عرضٌ لكتاب:
«اقتفاء الأثر: مقاربات نقديّة في السّرد السودان»
تأليف: هاشم ميرغني.
المصوّرات، الخرطوم: الطبعة الأولى، 2021.
«إعادة القراءة امتحانٌ للحقيقة».
– خوان غويتيسولو
«طيّبٌ
مَن عَلّم الطميَ الكتابةَ
بالدّمِ النوريّ».
– الصادق الرضي
في دراسته الباكرة «الرسم البياني للرواية السودانية» (مجلة الآداب، السنة 23، العدد 4، أبريل 1975)، قَدَّمَ الكاتب الراحل عبد الله حامد الأمين، صاحب الندوة الأدبية في أم درمان، وصاحب المجموعة القصصية «تحت الشّمس من جديد»؛ رصداً لتاريخ السرد وتطوّره في السودان، من قصة ورواية، مع نماذج من القصة القصيرة. لاحقاً، كتب الشاعر الراحل النور عثمان أبّكر دراسته الرائدة «الرواية السودانية» (مجلة الثقافة السودانية، السنة الأولى، العدد 3، مايو 1977)، وذهب فيها إلى أكثر ممّا رواه عبد الله حامد الأمين: مقاربة فلسفية وسوسيولوجية لمنجز السرد في السودان.
بعد ما يقرب من خمسة عقود، فتَح الكاتب والناقد هاشم ميرغني القولَ النقدي في هذا الكتاب «اقتفاء الأثر: مقاربات نقديّة في السّرد السوداني» على نوافذ جديدة. وبآفاق نظريّة وأطر مفاهيمية كاشفة للنصوص، وبأدوات نافذة، أعاد قراءة منجز السّرد في السودان. وكان هاشم، الأكاديمي والناقد والحائز في 2024 على جائزة كتارا في فئة الدراسات النقدية، قد خاض من قبل ذلك تجاربَ حميمةً في كتابة الشعر والقصة القصيرة.
في كتابه هذا، صاغ هاشم ميرغني مُقاربته النقدية والببليوغرافية في خمسة فصول. في الفصل الأول «القصّة القصيرة: مصادر دراسة القصة القصيرة في السودان (1930 -2015): مقاربة نقدية وببليوغرافية»، رصَد هاشم منجز القصة القصيرة في السودان ومصادرها منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى راهن المشهد، «في مقاربة موسّعة تُموضِع هذه المصادرَ في سياقها التاريخي والنقدي، وتجتهد في ضبط متن الكتاب النقدي المتناثر حول القصة القصيرة عبر أكثر من ثمانية عقود، وتعمل على إعداد قوائم ببليوغرافية لهذه المصادر»؛ لافتاً النظر إلى كلّ من بروفيسور قاسم عثمان نور والأستاذ نبيل غالي جرس، ودَورهما الريادي في كتابة تاريخ أدبي لمُنجز الكتابة في السودان، بجميع أجناسها، وذلك تجنّباً لحالٍ دفعَت بنا إلى «أرصفة المهمّش والمقصيّ والمنفيّ عن حقل الفاعلية الثقافية»، وبِنيّة «غرس نبتة القصة القصيرة بالتربة السودانية وريّها حتى استوائها على سوقها»، من خلال نبش ذاكرة القصة القصيرة من منابر باكرة مثل مجلتي «النهضة» و«الفجر» وجريدة «حضارة السودان» وصولاً إلى مجلة «القصة» التي توقّف الكاتب لديها كثيراً، وذلك لدورها التاريخي الفارق وكيف أنها تمثّل «مصدراً خصباً لدراسة القصة السودانية». في «ذات السياق النقدي التوثيقي»، يقدّم الكاتب في هذا الفصل عرضاً لببليوغرافيا النقد القصصي في السودان، قبل أن ينتقل إلى الحديث عن المتون النقدية من معاوية نور وحتى قاسم نور، مروراً بعبد المجيد عابدين وآخرين وأخريات، وحتى معاوية البلال الذي يأتي الحديث عنه لاحقاً في الفصل الخامس.
في الفصل الثاني من الكتاب، نقرأ دراسة من جزءين، أوّلهما «اقتفاء الأثر: مقاربة نقدية لكتاب بيبليوغرافيا الرواية السودانية 1948 – 2015»، لكاتبه الصحفي والقاص والناقد الفذّ نبيل غالي جرس، ويا لها من مقاربة! تبدو الدراسة في ظاهرها وكأنها درس في الببليوغرافيا ورصد القوائم وأسماء المؤلّفين وعناوين الكتب – على طريقة الورّاق القديم حاجي خليفة في «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» – إلا أنها كانت توغّلاً عميقاً في منجز السرد – الرواية تحديداً – أو قُلْ نبشاً لذاكرته. وبشعار غريماس بأن «لا خلاص للناقد خارج النص»، جاءت الكتابة تأمّلاً عميقاً في الرواية السودانية التي قدّمت «طيلة تأريخها الممتدّ على مدى أكثر من سبعة عقود طيفاً واسعاً من الفتوحات الجمالية والدلالية». ومثلما فعل في فصله الأول، التقط الكاتب هنا بعض الثغرات في ببليوغرافيا نبيل غالي، وعمل بوصيّة جاك دريدا في كونها «مساحة تُحرّك التأويل وتُحفّز الخيال»، واضطلع بإعداد جداول للروايات المُغْفَلة فضلاً عن تحشيتها وإضاءتها نقدياً. أما في الجزء الثاني من هذه الدراسة الذي جاء بعنوان: «تحولات الرواية السودانية 1948- 2018: مقدمة بانورامية للقارئ العربي»، فقد توغّل الكاتب بعمق أكبر في متون السرد السوداني، وأجرى ذلك بنسق كرونولوجي وببليوماني ونقديّ على نحو رائع. ولا يسعنا هنا إلا الإحالة إلى ما خطّه الكاتب: «تمثّل الرواية المشهد الأكثر خصوبةً وتنوّعاً في المشهد الثقافي السوداني، الذي ازداد خصوبةً منذ التسعينيات وما بعدها، حيث اندلع برق ساطع بسماء السرديات السودانية شعّ ألقاً من الأسماء والفتوحات الإبداعية والإشكالات العصية أيضاً». وهذا مما يلخّص خطاطته النقدية حول المشهد السردي أو كما قال: «تحاول هذه المقاربة الإمساك بالملامح العامة لمشهد الرواية السودانية، والكشف عن التحولات العميقة التي انتابت جسد هذه الرواية التي انخرطت في جدل نصيّ/مجتمعيّ حادّ وهي تشقّ طريقها في أقبية القهر السياسي، والاختلال الاجتماعي، وشتات المنافي في التسعينيات وما بعدها». وقد أوفى المؤلف هنا حقَّ الكتابة عنها.
جاء الفصل الثالث بعنوان «خطاب نقد السرد عند معاوية البلال: إشكاليات المنهج وقضايا المصطلح». والناقد المعروف معاوية البَلّال، هو أحد رموز النقد الأدبي، في الّسرد تحديداً، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أصدر عدداً من الكتب النقدية المتنوعة في متونها وأطرها النظرية والمفاهيمية. وقد بَيَّنَ المؤلف هنا أن الهدف من دراسته هو الكشف «عن أبرز استراتيجيات خطاب نقد السرد عند معاوية البلال عبر محورَي المنهج والمصطلح، مُستثمرة في ذلك خطاب الميتا-نَقد الذي يتفحّص سلامة أدوات الناقد ونجاعتها». ونزعم هنا أن هذا الفصل الشيق يُحقِّق المتعة الذهنية لكلّ قارئ مُحتَمل لهَاتِه الدراسة.
أما الفصل الرابع، الذي نعدّه في «جوهر المسألة النقدية» بتعبير إدوارد سعيد، فقد جاء بعنوان «الطيب صالح وإشكاليّات الخطاب النقديّ الأحاديّ». ونزعم، في ما نزعم هنا، أن الكاتب واصل مقارباته النقدية من إطار نقد النقد، مستنيراً بمشكاة معاوية البلال. بإطار مفاهيمي قويّ، ينفذ هاشم إلى نصوص الطيب صالح وقعر متونها، وفي الوقت ذاته يرصد، بذات الأفق الكورونولوجي/الببليوماني، نتاجَه من 1953 حين كتابته «نخلة على الجدول» وحتى آخر نصوصه «يوم مبارك على شاطئ أم باب»، مروراً بمقالاته الموسومة «نحو أفق بعيد» التي علّق عليها المؤلّف بذكاء، واصفاً إياها بأنها «تلبّستها روحه السردية الآسرة». وبلغة النقد العارف، أضاء الكاتب ما كُتب عن الطيب صالح ونظّف الغابة المشوّشة من إكليشيهات وبداهات ومسلّمات؛ خاصة في المحيط العربي، إذ ظلّت الكتابة عنه هامش الهامش إن لم تكن فيها توابع وزوابع تدور في فلكه تائهة «مثل رمح تائه يبحث عن صلاة» بتعبير أدونيس.
من بعد هذا النبش الماتع في نصوص ورقوق الطيب صالح ومدوّنته السردية والنقدية، نصل إلى الفصل الأخير من «اقتفاء أثر» الكتابة السردية، بتناول هاشم تجربة الكتابة السردية لأحد أجمل الكاتبين: أحمد الملك، صاحب «كهنة آمون» ونصوص أخرى، في دراسة عنوانها «أحمد الملك: أسلوبيّة الانزياح بوصفها استراتيجيّة سرديّة: رواية عصافير آخر أيام الخريف نموذجاً»، وتشتمل على بحثٍ في متونه السردية، وكيف بدأ «تشييد عالمه السرديّ الغنيّ الذي يمكن مقاربته من جهات شتى». اختار الكاتب هنا روايته «عصافير آخر أيام الخريف» وتبنّيه لاستراتيجية أسلوبية الانزياح التي تفتح النصّ على آفاق دلالية وجمالية. ويرى الكاتب هنا أن «هذه الاستراتيجية يمكن أن تقدّم الكثير لنصوص أحمد الملك مثل اختراق التنميط اللغوي والاجتماعي الذي يستنفد الطاقة الإيحائية للغة، ومجابهة السُّلطة عبر خلخلة بنيتها الوثوقية الجامدة». وهذا ما كشفه الكاتب في هذا الفصل من الكتاب، الذي ضَفَّرت لغتُه الشعرية العالية والكثيفة عدداً هائلاً من المفاهيم والأطر النظرية في محاولات بديعة لكشف خارطة النص السردي بسياقاته بالغة التعقيد، وذلك لأن «الإله الخفي» كما قال لوسيان غولدمان، يكمن في أنّ الدلالة تتشكّل من سياقها الجغرافي والسياسي. بل نزعم أن تلك النصوص كانت لنا مرآةً في ما مضى، ومن قبل قراءة هاشم هنا، لكن صرنا نحن المرآة.



