«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
جاء المرحوم كارل ماركس الجزائر زائراً في أول العام 1882، أملُه أن يجدَ في شمسها شفاءً من مصاعب صدريّة وجلديّة كدّرَت حياته لسنين، وكان ذلك بعد وفاة زوجته في 2 ديسمبر 1881. وأرض الجزائر هي الأرض الوحيدة خارج أوروبا التي وطئتها قدَمَا المرحوم. ولم يكن قصدُه فيها طلب «العلم» بها، وإنما جاءها سائحاً، لكنّ طبعَه غير، فأقبل على صحافتها «الفرنسية» وخرج منها بنظرات في «الاستعمار» لم يُصِب مثلَها في قراءاته الممتدّة ومتابعاته مداولات البرلمان البريطاني عن الهند المستعمَرة.
قد يساعدنا ماركس العجوز، المريض بالرئة والسائح في الجزائر، في تقصّي ديالكتيك الابتلاء الاستعماري الذي شَغَل مِثْل المرحوم فانون مناضلاً، فقال إنّه مواجهة مانوية بين «استعماري» و«أهلي»، «بلدي» و«أفرنجي»، لا يتوسّط بينهما وسيطٌ سوى المُخبِر المحلي. هذا «الدُّلْقَان» أو «رجل القش»، بعبارته، هو عنده كعب أخيل الدولة الوطنية، والسُّوس الذي ينخر فيها قبل أن تستقيم حتى. سطَّر المرحوم فرانس فانون تقزُّزَه الشديد من هذا المسخ بسهام موجَّهة نحو الطبقات البرجوازية الناشئة في المستعمرات، لكنه لم يضبط هذا التكوين الطبقي ولم ينشغل به على وجه الدقّة، فكان شاغله الأقرب ثقافة هذه البرجوازيات أو تصوُّراتها الأيديولوجية وتكتيكاتها لتأمين الحكم، في مقابل ثقافة عامة الناس أو «الثقافة الوطنية» بعبارته. والبرجوازيات التي يقصدها الدكتور فانون أقرب ما تكون إلى الهجين الذي اخترَع جون قرنق لتعيينه عبارةَ «الصفوة البيروقراطية المتبرجزة» فنَفَى عنها الموقع الطبقي أصالةً، وقال مُركِّبة مَكَنة سَاي، صعدَتْ إلى موقعها الطبقي بامتيازات جهاز الدولة لا بالثورية التي تَسِمُ البرجوازية سِتّ الاسِم في مضمار الإنتاج، تَقُوم بيهو سَدَّاري، زراعة وصناعة، لتحقق «زيادة الإنتاج والإنتاجية» كما في العبارة الحكومية.
رأيُ الدكتور فانون أنّ «البرجوازيّة الوطنيّة في بعض البلدان ضعيفة التنمية لم تتعلّم شيئاً من الكتب. ولو نظروا عن كثبٍ إلى بلدان أمريكا اللاتينية لأدركوا لا بدّ ما يحيق بهم من أخطار. ويمكن أن نَخلُص إلى أنّ هذه البرجوازية الجنينية مكتوبٌ عليها أن تَمْسِك زَمَنْ وبَس، ولن تحقِّق أيّ شيء يُذكر. فالمرحلة البرجوازية في البلدانِ ضعيفةِ التنميةِ جرداءُ لا خير فيها، حيث تنشأ بالتأكيد ديكتاتورية بوليسية، وتنشأ فئاتٌ تَعُبّ من الأرباح وتَخْمِج، لكن يبدو أنّ محاولةَ إنشاء مجتمعٍ برجوازيٍّ معقّدٍ محكومٌ عليها بالفشل. فصفوف الانتهازيين اللذين تمتدّ أيديهم لتحصد الأوراق النقدية من بلد فقير حدّ العدم تتراصُّ وتتكاثر، ويتحوّلون عاجلاً أم آجلاً إلى دلاقين في أيدي الجيش؛ جيش يديره بشطارةٍ خبراء أجانب. وبهذه الطريقة تستطيع البلدان الاستعمارية الأمّ أن تمارس الحكم على نحوٍ غير مباشر، عن طريق البرجوازية التي تشدّ عضدَها الدولةُ الأمُّ عن بُعدٍ، وعن طريق الجيش الذي يقوده الخبراء؛ جيش يسيطر على الناس، يَحُول بينهم والحركة ويرهبهم».
يضع الدكتور فانون، مُحقّاً، البرجوازيةَ في موقعها الصحيح، فهي في شروط نهضتها طبقةٌ ثوريةٌ، وحَسْرتُه ألا سبيل لقيام برجوازية مماثلة في المستعمرات السابقة. فالبرجوازية التي تطوّرت في أوروبا استطاعت في تقديره أن تطوّر أيديولوجيا طاغية وتعزّز من سيطرتها، واستطاعت بفضل بأسها وتعليمها وعلمانيّتها، وبفضل ثوريتها، أن تحقّق تراكم رأس المال، وقدّمت لأوطانها من هذا الباب الحدَّ الأدنى من الرفاه، فهي طبقة فيها فايدة، على عكس «الدّلاقين» في المستعمرات السابقة، لا تحرير ولا تعمير، حيث «لا توجد برجوازية جدّ، إنما فئة طابعها الجشع والنهم وفكرها «الشَّلِب»، يكفيها حظوةً أن تنال من القوة الاستعمارية السابقة «الساهلة من الفوائد». وهذه الطبقة الوسطى مستعجلة الثراء، عاجزة كلّ العجز عن الاختراع وإبداع الأفكار العظيمة. كلّ شأنها استعادة ما اطَّلَعت عليه في الكتب الأوروبية، وآخرُ أمرِها أن تصبح هوناً ليس حتى نسخة من أوروبا وإنما مسخ كاريكاتوري».
يأمل الدكتور فانون إذن، أن يَخرج من صفوف هذه «الصفوة البيروقراطية المتبرجزة»، وقد انزلق بها إلى موقع إعادة إنتاجها في الطبقة الوسطى، «من يدرك المعنى» من المثقّفين البِرِنْجي أبو وعي، وبيَدِهم يقوم حزبٌ ثوريٌّ نقيُّ الثورية ينسدّ به الطريق في وجه نموّ البرجوازية. وهو طريق في تقديره مسدودٌ أصلاً باستحالةِ أيّ تطوُّر برجوازي يُعتدّ به تحت شروط الشوكة الدولية التي تعيد فيها الدولُ الاستعمارية سيطرتَها على مستعمراتها السابقة عبر «دلاقين» من العسكريين والمدنيّين في حلفها الأمين. ويرفع الدكتور فانون يدَه من الأمر جُملةً بقوله: «تقوم الإجابة على السؤال النظري الذي ظلّ مطروحاً خلال الخمسين عاماً الأخيرة متى ما خضع تاريخُ البلدان ضعيفة التنمية للنقاش – أي هل بالإمكان القفز على المرحلة البرجوازية – في ميدان العمل الثوري، وليس بميزان المنطق؟». ويستطرد: «يمكن فقط للمرحلة البرجوازية في البلدان ضعيفة التنمية أن تجد تبريراً لها إذا ما تمكَّنت البرجوازية الوطنية بما يكفي، بقوة اقتصادية وتكنولوجية، لتشيد مجتمعاً برجوازياً، لتخلق الشروط اللازمة لنموّ بروليتارية واسعة، للتحوّل الآلي في الزراعة، وأخيراً لتجعل من الممكن وجود ثقافة وطنية أصيلة». يسترسل الدكتور فانون في تعييب هذه البرجوازية الوضيعة، فهي عنده «عديمة الفائدة»، مِديُوكر، وعلامةُ هذا التواضع عجزُها حتى عن استخلاص الأرباح بعزم، فتُداري تواضُعَها بالتباهي الفردي، لا تقوَى على المصنع معمل فائض القيمة، فُتفْرط في فَشْخَرة «الڤيلا» وكرَم «النقطة»، وميدانُ نجاحِها فرطُ الاستهلاك لا التقتير والاستثمار بفهم، السّمة البروتستانتية للبرجوازية الحاكمة للإنتاج.
ينتهي الدكتور فانون إلى استنتاج «القَنَع» ويقترب من «ملعون أبوكي بلد» وإنْ لم ينطق بها، فالتحوُّل من «كُونِكا» الاستعمار إلى مجتمع برجوازي متطوّر سكّة عطش. البرجوازية الوطنية أيّ كلام، والبروليتاريا قليلة العدد لا حول لها ولا قوّة. عليه، لا يقود ارتجالُ الدكتور فانون في ميدان الاقتصاد السياسي، تحت وطأة سرطان الدّم الذي انتهت به حياته القصيرة، إلى تقدير محكم. والأفق الوحيد المتبقّي هو إرادةٌ عاريةٌ، كالإرادة التي أعجبت ماركس في «عرب» القهوة الجزائرية، عِزّة صافية. «لا يجب أن يُسمح للبرجوازية أن تجد الشروط اللازمة للوجود والنموّ. بعبارة أخرى: يجب على الجهود المشتركة للجماهير، التي يقودُها حزبٌ من المثقفين شديدي الإدراك والمسلّحين بمبادئ ثورية، أن تقطع الطريق على هذه الطبقة الوسطى العاطلة والضارّة» (فرانز فانون، «معذّبو الأرض»، دار نشر غروف، نيويورك، 1963، ص 174-176).
يظلّ مصدرُ هذه الروحيّة، التي يخترق بها حزبٌ من «الثوريين» الحجبَ، غامضاً عند الدكتور فانون، ولا تفسيرَ ظاهراً للإلهام الذي سينفرد به «مثقّفون» مِن طينة الطبقة الوسطى، مَن تريد جوائزَ البرجوازية ولا تملك هِمّتها في «زيادة الإنتاج والإنتاجية». وتفاؤل الدكتور فانون أنّ مِن بين صفوة المثقّفين والموظفين مَن يدير ظهرَه لهذا الدَّور المرسوم بخريطة التاريخ والتكوين الطبقي، مَن «يشعر» بضرورة الاقتصاد المخطّط له، بضرورة حسم الانتهازيين وتجريمهم، والتحريم الغليظ لكلِّ تعميةٍ وتدليسٍ في هذا المنحى. وفي رأيه، يناضل هؤلاء المثقّفون الملهَمون من أجل مشاركة أمّة الناس في إدارة الشؤون العامة. وأمَلُ الدكتور فانون إيمانٌ بضرورة وجود «عدد قليل من المثقّفين النزيهين، يكونون خلواً من أيّ تصوّر دقيق للسياسة، لكن لهم سوء ظنّ غريزيّ بالتراتبية العرقيّة وإغراء المَواهِي من سمات الأيام الأولى للاستقلال الوطني في المُستعمَرات». يترك الدكتور فانون الأمرَ لأخلاق هؤلاء الرجال، «فظروفهم الشخصية، كونُ أحدِهم الكافلُ الوحيد لأسرة كبيرة، وخلفيّاتهم، من حيث جهادهم المُضني، وتربيتهم الصارمة في بيوت أدبٍ وأخلاق، هي التي تغذِّي ازدراءَهم للمستهبِلين الانتهازيين» («معذّبو الأرض»، ص 177).
لكنْ، أليس هؤلاء من ذات الصفّ الذي يَشيع فيه «المرامُ الدائم وسط المثقّفين والتجّار من أهل البلد في تقمُّص هويّة ممثّلي البرجوازية من البلاد الاستعمارية الأمّ»، فما فَرِزْ ديل من ديكا؟ فرْزُهم عند فانون «عقيدة» و«إيمان»، وعبارتُه لهذا الفرز دينيةٌ أخرويةٌ، فالمستضعَف لا بدّ أن يَقوَى ويرث الأرض وما عليها، و«يَلوح في الأفق هيكلُ العنف العظيم» ودائرة الوحدة الوطنية تنغلق وتمور حتى تبلغ نقطة «الفوران» بما «يشبه الطريقة الصوفية أو الكنيسة أو العقيدة الغنوصية، لا يستطيع أيّ من أهل البلد أن يشذّ عن هذا الإيقاع الذي يدفع الأمّة» («معذبو الأرض»، 133). لم يَعِش المرحوم فانون طويلاً ليختبر مقولاته عن الروحية الثورية في درك تاريخ الدولة الخارجة من الاستعمار، ولن تجد القارئةُ في سطورِه الملتهبة جواباً نصيحاً على سؤال الفرز، ديل من ديكا، وقد طرَح الإيمانَ بساطاً للمستقبل، «يهدي الله لنوره من يشاء» فيخرج من الصفوة «فتىً أخلاقُه مُثل»! ونِعْم بالله. لكنْ، ربّما وجدَت القارئةُ عند العجوز كارل ماركس، السائح في الجزائر أشايرَ أخرى لاحتمالاتٍ خارج الاحتمال.
يُتبع…



