضغط الحاجة، ظهرت مشاهد لم يعهدها خضر من قبل: «بعض الزبائن يأكلون ويذهبون دون دفع الحساب. أعلمهم جيداً، وأعلم كذلك أنّ عجزهم هو ما دفعهم لهذا التصرف. وبعض زبائني القدامى يكتفون بالجلوس أمام المطعم وشرب الشاي. أعلم أنهم لا يتحمّلون ثمن الوجبة. كلٌّ لديه أولويات ومسؤوليات أكبر».

ورغم كلّ شيء، لا يتردّد خضر في إطعام من لا يملك ثمن الوجبة: «من يأتينا جائعاً لا نردّه، ولا نحرجه. لديّ عهد مع نفسي: سندوتش فول لكلّ جائع يقصدني، خاصةً الأطفال. على الرغم من سوء وضعي، فقد قسمتُ أسرتي في النزوح على ثلاث مدن متفرّقة، وفي معظم الأوقات يقضون حوائجهم بالاستدانة».

وحين ينقطع الغاز، يعود إلى الوسائل التقليدية: «نطبخ بالحطب. يستغرق الفول وقتاً أطول ومجهوداً أكبر، لكن المهم أن يكون هناك فول في الصباح، حتى لو بمقدار قليل».

ورغم الظروف، هناك ما يدفعه للاستمرار: «هناك سيدة، كل خميس، تشتري مني 30 طلب فول وتوزّعها على النازحين والمحتاجين. نحاول قدر الإمكان أن نحذو حذوها».

لم يكن موسى، الذي عمل لعشر سنوات في بيع الفواكه بسوق أم درمان، يتخيّل يوماً أن يتحوّل إلى بائع خضروات. لكنه، ككثيرين في مدينته، وجد نفسه مضطرّاً إلى إعادة تعريف مهنته وهويته الاقتصادية في ظلّ ظروف الحرب.

أما عن طاقم العمل، فيقول: «كان معي ثلاثة عمال، والآن أنا وابن عمي فقط. البقية سافروا، أو لم تعد ظروفهم تناسب مثل هذا العمل. فهم يحتاجون إلى عائد أكبر، والمحل صغير، وعوائده لا تكاد تكفينا نحن الاثنين».

وإذا كان خضر يطهو الفول لزبائن لا يملكون ثمنه، فإنّ موسى، الذي يبيع الخضروات في السوق، يشهد جانباً آخر من المعاناة: ارتفاع الأسعار، وتبدّل عادات الشراء، واختفاء الخضار من «الفرشات» كما اختفت البروتينات من الموائد، ففي سوق الخضار، بات الجوع يُقاس بالحبّة. ولم يكن موسى، الذي عمل لعشر سنوات في بيع الفواكه بسوق أم درمان، يتخيّل يوماً أن يتحوّل إلى بائع خضروات. لكنه، ككثيرين في مدينته، وجد نفسه مضطرّاً إلى إعادة تعريف مهنته وهويته الاقتصادية في ظلّ ظروف الحرب.

متحدّثاً لـ«أتَـر» يقول: «كنتُ أبيع الفواكه مثل التفاح والعنب والموز، لكن مع اندلاع الحرب أُغلِقت الطرق، واختفت البضائع، وارتفعت الأسعار على نحوٍ لا يُحتمل، وتحوّلت الفواكه إلى سلع رفاهية، فقرّرتُ العودة إلى بيع الخضروات، لعلّي أجد فيها مصدر رزقٍ أفضل».

ومع ذلك يذكر موسى، الذي يعمل في سوق الحتّانة، أنّ سعر كيلو الطماطم وصل إلى ستة آلاف جنيه، وسعر الأسود إلى أربعة آلاف. وهذه أرقامٌ لم يكن أحدٌ يتخيّلها من قبل، حتى الكوسة والباذنجان أصبحتا من السلع النادرة، فالأسعار تتغيّر يومياً، وسعر السلعة صباحاً يختلف عنه مساءً.

لكن اللافت، من وجهة نظر موسى، ليس انخفاض عدد الزبائن، إنما تغيُّر سلوكهم الشرائي، فقد زاد عدد الناس في السوق، لأنّ كثيراً من المحلات خارج السوق أُغلقِت، وقلّ حجم الشراء، وأصبح الزبائن يشترون بالحبّة أو بربع كيلو فقط.

في ظلّ هذه الظروف، ظهر نوعٌ من «المنافسة الرحيمة»، كما يسمّيها، بين البائعين: أصبح التنافس بين البائعين على من يبيع بسعرٍ أقلّ، لكنه ما زال أكثر مما يتحمّله الناس، وفي النهاية: الجميع خاسرون.

يقول موسى إنّ جميع الخضروات التي يبيعونها تأتي من مناطق قريبة بشمال أم درمان، بدلاً عن الجزيرة والنيل الأبيض وشندي، ولم تعد تصلهم بضائع من مناطق بعيدة. ومع غياب التبريد بسبب انقطاع الكهرباء، صار البائعون يلاحقون الزمن، وإذا لم يبيعوا الطماطم والفلفليّة في نفس اليوم، فإنهم يضطرّون إلى رميها، لأنه لا توجد كهرباءٌ لحفظها. وأحياناً يخفّضون السعر كي يتمكّنوا من تصريفها قبل أن تفسد.

وفي ظلّ هذه الظروف، ظهر نوعٌ من «المنافسة الرحيمة»، كما يسمّيها، بين البائعين: أصبح التنافس بين البائعين على من يبيع بسعرٍ أقلّ، لكنه ما زال أكثر مما يتحمّله الناس، وفي النهاية: الجميع خاسرون.

يرى موسى أنّ الدَّيْن لم يعد استثناءً في السوق، بل أصبح ضرورةً اجتماعيةً: «أسرٌ كثيرةٌ أصبحت تشتري الخضار بالدَّيْن، ولا أستطيع أن أرفض، خاصةً إن كان لديهم أطفالٌ. لكننا في النهاية متأثّرون أيضاً، ولا توجد أيّ جهة تدعمنا».

وجباتٌ على مقاس الجوع

أحياناً نشتري الفول جاهزاً من الدكان، وأحياناً نكتفي بالعدس. توقفنا عن اللحوم تقريباً، آخر مرة طبخنا فيها لحماً كانت قبل أسبوعين، والآن نشتري (دجاج شوربة) رخيصة تُباع في سوبرماركت بالقرب منا، وهي رقاب الدجاج وأجنحتها وعظامها، يشتريها الناس بكثرة وتنفد مبكراً.

داخل البيوت التي تحاول النجاة بالحدّ الأدنى، تتجلّى معركة يومية تخوضها الأمهات، إذ تُقاس الوجبة بالصبر، وتُعدّ على قدر الجوع لا على قدر الشبع. في منزل صغير بالثورة أم درمان، كانت عوضية تطبخ بما تيسّر، وتحلم بما لا يتوفّر. إذ تجلس في مطبخها بين قدور قديمة وروائح طعام متكرّرة، تعدّ وجبتين في اليوم – فطور وغداء متأخّر – وغالباً ما تكونان من الفول أو العدس أو الطعمية لتُرضي الصغار. تقول متحدّثة لـ«أتَـر»: «أحياناً نشتري الفول جاهزاً من الدكان، وأحياناً نكتفي بالعدس. توقفنا عن اللحوم تقريباً، آخر مرة طبخنا فيها لحماً كانت قبل أسبوعين، والآن نشتري (دجاج شوربة) رخيصة تُباع في سوبرماركت بالقرب منا، وهي رقاب الدجاج وأجنحتها وعظامها، يشتريها الناس بكثرة وتنفد مبكراً، ورغم هذا فإننا نحتاج من 8 إلى 10 آلاف يومياً».

ورغم بساطة الطعام، تحاول عوضية أن تُعدّ ما يكفي لجميع أفراد أسرتها الخمسة. تقسّم الوجبات حسب الحاجة، «فالأطفال لا يأكلون كل شيء، وبعض الأطباق توَقّفنا عنها تماماً، مثل الكبسة، لأنها لم تعد تناسب ميزانيتنا، ولا نستطيع عملها بدجاج الشوربة».

«أحياناً نتبادل الطعام مع الجيران، إذا أعدَّت جارتي شيئاً جديداً تشاركني به، وأنا أفعل الشيء نفسه. التكافل هو ما يجعلنا نستمّر»، تقول عوضية التي غالباً ما تلجأ إلى الفحم أو «الهيتر» الكهربائي إذا توفرت الكهرباء، في حال عدم توفر الغاز، كما أن المياه أيضاً تنقطع في معظم الأحيان، ما يجعل إعداد الطعام تحدياً يومياً. وتضيف: «نشتري من السوق لأنه أرخص، لكن أحياناً نضطر إلى الشراء من الدكّان إذا نسينا شيئاً كالسكّر أو الزيت».

تشرح عوضية لأطفالها صعوبة الظروف التي يمرّون بها حينما يطلبون طعاماً لا تستطيع توفيره، مع وعدٍ بتعويضهم متى ما توفر المال بالطعمية أو سَلطة الأسود، وفي بعض الأيام، تطبخ كمية قليلة لا تكفي، أو لا تطبخ شيئاً: «قد نأكل خبزاً مع شاي، وحتى الخبز، كل ستة قطع منه بألف جنيه أو ننتظر حتى يأتي مزيد من المال. الحمد لله دائماً، ونأمل أن يرفع الله عنا هذه الغمة».

تشعر عوضية بأن طبخ الطعام لم يعد متعة كما في السابق، بل أصبح همّاً يومياً. فهي تفكر دائماً: ماذا ستطبخ غداً؟ وتحاول أن تحافظ على الجو العائلي. ورغم قرب التكية من منزلها، إلا أنّها تتردّد في الذهاب إليها. ليس لعدم حاجتها، بل بسبب شعور داخلي يرتبط بالكبرياء الشخصية كما توضح ذلك: «ببساطة نحن لا نَقبَل الصدقة مهما كان وضعنا. يصعب عليّ أن أقف في صفّ من أجل وجبة عدس، وهناك من هم أوْلى. إلا إذا كانت المساعدة من الحكومة، فإننا نأخذ نصيبنا، وبغير ذلك لا أستطيع، وأسأل الله أن لا أضطر لذلك».

وهنا تشرح د. هالة عثمان، اختصاصيّة علم النفس الاجتماعي، كيف يتحوّل الطعام – حين يصبح نادراً – إلى اختبار للكبرياء، ومصدر لتأزّم الهوية، فالحرب لم تمسّ الأجساد وحدها، إنما تسلّلت إلى وجدان الناس، وأثّرت في نظرتهم لأنفسهم ولغيرهم: «الانتقال من حالة الاستقلال إلى الاعتماد على الآخرين، خاصةً في ما يتعلّق بالحاجات الأساسية مثل الطعام، قد يُحدِث صدمةً نفسيةً حقيقية، تتجلّى في مشاعر الهوان والعجز وانخفاض تقدير الذات». وتضيف في حديثها لـ«أتَـر» أن فقدان القدرة على توفير الطعام يومياً يشكّل ضغطاً نفسياً كبيراً، خاصةً على الأمهات، اللائي يَعتبرن إطعام الأسرة مسؤوليةً أساسية. وهذا يولّد القلق والإحساس بالتقصير، ما قد يقود إلى الحزن المزمن.

وتعزو هالة تردُّد الكثيرين في طلب المساعدة رغم الحاجة الماسّة، بأنه نوع من الدفاع عن الذات والتمسّك بعزة النفس، فمشاعر الغضب والإحباط واليأس قد تطفو على السطح، ويبدأ الناس في استخدام سلوكياتٍ دفاعيةٍ مثل الإنكار أو التظاهر بالاكتفاء، فقط لتجنّب وصمة الحاجة.

وتؤكّد أن أسلوب تقديم الطعام له أثرٌ بالغ، فحين يجري التوزيع بطريقةٍ تحفظ الكرامة وتُجنّب الطوابير المهينة، يشعر الفرد بالاحترام، ويقلّ لديه الإحساس بالذلّ أو العجز، بدلاً عن الوقوف في طابورٍ طويلٍ أو تقديم إثباتاتٍ للحاجة، فمَشاهد الآباء والأمهات في مواقف ضعف قد تزرع في نفوس الأطفال قلقاً مبكّراً، وربما شعوراً بالخجل أو الحرج، ما يؤثر لاحقاً على بناء شخصيّاتهم وتقديرهم لذواتهم، فالعيش على المساعدات لفترةٍ طويلةٍ قد يُشعر الطفل بالتبعيّة أو العجز، ويُضعف ثقته بقدرة أسرته على الحماية، وهو أمرٌ خطيرٌ في بناء الهويّة النفسيّة.

ومع استمرار الأزمة، تقترح هالة مقارباتٍ أكثر إنسانيّة في إدارة المساعدات، ومن ضمنها تدريب المتطوّعين على فهم البعد النفسي، والتعامل مع المستفيدين بحساسيةٍ، لتقليل الأثر السلبيّ على النفوس.

لئن كانت هذه قصة مدينة نجت من المعارك، فإنها أيضاً قصة مجتمع يُحاول أن يخلق شبكات دعم من لا شيء، وأن يعيد تعريف الكفاف فعلاً للمقاوَمة.

Scroll to Top