أتر

نـوتـة من عِـلْـم الكُونِكا (14)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.

ماذا وَجَد المرحوم كارل ماركس إذن في الجزائر أوّل 1882؟ وكان وقتها في الثالثة والستين من العمر، انقضت حياته بعدها بنحو العام في 14 مارس 1883 على كرسيّه المُفضّل في داره في لندن، و«الجماعة» في حوش الدار شاغلُهم اللهوُ الحلال. لم يجد هذا الشيخُ المريض الشّمسَ المشرقة التي نصح بها طبيبُه حتى جاء يسعاها على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسّط، وذلك لعِلةٍ ظرفية هي بعض تَلتَلته الأسطورية في دار الفناء هذه:

«… عدتُ إلى لندن منذ عدة أيام. وقد خلّف التهاب الغشاء البلوري والتهاب الشُّعب الهوائية الذي تعافيت منه للتوّ كحّةً مزمنة، كان أملُ الطبيب أن أتخلّص منها فبعث بي إلى فنتنور (جزيرة وايت)، وهو مكان دافئ الطقس في العادة حتى في الشتاء، لكن، غزَتْه بهذه المناسبة – أثناء زيارتي التي دامت ثلاثة أسابيع – موجةُ بردٍ ومطرٍ وكآبةٍ، بينما أشرق الطقس في لندن حتى قارَبَ الصيف، وانقلَب بمجرد عودتي. وينوي الطبيب الآن أن يبعث بي إلى الجنوب، ربما الجزائر. وهو خيار صعب، لأنّ إيطاليا محرَّمة عليّ (فقد أُلقِي القبض على شخص في ميلان لمطابقة اسمه واسمي). ولا يمكنني السفر بالباخرة من هنا إلى قبرص، فليس عندي جواز سفر، ويَطلُب حتى البريطانيون جواز سفر للعبور. ولم أكن لأوافق على مثل هذه السفرية المهلكة للزمن لولا حرص الأطباء والأقربين إليّ، ولولا حقيقة أنّ هذا المرض «البريطاني» اللعين يعيق كلّ نشاط ذهني». (خطاب من كارل ماركس إلى بيوتر لافروف، بتاريخ 23 يناير 1882، في: كارل ماركس وفردريك إنجلز، الأعمال الكاملة، م 46، ص 184، دار نشر لورنس ووشرت، لندن، 1975). 

سافَر المرحوم كارل ماركس، الله ورَقبتُه، ووصل الجزائر العاصمة في فجر 20 فبراير 1882 على متن الباخرة «سعيد» من ميناء مارسيليا الفرنسية، قضى ليلتين خاليتين من النوم بعِلّة أصوات محرّكات الباخرة «الشيطانية» بعبارته. وكتب لصَفيِّه فردريك انجلِز: «كأنك يا زيد ما غزيت، وجدتُ ما أصابني في جزيرة وايت ينتظرني ها هنا. فهذا الموسم في الجزائر استثنائيّ في البرودة والمطر، ولذا أغْرَت نيس ومنتون [مدن فرنسية على ساحل البحر الأبيض المتوسط] السواحَ بالبقاء فيهما» (خطاب من كارل ماركس إلى فردريك إنجلز بتاريخ 21 فبراير 1882، المصدر السابق، ص 202). لم يجامل الطقسُ في الجزائر هذا الشيخَ ولم يرأف به، وظلّ يشكو من سوء الطالع هذا حتى مطلع مارس 1882. «تآمرَت عليّ الظروف غير المواتية (بما في ذلك عبور البحر)، وتجمّدتُ يا عزيزي حتى النخاع منذ وصل جسدي الهامل الجزائر في 20 فبراير. كان شهر ديسمبر فظيعاً في الجزائر، ويناير صحوٌ، وفبراير رطبٌ وباردٌ. وأصَبتُ أبردَ ثلاثة أيام في الشهر الأخير، 20 و21 و22 فبراير. لا نوم، ولا شهية، وهذه الكحة السيئة. ملخوم مع طلعة كآبة درجة أولى، كما دون كيشوت العظيم! (…) أمشي وين بس؟ بسْكرة [مدينة جزائرية] على طرف الصحراء الكبرى». لكنْ، لكآبة المرحوم التي تدفعُه للسخرية من نفسه حدودٌ، فقد سألَ صَفيَّه فردريك في آخر خطابه إنْ كانت بمبس الشابّة قد حقّقت مرادها وحملت، بعبارته «صناعة البشر، أكثر الأعمال جدّية» (خطاب من كارل ماركس إلى فردريك إنجلز بتاريخ 1 مارس 1882، المصدر السابق، ص 213 – 215). وبمبس هذه ابنة توماس بيرنز، الأخ غير الشقيق لميري بيرنز (حوالي 1822 – 1863)، زوجة فردريك إنجلز العُرفية. وعاش هذا الجَمْع؛ كلّ من ميري وأختها ليديا (ليزي) بيرنز وبت أخوهم ميري الين بيرنز «بمبس» وزوجها، في دار إنجلز العامرة في مانشستر ثم لندن.

وميري بيرنز هذه صندل الباكورة الشيوعية الذي احترق بغير دخان، التقاها إنجلز وهو في عمر الثانية والعشرين في حوالي العام 1843، وهي في العشرين من عمرها، في «كُونِكا» مانشستر؛ العشوائيات العمّالية التي أحاطت بهذه المدينة، كبرى المدن الصناعية الإنجليزية في القرن التاسع العشر، حيث مصنع والده المتزمّت وشريكه الإنجليزي. لم تترك هذه المرأة الأمّية البروليتارية من أصول أيرلندية أثراً مباشراً في سجلّ التاريخ المكتوب سوى علاقة العمر التي ربطتها بالمرحوم فردريك إنجلز، تطلّ في الخطابات كأباجورة في دار إنجلز؛ فهي «الخليلة الأيرلندية» «البت الشاطرة» «بت المصنع الأميّة»، و«حلوة شديد، أمّورة ما شاء الله عليها، لكن كتَّرْت آخر عمرها في الشراب». نصيبُها، بعبارة مؤرّخ الطبقة العاملة العتيد إي. ب. تومسون، «تَسْفيهُ اللاحقين المهول» الذي يَلحَق بمثلِها من عوام الناس بغير قلم كاتب، لكنها عاشت في محيط مثقّفَيْن عظيمَين من أئمة القرن التاسع عشر. 

ثمّة أسطورة شيوعية تقول إن ميري بيرنز كانت عاملةً في مصنع نسيج «إرمن وإنجلز» للشريكين البريطاني والألماني. لكنّ جورج فيرت، الشاعر والثوري المتفرّغ في حلقة أصدقاء إنجلز وماركس، والذي التقى هذه «البت الحديقة» في صحبة إنجلز في بروكسل عام 1845، قال إنها لم تكن عاملة في المصنع، وإنما بائعة فاكهة في «كُونِكا» مانشستر، التهَبَ لبُّها بالوطنية الأيرلندية وعداء الاستعمار الإنجليزي، ووالدُها المهاجر هو الذي كان «معلّم» صباغة في المصنع المذكور. حاول فيرت، من خطفت قلبَه ميري بيرنز كما خطفت قلبَ إنجلز من قبله، أن يؤبِّد ذكرَ هذا الهوى بالشعر، فمن قصيدته «ميري» من العام 1845: 

جاءت مع الَمدّ من أيرلندا، 

جاءت من تيبراري [الأيرلندية]

دمُها دافئٌ دفيق

الصبيّة ميري

قفزَت رشيقة على الرّصيف

فقال البحارة: ميري الصبيّة أم وردة بريّة؟

جاءت مع المدّ من أيرلندا، 

جاءت من تيبراري [الأيرلندية]

صرخت فتاتُنا ميري: 

«برتقال للبيع، برتقال»

وجاء جميع أهل البلدة التجارية هذه، 

العربيّ والفارسي والأسود،

اليهودي والكافر،

كلّهم جاءوها واشتروا…

هرعَت بهذا المال 

المال الذي جمعته 

من بيع اليوسفي الذهبي الريّان، 

هرعت بهذا المال إلى الدار

بوجهٍ صارمِ القسَمات غاضبٍ

لتحفظه. 

حفظَتْه حتى يناير،

ثم بعثَتْ به إلى أيرلندا على وجه السرعة.

هكذا فعلت ميري بالمال، هكذا فعلت ميري. 

هذا المال لإنقاذ بلادي

أقدّمه لخزائنكم

فهبّوا وهيِّئوا سلاحَكم

ابعثوا الحنق القديم

واجهَدوا يا نفل أيرلندا لخنق زهرة إنجلترا

خالص التحيّة لأحسن العيال، أوكونيل البطل، من ميري الصبيّة. 

الغالب أنّ ميري بيرنز كانت وصلةَ فردريك الشابّ الأجنبي إلى «كُونِكا» مانشستر. وكان الوالد إنجلز قد بعَث بابنه الأكبر فردريك إلى مصنعه في مانشستر ليُشفى من الراديكالية التي صار بها جندياً في ثورات 1848 وصحفياً شرساً. لكن آه وين يا، صار عاشقاً لميري بيرنز، وخرجت من مشاويرهما المشتركة؛ المشاوير التي اصطحبت فيها هذه البروليتاريةُ ابنَ صاحب المصنع إلى عالَم يجهله، زقاقات ومَلَجَات ومضايق؛ بعض النظرات التي استقرّت عِلماً في كتاب المرحوم إنجلز «حال الطبقة العاملة في إنجلترا». صدَرَ هذا الكتاب الفتح في سوسيولوجيا الطبقة العاملة لأول مرة في الألمانية عام 1845 للكاتب الحدَث في الرابعة والعشرين من عمره، وفي الإنجليزية عام 1887. قرأ المرحوم كارل ماركس مسوّدة الكتاب في اللقاء الثاني بين الاثنين في باريس عام 1844، وصارا بعِلّة هذه «العهدة» المشتركة صديقين وشريكين في الله مُذاك. 

وللخلَف من قارئات ماركس وإنجلز أن يَشكُرْن المرحومة ميري بيرنز على خدمتها المضمَرة، في الكتاب وفي الصداقة والشراكة، بين مثقّفَين عظيمين نسَجَت بينهما من حيث لا تحتسب، ذكراها في السجلّ عنوانُ قصيدة. ووفاءُ إنجلز لابنةِ أخيها اللعوب بمبس، وسؤال المرحوم ماركس عنها من الجزائر، شيءٌ من هذا النسيج. تزوّجت بمبس «البطة»، بعد جولات غزَل مع الثوريين من زواّر إنجلز بما فيهم كارل كاوتسكي، عام 1882 من محاسب بائس، عاشت معه في دار إنجلز. ونجحت محاولاتها في «أكثر الأعمال جدّية» فوضعت طفلةً قال عنها ماركس وقت رآها إنها تبدو أكثر ذكاءً من والدتها «المَطَرْطَشة».  لكنْ ماذا شغل ذهنَ ماركس في الجزائر، خلاف سوء الطالع والطقس البارد الممطر وحظوظ بمبس «المَطَرْطَشة» في الحمل؟

يُتبع…

Scroll to Top