أتر

الفخار في أم درمان: جمال قابل للكسر

يَروي عيد مأمون مضوي، 56 عاماً، أنه بدأ تعلّم حرفة تشكيل الفخار عندما كان عمره 14 سنةً، من عمّه مختار مُضوّي الذي تعلَّم الحرفة بدَوره على أيدي حرفيّين مصريّين في حي بيت المال في نهايات السبعينيات. وكان عيد مأمون أحد الذين تعلّموا العمل على تشكيل الفخار في القماير، أحد أحياء منطقة أم درمان القديمة، ويَقبع على ضفة النيل شمال حيّ الدباغة وشرق كلية التربية جامعة الخرطوم. وسُمّيت القماير نسبة لـ«القمير»، وهو مكان صناعة الجير الأبيض الذي يُستخدم في طلاء الجدران، والنسبة الغالبة من سكّان الحي هم صانعو طوب وبنّاؤون ونجّارون وجزّارون وترزية، لكنّ حرفة صناعة الفخار وتشكيله هي الحرفة الرئيسة التي اشتُهرت بها.

يتذكّر عيد نفسه طفلاً صغيراً وهو يُشاهد هذه الحرفة لأول مرة، وقد عمل قبلها في مدابغ الجلود في حي الدباغة، ولم يكن الأمر يروق له بسبب روائح ومواد معالجة الجلود، لكن الفخار كان شيئاً آخر، نظيفاً وجميلاً ومنفتحاً على احتمالات لامسَت قلبه. «حبّيتها»، عن شعوره تجاه حرفته يقول عيد بشغف عميق وعيون لامعة.

يَحكي عيد أن عمّه، بعد إتقانه الحرفة في بيت المال، حوَّلَ قطعة أرض صغيرة في حيّه «القماير» إلى معمل لصناعة الفخار، وعلَّم أبناءه الحرفة، وكان من بينهم عيد. ويتذكّر عيد نفسه طفلاً صغيراً وهو يُشاهد هذه الحرفة لأول مرة، وقد عمل قبلها في مدابغ الجلود في حي الدباغة، ولم يكن الأمر يروق له بسبب روائح ومواد معالجة الجلود، لكن الفخار كان شيئاً آخر، نظيفاً وجميلاً ومنفتحاً على احتمالات لامسَت قلبه. «حبّيتها»، عن شعوره تجاه حرفته يقول عيد بشغف عميق وعيون لامعة، ويحكي عن الجمال الذي شعر به تجاه الفخار، عن «الفنيّات» اللانهائية التي كان بإمكانه تعلُّمها وابتكارها. وجد عيد حرّيته في الفخار وترك المدرسة رغم أنه كان من الأوائل في صفّه حسب قوله، وبعد ثلاث سنوات أتقن الحرفة تماماً وصار يعمل بنحوٍ مُستقلّ.

اليوم تنتشر في القماير معارض ومعامل الفخار. تبدأ عملية صناعة الفخار باختيار أنواع التربة المناسبة، وتتكوّن العجينة من نوعين من التربة، أوّلهما هو طين البحر، وهو طين ناعم يوجد قرب النيل ولونه مائل إلى السواد، والنوع الثاني هو تراب أحمر اللون يُجلب من جنوب أم درمان وتحديداً من منطقة جبل طوريّة، وتُخلط التربتان بنسبٍ مُحدَّدة تختلف حسب نوع الفخار الذي يُراد تشكيله.

يقول عيد إن عجينة الفخار قد تبدو بسيطة في مكوّناتها وفي سهولة خلطها، وفي الغالب تكون نسبة التراب الأحمر حوالي 10% من العجينة، لكنه يُشير إلى تعقيدات حرفية تُصاحب عملية الإنتاج لعوامل عدة أهمّها تعدُّد أشكال واستخدامات الفخار المُراد إنتاجه، فالزهرية تختلف في إنتاجها عن الزير، إضافة إلى عامل آخر هو اختلاف لزوجة تربتي الخلطة وتماسكهما وخصائصهما من مصادرهما. وللوصول إلى مرونة إنتاجية أعلى، يَلجأ العامل الخبير للاعتماد على حدسه وحسّه الحرفي للحصول على درجة جودة الفخار المطلوبة، وتقع هذه المهمة على عاتق عامل مُختصٍّ بخلط العجينة في حوض بيضاوي كبير يُسمَّى «المعجنة»، يُملأ بالماء وتُضاف إليه تربتا الخلطة. يَغمر العامل جسدَه كاملاً في حوض الخلطة ويُحرِّك يدَيْه ورجلَيْه فيها لتمتزج المُكوّنات معاً، ويتحسُّسها بجلده كاملاً حتى يشعر أخيراً بأن الخلطة قد وصلت إلى جودتها المُناسبة.

يَعمل عيد معلّم فخار منذ 1986، وهو اليوم رئيس العمّال الذي تقع عليه مسؤولية المهمة الأكثر دقة: إدارة «مكنة» الفخار، وهي قرص دائري توضع عليه عجينة الفخار ويجري تدويره أثناء قيام المعلم بتشكيل الفخار بيديه حتى الوصول إلى الشكل المطلوب. تُشكَّل بعضُ الأشكال مثل الأزيار على مراحل، وبعضها الآخر أبسط مثل الزهاري «جمع زهرية» والمباخر. أما مبخر الشيشة الذي يوضع فيه الجمر، فيقول عيد إنه لم ولن يقوم بإنتاجه حتى وإن كان الطلب عليه عالياً، يقول ذلك بترفُّع حازماً شفتيه لأنها في رأيه – أي الشيشة – «لا تنفع الناس»، وإن تملَّيتَ ملامح وجهه وهو يتحدّث في تلك اللحظة لمراسل «أتَـر» لاعتقدتَّ أنه يجد في عمل ذلك شيئاً من الإهانة.

اليوم يَعمل عيد رئيسَ عُمّالٍ في مصنع فخار كبير بالقرب من منزله، في مساحة تُقدَّرُ بألف متر مربع، مع قرابة 25 عاملاً، يتقاضى العامل الواحد حوالي 45 ألف جنيه في اليوم. وترى هناك أكواماً مرصوصة من الأزيار والزهاري، بينما تنتظر شاحنة كبيرة خارج المصنع ريثما يجري تحميل الفخار إليها لترحيله إلى طالبيه في عطبرة. ورغم أنّ عيد لا يملك المصنع، لكن عندما بدأت حرب 15 أبريل 2023، كان عالَمُ عيد الذي شكله بيديه أكثر قابلية للكسر من ذي قبل.

مع بداية حرب 15 أبريل وأهوالها على مناطق أم درمان القديمة، ورغم أن قوات الدعم السريع لم تنتشر في حي القماير، تأثّر إنتاج الفخار في مكان عمل عيد، وذلك بسبب الأخطار الكبيرة التي أربكت الإنتاج والتسويق.

«الوضع بقى ما آمن الزمن داك، انت تشتغل لشنو؟»، يقول عيد. وفي غضون  شهرين تقريباً من نشوب الحرب بدأت القذائف تتهاوى على القماير قادمة من الخرطوم بحري والأحياء الجنوبية من أم درمان القديمة، كما ازدادت حدّة الاشتباكات القريبة. يحكي سكّان القماير أنّ ضباطاً من الجيش حضروا إلى الحي وطلبوا منهم الخروج من المنطقة بسبب الاشتباكات. لم يعد الأمر مُحتمَلاً بالنسبة لعيد وأسرته فنزحوا نحو أحياء كرري شمال أم درمان مثل معظم سكّان حيّه.

«كنا 6 عمّال بس لمن دخلنا المصنع»، يحكي عيد، وبعد زمن وجيز واتصالات هنا وهناك، بدأ العمال في الحضور مع الأيام، ومع هذا يقول إنّ بعض القذائف كانت لا تزال تسقط بالقرب منهم في مكان عملهم وبعضها أصابت شظاياها صاحب الحمار الذي يجلب الماء لهم «سيد الكارّو».

بسبب ضغوط البقاء حيّاً في أيام الحرب، يقول عيد إنه رجع إلى بيته في القماير بعد عام من الحرب وبعد استعادة الإذاعة في مارس 2024 من سيطرة الدعم السريع. يَصف عيد الحالة التي وجد بها حيّه عند وصوله: «الحلة كانت مخيفة شديد، مافي مخلوق نهائياً»، ورغم هذه الوحشة المخيفة التي شعر بها لكنه كان مضطراً للتوجه إلى عمله الذي يعرفه: الفخار. يقول عيد إنهم في رمضان الذي اندلعت فيه الحرب أنتجوا كميات ضخمة من الفخار، وعندما رجعوا للعمل وجدوا أن كميات كبيرة منها قد نُهبت وبعضها جرى تهشيمه بالقذائف الساقطة.

«كنا 6 عمّال بس لمن دخلنا المصنع»، يحكي عيد، وبعد زمن وجيز واتصالات هنا وهناك، بدأ العمال في الحضور مع الأيام، ومع هذا يقول إنّ بعض القذائف كانت لا تزال تسقط بالقرب منهم في مكان عملهم وبعضها أصابت شظاياها صاحب الحمار الذي يجلب الماء لهم «سيد الكارّو». يحكي عيد أن أفراد ارتكازات الجيش كانوا يوقفونهم ويستجوبونهم عن سبب وجودهم في هذا المكان، وعندما أخبروهم بأنهم يعملون هنا، طلب منهم أفراد الجيش أن يخبروهم باستمرار بأيِّ وجود لشخص غريب في الحي. «نحن بقينا نعمل تمام زي الجيش»، يقول عيد.

اليوم وبعد خلو ولاية الخرطوم من الاشتباكات، رجع دولاب الفخار للدوران، امتلأ حوش المصنع بالأزيار والزهاري، وها هي الشاحنات تتوقّف لتحمل الفخار.

 مصطفى حمدنالله، وهو سائق شاحنة «دفار» يحمّل الفخار من المصنع الذي يعمل فيه عيد، ويُرحّله هذه الأيام إلى عطبرة وشندي وشرق النيل ومناطق أخرى؛ يقول إنّ الزرائب في تلك المناطق تطلب بمعدل شحنة كل شهر في أغلب الأحيان، بينما يقول صاحب المصنع آدم علي، والمشهور بلقب «عمدة»، إن المصنع يملأ شاحنتين إلى ثلاث في اليوم.

يبدو أن الأوضاع عادت إلى طبيعتها تقريباً؛ لكن عيد يُعبّر عن شعوره بتفاؤل حذر تجاه المستقبل، ويحكي معاناة وتعقيدات مَرَّ بها في صنعة الفخار. في السابق، يروي عيد أنه قدَّمَ مرات عديدة للحصول على أرض صغيرة لإقامة معمل خاص به في مناطق صناعية لإنتاج فخار بجودة عالية، لكنه عانى من السلطات طوال سنين عمله السابقة. «بِشيلوا مننا رسوم، ويطلع كلام ساي»، يقول عيد وهو يشير إلى أنه يتعرّض للاحتيال من السلطات: «مرة يقولوا لينا بندّيكم في الشعبي (السوق الشعبي أم درمان)، مرة يقولوا لينا بندّيكم في الفتيحاب، آخر مرة كانت في حلايب غرب حارات الثورة».

ويرى عيد أنه يتعرّض لابتزاز من نوعٍ ما بسبب هشاشة ما يعمل بيديه، ويقول إنهم يعملون برخصة تجارية ويدفعون لمناديب الضرائب والزكاة والصحة، لكن رغم ذلك أغلقت السلطات في السابق مكان عمله في القماير عدة مرات، كما يروي، بحجّة أن أبخرة الفرن تُلوِّث الأجواء في مناطق سكنية. لكن عيد يؤكّد أنهم لا يُشعلون الفرن بمواد سامة، إنما هي فضلات عضوية أو كيميائية، «آخر مرّة جوا طفوا النار بالفنطاس»، وقد ذكر أنهم كذلك هشّموا الفخار الجاهز، «ممكن تتظلّم، لكن تتظلّم لمنو؟ دي حكومة؟».

وثمة أمرٌ آخر يُزعِجُ عيد، وهو تردّي المهنة سنة بعد أخرى، فهو يرى أن معايير الجودة لا تُطابق تلك التي تعلَّمها في صغره، ويعزو ذلك إلى التدهور العام الذي تمرُّ به الدولة السودانية منذ سنوات بعيدة في المجالات الأخرى، ويقول إنه يُشكِّل الفخار طوال السنوات السابقة ليكسب لقمة عيشه فقط، وإن استطاع إنشاء معمله أو مصنعه الخاص فإنه لن يُنتج فخاراً لا يُرضي معاييره الخاصة. يقول هذا وهو يحكي بشغف كبير عن تفاصيل كثيرة ودقيقة في الفخار، وكيف أن تفصيلاً صغيراً قد يُغيِّر كلّ شيء في الزير الذي أمامه. لكنه رغم ذلك يشكّل قطعاً فنية وديكورية من الفخار ويَحتفظ بها آمنة في بيته. يسكن عيد اليوم في القماير في منزل صغير بُنِيَ على نفس قطعة الأرض الصغيرة التي أنشأ فيها عمّه أول معمل فخار في القماير.

Scroll to Top