«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية الفنانة مروة الدولية
اتخذ الحكّام البريطانيون للهند – وكان الخليج الفارسي ضمن نطاق مسؤوليّتهم – من تهمةَ «القرصنة» مبرّراً للحرب والسيطرة العسكرية على الخليج؛ «كاسوس بيلي casus belli» في لغو الشوكة من اللاتينية. وهي التهمة التي اجتهد مؤرّخو الإمبراطورية من شاكلة سنخ لوريمر، الموظّف الحكومي ومؤلِّف «دليل الخليج وعمان ووسط الجزيرة العربية»، في إثباتها على «القواسم». وكان الخليج الفارسي بوابةَ التجارة الأولى ما بين شرق وغرب، ما قبل افتتاح قناة السويس في 1896. نَقلت الإمبراطورية من كرّاسٍ معهودٍ، إذ اتخذت سلطانَ مسقط حليفاً، وعرَّفت «القواسم» خصماً عنيداً مهووساً و«إرهابياً». والعلّة أنّ القواسم كانوا حرّاس مضيق هرمز، وقام رِزْقُهم، في جانب عظيم منه خلال القرن الثامن عشر وقسط من القرن التاسع عشر، على رسوم التجارة العابرة للمضيق. وكان موقف البريطانيّين، بالدرجة الأولى، شركة الهند الشرقية: أبينا، ما بندفع! وقسطٌ من «القرصنة»، التي اتَّهَم بها البريطانيّون القواسمَ، كان جوابَ قومٍ وَقَعَ عليهم جبرُ الجغرافيا والتاريخ على تمرُّد شركة الهند الشرقية والدولة المستبدّة مِن خلفها على دفع رسوم عبور مياههم وجُزرهم.
لإخضاع القواسم، وفَرْض «حريّة» التجارة الخالية من رسوم العبور للغير، جنَّد البريطانيّون، ضمن من جنّدوا، قرصاناً محترفاً برقعة عين، زي ما قال الكتاب، رحمة بن جابر بن عذبي الجلهمي (حوالي 1760 – 1826). ورحمة بن جابر مادّة للأسطورة، تقول عنه رواياتٌ جاء بها السير شارلز بلغريف في كتابه «ساحل القراصنة» (مكتبة لبنان، 1972) إنّه بدأ سيرته المهنية تاجرَ حصين، ثمّ استثمَر ما جمَع من المال من هذه التجارة في شراء سفينة بدأ بها واثنا عشر من رفاقه بزنساً ناجحاً كقرصان، فاشترى سفينة ثانية ضخمة تزن 300 طن لفريق من 350 رجلاً. وسيرة الجلهمي من سيرة أهله العتوب، ومنهم آل خليفة وآل صباح، أسلاف الأسرتين الحاكمتين في البحرين والكويت. وقد هاجَر هؤلاء من نجد خلال جفاف طويل في القرن السابع عشر، واستقرّوا أوّل أمرهم في فريحة في طرف قَطَر الشمالي، لكن اصطدموا مع آل مسلم، من كانت لهم اليد العليا في قطر ووكالة العثمانيّين، وفرضوا عليهم ضريبة، فخرجوا منها طوائف. واستقرّ بعضهم منذئذ في البصرة، ومن هؤلاء آل الصباح وآل خليفة والزايد والجلاهمة، الذين استقرّوا في بندر أم قصر على الخليج الفارسي، ويقع اليوم ضمن محافظة البصرة، وطلبوا الرّزق في البحر، ونافسوا غيرهم، فتضرّرت التجارة البحرية، وأمر الوالي بإبعادهم، فساروا آخرَ أمرهم إلى الكويت حيث نزلوا بموقع حلّة القرين وأقاموا فيها حصناً؛ «كوت»، ومنها اسم الكويت. من ثمّ رحل نفرٌ من الجلاهمة وآل خليفة حوالي 1766 إلى زبارة في ساحل قطر قبالة البحرين، وكانت البحرين وقتها محطة حربيّة تحت السيطرة الفارسية. كان طلبُ آل خليفة والجلاهمة في زبارة اللؤلؤَ، وازدهرت معيشتهم فيها من صيده وتجارة البحر فأقاموا عندها حصناً حربياً «قلعة المرير» في 1768، فأثاروا مخاوف الفرس في البحرين، الذين أغاروا عليهم في 1782، لكنْ صَدَّهم آل خليفة، وخرج شيخُهم خليفة بن محمد من المعركة بطلاً في قومه.
طلب آل خليفة النصرةَ من آل الصباح في الكويت فناصروهم كما ناصرهم الجلاهمة، واستطاعوا معاً طرد المحطّة الفارسية من البحرين في 1783 وصارت لهم البحرين داراً فملكوها. لكنْ خرج الجلاهمة من تقسيم العمل الجديد بين آل الصباح في الكويت وآل خليفة في البحرين خاسرين، وصارت هذه الخسارة مرارةً لمثل «رحمة» المولود في القرين والذي ساق والدُه جابر قومَه الجلاهمة إلى زبارة، فامتهن وقومُه الإغارة على السفن العابرة للخليج من موقع «الخوير» الحصين عند طرف قَطَر الشمالي الغربي. وقال عنه السير شارلز بلغريف، الذي خدَم في الهجانة السودانية وشارك في حملة دارفور عام 1916، وصار بعد الحرب العالمية الأولى مستشاراً لحكام البحرين من آل خليفة: أُخِذَ بعقيدة «الوهّابية» وتفادى تهديد مصالحهم البحرية (شارلز بلغريف، «ساحل القراصنة»، مكتبة لبنان، بيروت، 1972، ص 122-124). تخرج القارئةُ من رواية بلغريف بطرفٍ من الاقتصاد الذي صار مظلمةً للجلاهمة على آل خليفة وآل الصباح. يستفيض النبهاني، محمد بن خليفة بن حمد بن موسى الطائي المكي، المؤرِّخ الذي وَجد فضلاً عند حكّام البحرين وصاحب «التحفة النبهانية في إمارات الجزيرة العربية» (دار إحياء العلوم، بيروت والمكتبة الوطنية، البحرين، 1999) في موقع رحمة بن جابر «القرصان» عند البريطانيين، من الصراعات السياسية التي اكتنفت حكم آل خليفة. وكان رحمة بن جابر عند النبهاني «رجلاً عزيزاً في قومه ولعزّته لم يَدِن لطاعة آل خليفة من كلّ وجهٍ لأمورٍ في نفسِه فجعل يشنّ الغارات عليهم». («التحفة النبهانية»، ص 96).
كانت البحرين، لجزء من تاريخها في القرن التاسع عشر، نهباً لجيرانها الأقوى؛ سلاطين مسقط وأمراء نجد، فاستولى عليها إمام مسقط في 1800، وهجَرها آل خليفة إلى الزبارة، ملجأهم القديم في قَطَر. كانت خطّة آل خليفة الاستعانة بأمير نجد سعود بن عبد العزيز لاستعادة سلطانهم، ففعَل في حربٍ قصيرةٍ هَزَم فيها العمانيّين عام 1809، لكنه أمَّر على البحرين عاملَه إبراهيم بن عفيصان فمَنَع آل خليفة من سكناها وظلّوا في الزبارة يتربّصون. هجمت عليهم في الزبارة قوّة سعودية، على رأسها سليمان بن سيف بن طوق، فأخذهم قسراً إلى الدرعيّة، مقرّ أمير نجد الذي فرَض عليهم الإقامة عنده. ومنها وَكّلوا ابنَ أختٍ لهم، عبد الرحمن بن راشد آل فاضل، ليتّصل بإمام مسقط يطلب منه العون في استخلاص البحرين من قبضة أمير نجد، فجاء بمَددٍ حربيٍّ وجَنَّد مرتزقةً من فارس للحرب انتصروا بهم على ابن عفيصان واسترجعوا البحرين في 1810.
خرج ابن عفيصان من البحرين إلى قَطَر حيث التجأ عند عدوّ آل خليفة؛ رحمة بن جابر في «الخوير». تتبّع آل خليفة، والنصرُ نشوة، أثرَ عدوِّهم بأسطول حربيّ يريدون الثأر، بينما استعدّ كلّ من ابن عفيصان وحليفُه رحمة بن جابر يريدان استرداد البحرين، ودفع الأخير بسفينته الثقيلة «المنوار» في مواجهة آل خليفة. برَز الجمعان لقتال شرس في «وقعة خكيكيرة» في 1811، وهي موضع بحري بين الزبارة والفريحة، خسر فيه رحمة وأُجبِر على الفرار بجرح بليغ. لم يفقد رحمة الأمل في فوزٍ بآخر الأمر، فاستعدّ لحربِ استنزافٍ سَلَّط فيها سفينته على تجارة البحرين. ثمّ سعى حلفَ إمام مسقط لمواجهة آل خليفة بقوّة أعظم. وكان من مصلحة إمام مسقط أن يحبط تجارة البحرين مع الهند التي نافست تجارته، فجهَّز الحليفان جيشاً نازَلَ جيش آل خليفة في «وقعة المقطع» عام 1815 خسر فيها إمامُ مسقط أخاه سالم، وكانت هذه المواجهة الخاسرة فاتحةَ صُلحٍ بينه وآل خليفة فرَض بموجبه عليهم خراجاً سنوياً («التحفة النبهانية»، ص 96-101).
وطَّن النبهاني رحمة بن جابر في تاريخٍ من الصراع على النفوذ والتجارة في الخليج، فهو عنده مغامر سياسي خاسر، في بيئة اشتدّت فيها المنافسة على موارد قليلة. لكنّه عند المؤلّف صاحب العهدة الاستعمارية «قرصان» احتلّت سفنُه لساناً في البحر عند بوشهر، «ظلّ لمدة عشرين عاماً مصدراً للإرهاب في الخليج، فهو أنجح القراصنة وأطولهم بقاءً من الذين لوّثوا أيَّ بحرٍ كان» (شارلز إلمز، «كتاب القراصنة: رواياتهم الأصليّة وحياة ومغامرات وحوادث أكثر نهّابة البحر شهرةً»، الناشر فرانسيس بليك، بورتلاند، 1856، ص 60). وكان شارلز إلمز هذا، مَن اتّخذه المؤلّفُ الاستعماريّ الكسول أو صاحبُ الغرض، أيّهما شئت، مصدراً لتاريخ القرصنة في الخليج، تاجرُ أدوات مكتبيّة في بوسطن الأمريكية، تحوَّل إلى التأليف وتخصَّص في حكايات البحر والقرصنة. ويُعدّ «كتاب القراصنة» أكثر كتبه انتشاراً، وله سوى ذلك جامعٌ للكاريكاتير الأمريكي للعام 1831. ضمّ «كتاب القراصنة» فصلاً عن «القواسم» بعنوان «التاريخ العجيب للقراصنة القواسم في الخليج الفارسي» منحولٌ في معظمه من مذكّرات الرحّالة الإنجليزي جيمس سلك بكنهام «رحلات في أشور، ميديا وفارس» (كولبرن، لندن، 1830). ابتدَرَ إلمز فصله عن القواسم كما يلي: فصل «يحوي وصف مدينتهم الرئيسة رأس الخيمة، وقصّة سلبهم عدة سفن أوروبية، والسلوك الهمجي لطواقمهم، بالإضافة إلى تفاصيل مثيرة عن الحملات العديدة التي شُنَّت عليهم حتى استسلامهم النهائي لقوات شركة الهند الشرقية البريطانية». والقواسمُ عند إلمز وجمهوره قراصنةٌ، لكن تجوبُ السفن الأوروبيّة بقواتها العسكرية الخليجَ الفارسيّ في الخير والإيمان، تجارة وحضارة.
على كلّ حال، سَاطَ إلمز تاريخَه بغرض الإثارة، فعَدّ رحمة بن جابر الذي حالف «شركة الهند الشرقية» لحرب «القواسم» زعيماً من زعمائهم، وليس منهم. والمسألة ربّما أنّ الرواية الاستعمارية جعلت من «قراصنة» و«قواسم» مترادفَين، مدَرْدَم وآخر. وقال إلمز عن رحمة بن جابر إنه «طريد» عافَهُ أهلُ بلدته القرين، فاتخذ بوشهر مركزاً لعمليّاته، وكانت له خمس أو ستّ سفن، معظمها ضخمة ولكلّ منها طاقم من مائتي إلى ثلاثمائة رجل، إذ جمع حوالي الألفين من المقاتلين، معظمهم رقيقٌ ملك يمينه. صوَّر إلمز رحمة بن جابر جزّاراً قذراً حد التقزّز، لا يخلع ثيابه للغسيل حتى تبلى على بدنه الذي يجوب فيه القمل، ويعتمر كوفية، هزيل البدن، ضامر الأطراف، كلّ طرف يغصّ بندوب غائرة، هي ضربات السيوف والقنا والرصاص، زاد وجهُه توحُّشاً فوق توحُّشه بكَيلٍ مُضافٍ من الندوب والجروح وفقدان إحدى عينيه («كتاب القراصنة»، ص 60-61).
أعاد الدكتور نيكولاس ب. روبرتس، وهو مؤرّخٌ مجدِّدٌ لتاريخ الجزيرة العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اكتشافَ رحمة بن جابر، وعاد به كما النبهاني إلى التاريخ، فهو عنده مُقاولٌ في السياسة، استغلَّ مجموعات اجتماعيّة متباينة وأجندات سياسية متضاربة، ليظلّ رقماً لا يمكن تجاوُزه في خريطةٍ للنفوذ عسيرة الرسم. كان، بقراءة أخرى، عنصراً بنيوياً من عناصر السياسة الإمبريالية في الخليج وغرب المحيط الهندي في العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، يساعد تاريخُه في تقصّي نشأة الدول الخليجية خلال هذه الفترة، فإنها ليست كما في تاريخها الرسميّ حاضراً ذهبياً ممتداً في الماضي والمستقبل (نيكولاس روبرتس، «إرهاب ولو: رحمة بن جابر وعصر الثورات في الخليج، 1760-1830»، اتنراريو، م 94، عدد 1، 2025، ص 99-113). اكتبي اكتبي ألِف المَدّ!
يُتبع…



