أتر

دفتر أحوال السودان (84): من الدبّة وكازْقِيل

الدبّة: اشتباك قبَليّ يهزُّ سوقاً مهدّداً بالركود

الولاية الشمالية – أعادت الحرب التي لا تزال مُستمرة لأكثر من عامين إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية بعضاً من تاريخها القديم، إذ أنّ المدينة التي ترقد على الضفة الغربية لنهر النيل كانت مركزاً تجارياً تلتقي فيه القوافل القادمة من مصر وليبيا مع تلك القادمة من غرب أفريقيا مروراً بإقليمي كردفان ودارفور.

متحدثاً لمراسل «أتر»، يقول صالح جبارة وهو معلّم بالمرحلة الثانوية، إن مدينة الدبة قد ازدهرت بالتجارة، لأنها كانت مركزاً على درب الأربعين الشهير، منها تتجه القوافل شمالاً إلى مصر، أو تذهب غرباً إلى دارفور وكردفان وتُوغل في قارة أفريقيا، وبعضها يذهب إلى الخرطوم وبقية أنحاء السودان.

كانت المراكب النهرية تعبر بها قادمةً من مصر نحو الخرطوم، لكن مع تطوّر وسائل النقل فقدت الدبّة صيتها ومركزيتها التجارية إلى أن اندلعت الحرب التي حوّلت الطُّرق القومية إلى مسارح للعمليات العسكرية، ما دفع وسائل النقل للعودة لاستخدام أقدم الطُّرق البرية. ولأنّ الدبة كانت مركزاً تجارياً قديماً، ازدهرت بسرعة غير متوقعة حتى أصبحت من أهم الأسواق التجارية في الفترة ما بين منتصف العام 2023 ونهاية العام 2024.

يقول مصدر بالوحدة الإدارية بالدبة، إنّ عدد المتاجر، خلال تلك الفترة، تجاوز 4 آلاف متجر تُعرض فيها جميع السلع التجارية التي تُستورَد من عدة دول أفريقية وعربية وأوروبية، ويضيف أنّ السوق ابتلع عدداً من الأحياء السكنية، كما أُنشِئت بها بورصة للمنتجات الزراعية الغابية منها الفول والسمسم والصمغ العربي وحب البطيخ والكركدي.

لكنّ هذا الازدهار خَفت بذات السرعة التي نشأ بها. يقول أحد التجار بسوق الدبّة، إنّ قرار قوات الدعم السريع بمنع حركة التجارة بين مناطقها ومناطق سيطرة الجيش، كان نكبةً على السوق الذي لم يُتوقّع تراجعه، وتلت ذلك تهديدات قادة الدعم السريع باجتياح الولاية الشمالية، ما دفع مئات التُّجار إلى نقل أنشطتهم إلى مناطق خارج الدبة.

ويضيف المصدر السابق أنّ تهديدات قادة الدعم السريع تصادفت مع استعادة مُدن ومناطق واسعة منها الجزيرة والخرطوم إلى قبضة الجيش، وفكّ الحصار عن ولاية النيل الأبيض، ما زاد من وتيرة هروب رؤوس الأموال من الدبة، التي كانت التوقّعات تشير إلى أنها على وشك السقوط في يد الدعم السريع.

لم تتوقّف حركة النزوح من الدبة عند ذلك، إذ نشب بها أخيراً نزاع بين أهم المكوّنات القبَلية بالمنطقة. ويصف أحد سكان المدينة الواقعة التي قُتل فيها أربعة أشخاص وأصيب أكثر من عشرة آخرين، بأنه أول نزاع قبَلي في تاريخ مدينة الدبة.

ويقول أحد التجّار الذين لا يزالون يعملون بسوق الدبة، إنّ الحركة التجارية تباطأت بشدة في سوق الدبة، ويشرح لـ«أتَـر» بقوله: «في العام الماضي كانت الشاحنات تأتي بالسلع والبضائع من مليط ودارفور وكردفان والنيل الأبيض والجزيرة والخرطوم وتعود محمّلةً بأنواع أخرى من البضائع، لكن بعد استعادة الخرطوم والجزيرة إلى قبضة القوات المسلحة، وتراجُع الدعم السريع إلى كردفان، ومَنْع حركة التجارة مع دارفور، أصبح السوق يعمل بالحد الأدنى من النشاط التجاري، وهو ما دفع عشرات التجار إلى مغادرته إلى مناطق أخرى بالسودان». ويتوقع المصدر أنه بنهاية العام الجاري لن يبقى في الدبة نشاط تجاري من خارج الولاية الشمالية.

كازْقِيل: وجهة الرُّعاة في مرمى النيران

شمال كردفان – أكثر الذين لحق بهم الضرر من الحرب التي تدور في منطقة كازقيل بولاية شمال كردفان هم الرّعاة. إذ تُعدّ المنطقة من أهم مناطق الرعي، وتوجد حولها مساحات شاسعة يَفِد إليها رعاة الأبقار والأغنام في فصل الخريف، ولذلك أنشئ بها أهمّ مصانع للجُبن بإقليم كردفان.

ومع بداية خريف هذا العام، تكرّرت مأساة الرعاة للسنة الثالثة، فقد شرّدتهم الحرب من المخارف التي كانت تقضي بها الأبقار والأغنام فصل الخريف، وتفرّقت بهم الاتجاهات، فنزح بعضهم إلى دارفور وبعضهم إلى ولاية جنوب كردفان.

يقول يوسف مقدَّم، أحد الرعاة الذين كانوا يقضون فصل الخريف بتلك المنطقة، إنهم خسروا أهم المراعي الطبيعية بإقليم كردفان منذ بداية الحرب، لذلك ذهبوا إلى مناطق نائية بحثاً عن المرعى. ويضيف يوسف الذي انتقل إلى جنوب كردفان، أنّ كازقيل كانت بالنسبة للرعاة مكسباً مُهماً، حيث توجد بها المراعي الجيدة بجانب سوق الألبان التي تُصنع منها الأجبان بمختلف أنواعها.

ويستطرد يوسف لمراسل «أتَـر»: «لم نخسر المرعى فقط، كذلك خسرنا مصدر الدخل الذي كنا نحصل عليه من سوق الألبان الذي كان يسهم على نحو فارق في تحسين أوضاع الرعاة، ومنذ ثلاث سنوات أصبحنا نعتمد على بيع حيواناتنا للحصول على النقود التي كانت تأتينا من بيع الألبان».

ولا تنحصر أهمية كازقيل (45 كيلومتراً جنوب الأبيض على الطريق القومي)، في أنها مرعىً مُهمٌّ لقطعان الماشية وسوق للألبان، فقد أصبح موقعها الاستراتيجي على الطريق المؤدّي إلى مدينتي الدبيبات والدلنج، نقطةَ ارتكاز متقدّمة لطرفي الحرب؛ إذ تريدها القوات المسلحة مرتكزاً ونقطة دفاع متقدّمة نحو استرداد الدبيبات، وفي المقابل تريدها قوات الدعم السريع نقطة هجوم متقدّمة نحو الأبيض.

 وفي مايو الماضي استردّها الجيش من الدعم السريع، وانطلق منها إلى تحرير الدبيبات، وفي نهاية مايو ذاته استردّتها الدعم السريع، وفي خضمّ الأسبوع الماضي تبادل الطرفان السيطرة عليها.

وتسببت المعارك الأخيرة حول كازقيل في نزوح سكّان عدد من القرى نحو الأبيض، منها قريتا «لمّينا» و «ألحقونا». ويقول أحد سكّان قرية ألحقونا، التي هاجمتها الدعم السريع سابقاً، وقُتل فيها ما يزيد عن 21 مدنياً، إنّ سكان قُرى أُخرى قد فرّوا نحو الأبيض بعد عودة الدعم السريع إلى المنطقة. وأخبر المواطن الذي تحدّث لـ«أتَـر» بأنّ طرفي القتال قد نفّذا عمليات انتقامية في حقّ المدنيين، وهو ما دفعهم للنزوح نحو الأبيض تاركين خلفهم آخر استعداداتهم لمجابهة فصل الخريف.

ووفقاً لموسى محمد، وهو أحد الزعماء القبَليين في منطقة كازقيل، فإنّ المعارك العسكرية في هذه الأيام شرّدت المدنيين وضيّعت فرصتهم في بدء موسم الزراعة، وهو ما صعّب حياة السكان، وإذا لم يلحقوا به سوف يتضوّرون جوعاً حتى العام المقبل.

وبحسب مصادر محلية من كازقيل، فإنّ المنطقة تشهد حالة نزوح مستمرّة نحو الأبيّض والرهد وأم روابة وهو ما يؤثّر كثيراً على معيشة السكّان الذين يَعتمدون في رزقهم على الزراعة التي حرَمتهم منها المعارك والحرب الدائرة حالياً في المنطقة.

Scroll to Top