شأنهم شأن السودانيين جميعهم في بقاع البلاد المختلفة، تضرَّرت أملاك الهنود السودانيين في الخرطوم وأم درمان، وتأثَّر النادي الهندي والمدرسة الهندية، ومحرقة الموتى الهنود في غرب أم درمان، في أعقاب نشوب حرب أبريل 2023. ونظّمت الحكومة الهندية عملية إجلاء تحت اسم «عملية كافيري» عبر طائرات وشحنات بحرية لإجلاء حوالي 3,862 مواطناً هندياً، عبر رحلات طيران مباشرة إلى الهند. في هذه المقابلة التي أجراها مُراسل «أتَـر» مع أسرة هندية سودانية لا تزال تقطن مدينة الدامر، يقول العم «كريت كانت قولابداس» إنه فخور بجنسيّته وانتمائه السودانيَّيْن ولا يُطيق عيشاً بعيداً عن السودان ونِيله، بينما يؤكّد ابنه «ينيش» أنه سيحيا في السودان هو وذرّيته إلى ما لا نهاية.
«كريت كانت قولابداس دوشي» صاحب متجر «تاج محل» بالسوق القديم بالدامر
وُلِدَ «كريت كانت قولابداس دوشي»، صاحب متجر «تاج محل» بالسوق القديم بالدامر، بحي الهنود بكسلا سنة 1941، وانتقل مع والده إلى الدامر، حيث استمرّ في عمل والده بالتجارة وسط جاليات مختلفة مثل الشوام واليمنيين والأغاريق.
يقول في حديثه لمراسل «أتَـر»: «كنا نعمل في تجارة الأقمشة والعطور، وكذلك المُعدّات الزراعية، وجزء منا يَعمل في القطاع الصناعي، وكنا نَعيش معاً في انسجام تامّ: مسيحيين وهندوساً ويهوداً ومسلمين. طوال هذه السنوات كنت أعمل بذات المكان في السوق القديم، على الرغم من أنّ النشاط التجاري أصبح أقل ّمن الماضي، ومحلّي معروف باسم «تاج محل»، وكان يمتلكه قبلي هندي سوداني آخر، يُسمّى شنقلال جويرشن، عمل في المتجر نفسه لمدة 64 سنة، وهذا يعني أن عُمْر المكان الآن 110 سنوات، وكان يعمل معي في المكان شابّ صغير مكافح أصبح في ما بعد من أشهر مخرجي تلفزيون السودان، وهو الراحل محمد سليمان دخيل الله».
لم يجد آباؤنا الأوائل أيّ عناء في الاندماج التام داخل المجتمع السوداني، وتحصَّلتُ على الجنسية السودانية بالميلاد وفخورٌ بها وبانتمائي للدامر (جعلي لكن ما شلّخوني).
![]()
تُسجِّل المراجع التاريخية تاريخ الوجود الهندي في السودان منذ سلطنة سنار، عبر التجارة بين الهند وسواحل شرق إفريقيا حتى أصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي في مدن أم درمان وبورتسودان وكسلا وعطبرة والدامر وود مدني وغيرها من المدن السودانية.
ظهر الوجود الهندي في السودان خلال سلطنة سنار (1504 – 1821) وخلال الحكم التركي المصري (1821 – 1885)، وكذلك خلال فترة الدولة المهدية (1885 – 1898) وما بعدها في عهود الاستعمار والحكم الوطني، عبر التجارة بين الهند وسواحل شرق أفريقيا، بحسب ما أورد بروفيسور حاتم الصديق محمد أحمد في مُؤلَّفه «الهنود في السودان» الصادر عن دار آريثيريا 2025.
وقد أدَّى النشاط التجاري بين ساحلَي الهند وشرق أفريقيا، إلى استقرار أعداد كبيرة من الهنود على سواحل البحر الأحمر، لا سيّما الموانئ السودانية الشهيرة «سواكن» و«عيذاب». وبينما كانت الموانئ على البحر الأحمر تَستقبل التوابل والبخور والعطور والقماش والملبوسات القطنية والسيوف والرماح وحطب الصندل وغيرها من المنتجات الهندية؛ كان التجّار الهنود يحملون ريش النعام وسنّ الفيل والذهب والخيل إلى بلادهم.
وبمرور السنوات أصبح أفراد الجالية الهندية ممَّن وُلدوا واستقروا في السودان، سودانيين بالميلاد، ويُقدَّر عددهم بأربعة آلاف نسمة، يَعملون في التجارة والطب وصيانة الأجهزة الكهربائية والحلاقة وغيرها من المهن.
«لم يجد آباؤنا الأوائل أيّ عناء في الاندماج التام داخل المجتمع السوداني»، يقول كريت ثم يضيف: «تحصَّلتُ على الجنسية السودانية بالميلاد وفخورٌ بها وبانتمائي للدامر (جعلي لكن ما شلّخوني)، كنا مجموعة كبيرة من الأسر الهندية: آل باكوس وهريش مقلال، المرحوم باروري نولشن جيشن، وكان شخصية رياضية واجتماعية مشهورة ويرعى نشاط نادي الشمالية بالدامر».
وبحسب كريت، فإنّ أسرته تُعَدُّ من آخر الأُسَر الهندية التي لا تزال تسكن الدامر حالياً، ومعظمها كانت تقطن مربع 5 وسط المدينة. «ليس هناك كثيرٌ من الهنود بالدامر حالياً، لقد هاجَر كثيرون وتوفي آخرون»، يقول.
يَذهب كريت لزيارة الهند مرّات عدّة في السنة، لكنّه لا يُطيق عيشاً بعيداً عن السودان: «على الرغم من أنّ في الهند أنهاراً كثيرة جداً، لكن النيل لا يُشبهه أي نهر آخر، أحبه وأتذوق منه طعم (المُويه) الحقيقي».
رغم أنّ كريت هندوسي الديانة، فهو لا ينقطع عن زيارة مقام الشيخ المجذوب، ويحضر ليالي الذكر والمديح، ويكسو الضريح ويذهب للتبرّك حاملاً معه بعض الطعام والحلوى لبقية الزوار.
ورغم أنّ كريت هندوسي الديانة، فهو لا ينقطع عن زيارة مقام الشيخ المجذوب، ويحضر ليالي الذكر والمديح، ويكسو الضريح ويذهب للتبرّك حاملاً معه بعض الطعام والحلوى لبقية الزوار. يقول: «لسْتُ وحدي، بل هناك هنود آخرون حتى بعد هجرتهم إلى الخارج يَعتقدون كذلك في بركات شيخي المجذوب، ويُقدِّمون النذور ويطلبون حتى التداوي من شيوخ المجاذيب الحاليِّين. قابلتُ ذات مرّة عرّافاً هندياً في بلادي، فنظر إليّ قائلاً: أنت أتيت من السودان؟ فقلت له: صحيح. فقال: لماذا تزور الشيخ المجذوب ولا تزور والده الشيخ قمر الدين؟ عليك بزيارته أولاً! وعندما رجعتُ إلى السودان وحكيتُ الأمر لصديقي أحمد عبد الله حسن، قال لي: اذهب واخلع نعليك وزُرْ الشيخ قمر الدين أولاً».
يأتي الأهالي إلى «تاج محل» بسوق الدامر القديم، لتفصيل الجلاليب، وينشط ذلك في مواسم الأعياد، وكذلك في الأعراس، إذ يُجهّز كريت جميع مستلزمات العرسان، وكان يضعها في الماضي في شنطة حديدية، لكنه الآن يضعها في شنط أكثر حداثة. ويُحضِّر مستلزمات المواليد والنساء عند النفاس، وما يخصّهن من الريحة والبخور والمحلب والصندل، وتُسمَّى «صينية الولادة».
نحن نُشارك في كل ما يخصّ مجتمع المدينة، من أفراح وأتراح ولا يَفوتنا أي عزاء داخل الدامر والقرى التي حولها، أذهب وأرفع يدي إلى الأعلى واقرأ الفاتحة التي أحفظها عن ظهر قلب.
ويَتوفّر في محله الحنوط والأكفان الجاهزة والمَخيطة. يقول: «كنت أُقدّمها بلا أيِّ مقابل، لكن الآن تغيّرت الظروف قليلاً وارتفعت الأسعار، فبتُّ أُقدّم فقط أكفانَ الأطفال مجاناً، أعرف كل ما يخصّ طقوس دفن الموتى المسلمين، وأقيس قماش الكفن بالضُّراع»، ومن ثم يضيف: «نحن نُشارك في كل ما يخصّ مجتمع المدينة، من أفراح وأتراح ولا يَفوتنا أي عزاء داخل الدامر والقرى التي حولها، أذهب وأرفع يدي إلى الأعلى واقرأ الفاتحة التي أحفظها عن ظهر قلب».
لكريت ابن اسمه «ينيش» كانت أمّه تُخطّط له للزواج من هنديّة، لكنه أخبر والده بأنه أحبّ وارتبط بفتاة من السودان، ومن ثم أخبره أنه انتمى للدين الإسلامي منذ زمن طويل وكان يُخفي الأمر. يقول كريت: «لم أعترض على ذلك وكذلك والدته. وقلت له: الأديان متعدّدة والربّ واحد، أنت ستظلّ معنا، بذات المنزل، والإسلام ليس غريباً في وطنَيْنا؛ السودان والهند».
مُتحدِّثاً لمراسل «أتَـر»، يَقول ينيش كريت، الابن الوحيد للعم كريت، إنه وُلِدَ بالخرطوم: «بعد عزيمة وتبرّك بالشيخ المجذوب جئتُ إلى الدنيا كما يقول أبي، فمَن وُلدوا قَبلي من أشقائي لم تُكتب الحياة لأحد منهم». ويضيف: «الدامر بلدي وأعيش بها، كبرتُ فيها ونشأتُ «واتدردقت في ترابها»، حضرت حفلاتها «وانجلدت كمان في الدلّوكة»، عشتُ في دار الأبواب أجمل أيام حياتي، وأعتقد أن السودان وطني قبل الهند نفسها. لقد درست في مدرسة (الشمالية) حي السوق التي أُطلق عليها حالياً اسم البروفيسور عبد الله الطيب، ودرستُ فيها المنهج السوداني والتربية الإسلامية وجزءاً من التربية المسيحية».
كريت مع أصدقائه السودانيين
تزوّج ينيش سيدة اسمها مي نافع من مدينة شندي، وأُجري الزواج بطقوس مزيج بين الطقوس السودانية والهندية، وله ثلاثة أبناء: «فارس» و«ميان» و «بيان». يقول: «والدتي توقظ زوجتي للصلاة عند الآذان، فلا مشكلة لدينا في اختلاف العقائد بيني وبين عائلتي، وأنا مسلم والحمد لله».
يتحدّث ينيش، الذي يعمل مع والده في المحلّ وفي أعمال تجارية مختلفة، أربع لغات: الهندية والعربية والإنقليزية والقجراد، وهي اللغة التي يتحدث بها الناس بمنطقتهم «قجراد» في شمال غرب الهند، وهو مُطّلع على تاريخ السودان الحديث منه والقديم، وزار مناطق مختلفة منه. اكتسب ينيش علاقة قوية بالنيل وصيد الأسماك والتماسيح، ويَتعاون في عمليات الإنقاذ النهري ويَهوى القنيص «الصيد».
مشيراً إلى الأعمدة الطينية الضَّخمة في سوق الدامر القديم، يقول العم كريت وهو يتأمّل عبق التاريخ حوله، إنّ السوق القديم بالدامر تراث، وهو أقدم من الفترة الاستعمارية، يدلّ على ذلك معماره العريق، لكنه بات مهدّداً بالإزالة من قِبل السلطات. يقول: «أُبلغنا بذلك، ومَنحتنا لجنة المحلية محلاً آخر في السوق الجديد، كما حصلت عائلتي على قطعة أرض درجة أولى بالمدينة، فالسودان وطني الذي لا يزال يقدم لي الكثير».
يقول كريت: «لم نتأثر في الدامر بأيّ حرب دارت في السودان، وهذه هي بركات الشيخ المجذوب، وقد نجَتْ الدامر حتى من هجمة محمود ود أحمد على شندي زمن المهدية، وقيل إنّه رأى في رؤية منامية مَن يَنهاه عن الهجوم على الدامر، ونشكر الله على هذا».
فارس ينيش كريت
عاصَرَ كريت حكومات مُتعدّدة منذ عهد عبود وحتى البشير، ويَمضي مُستدعياً ذكرياته لمراسل «أتَـر»، ذاكراً أنه شاهد نميري يقفز من نافذة القطار في زيارة له إلى مدينة عطبرة. يقول: «يُدرك أهلنا الكبار حساسية بعض الأمور الحزبية في السودان، لذلك في كسلا يقدّمون لنا وصية بأن نقول إننا ختمية، أما في أم درمان فنحن أنصار وأحباب السيد الصادق المهدي. ولا نُشارك في وظائف حكومية، لكن كان لدينا موظّفون كبار بالسكة الحديد، ولدينا مدفن خاص مشترك بيننا والأقباط».
يمضي كريت متحدثاً عن أوجه الشبه بين الهنود والسودانيين: «النساء الهنديات والسودانيات يَلبسن ثياب التوتال نفسها، والهنود يأكلون جماعة على الأرض مثل السودانيين، ولا يَستخدمون الشوكة والسكين. تلبس المرأة الهندية الجلابية بـ 9 أمتار مثل نساء الهدندوة في شرق السودان، وكذلك الثقب في أنوف النساء ولبس «الزُّمام»، إضافة إلى عادة الحنّاء لدى المرأة والرجل في مناسبات الزواج، وكذلك زيارة النهر يوم الزفاف للتبرّك «زيارة البحر»، ولدينا أيضاً العنقريب وعادة الجرتق وقطع الفرع التي تُمارس عندكم أيضاً في كثير من المناطق. لكنّ الاختلاف في أن المرأة الهندية عليها التزامات «الشّيلة» والثياب ومصاريف ضخمة على عكس ما هو في السودان، وعندما جاءت زوجتي إليّ كان معها 35 ثوباً». ويقول أيضاً إن السودانيين يحبّون السينما الهندية لأنها الأقرب إليهم، وكانت أغلب دُور الأفلام قديماً تعرض السينما الهندية.
ذات مرة، كنتُ قادماً من الهند إلى السودان، وكنت أحمل الجواز الهندي. عندما وصلت إلى مطار الخرطوم، خرمت للتمباك، وشاهدت جندياً خلف الضبّاط يوشك على وضع (سفّة)، فلم أتمالك نفسي وخرجت من الصفّ وذهبت إليه، فطالبني الضابط بالرجوع بالإنجليزية، فقلت له بالعامّية السودانية: يا سعادتك أنا خرمان وقاطع تمباك أدوني سفة بس! قال الضابط مندهشاً: يا زول جوازك شكل، وكلامك شكل تاني، من وين انت؟ قلت لهم إنني من الدامر، تسلّموا مني جوازي للتأكد من أنه غير مزوّر، مع كثير من الاستغراب والضحكات.
لدى كريت أخت كانت تقطن عطبرة واسمها أنديرا ديرو وكانت مشهورة بلقب «أم الخير» لأنها كانت تطبخ الطعام مجاناً للفقراء والمساكين طوال شهر رمضان، وكانت هي وزوجها قبل أن يتوفّاهما الله من أعلام مدينة عطبرة «حي الداخلة». يتأسّى كريت أنّ أبناءها قد غادروا السودان في الفترة الأخيرة.
يقول ينيش: «ذات مرة، كنتُ قادماً من الهند إلى السودان، وكنت أحمل الجواز الهندي. عندما وصلت إلى مطار الخرطوم، خرمت للتمباك، وشاهدت جندياً خلف الضبّاط يوشك على وضع (سفّة)، فلم أتمالك نفسي وخرجت من الصفّ وذهبت إليه، فطالبني الضابط بالرجوع بالإنجليزية، فقلت له بالعامّية السودانية: يا سعادتك أنا خرمان وقاطع تمباك أدوني سفة بس! قال الضابط مندهشاً: يا زول جوازك شكل، وكلامك شكل تاني، من وين انت؟ قلت لهم إنني من الدامر، تسلّموا مني جوازي للتأكد من أنه غير مزوّر، مع كثير من الاستغراب والضحكات».
«السودان بلد عظيم، ولا يستحقّ ما يحدث فيه من دمار، لكنه حتماً سينهض، ولن أغادره إلى أن يحين أجلي، سأحيا هنا في نهر النيل وكذلك أبنائي إلى ما لا نهاية»، يقول ينيش.



