أتر

عودة المكتبات إلى الخرطوم: جوع سنتين كاملتين!

«أنا الآن جائعٌ لاقتناء كتب جديدة جوعَ سنتين كاملتين»، هكذا عبّر أحمد جودة، وهو مهندس طبّي بمستشفى النو، التقاه مراسل «أتَـر» في مكتبة المصوّرات إثر إعادة افتتاحها في 31 يوليو الماضي. وقال إنه لم ينقطع عن القراءة رغم ضغط العمل في المستشفى، وقد قرأ جميع ما لديه من كتب، لذلك سارع إلى المكتبة ما إن علم بعودتها.

قبل أن تنقضّ عليها حرب 15 أبريل، كانت الخرطوم تضجّ بنشاط ثقافيّ كبير، وبمكتبات ودُور نشر تلبي حاجة القرّاء والكتّاب والباحثين وطلاب العلم بزاد لا ينقطع من المطبوعات: هذه دار المصوّرات، وتلك دار عزّة وفرعها مكتبة سودانيات، وبالقرب منها دار جامعة الخرطوم للنشر، ودار الأجنحة، ودار مدارات، وتلك دار الريم، ومكتبة الورّاقين، ومرَوي بوكشوب، ومكتبة الشريف الأكاديمية، وغيرها. وأولئك هم الورّاقون، فرادى ومجتمعين في شوارعها يوفرون الكتب المستعملة بأيسر الأثمان: الورّاق عمر دفع الله ورفاقه جوار مدرسة كمبوني، وكمال وداعة في شارع البرلمان، وعبد الغفار في شارع الحرية، وعلي فور ورفاقه في شارع القصر، وفيصل في المحطة الوسطى بحري، ومكتبة الدار البيضاء وأكشاك الورّاقين في المحطة الوسطى أم درمان، والقائمة لا تنتهي. كذلك انتعشت على الإنترنت صفحات ومواقع لبيع الكتب وتوصيلها: لمياء حسب الجابو صاحبة مشروع قنديل للكتب، ومحمد بشير صاحب مكتبة اقرأ، وريّان الشامي صاحبة ريل بوك، وإسراء الريّس مديرة دار نرتقي للنشر وغيرهم. إنها شبكة مترابطة من القرّاء والناشرين وباعة الكتب، تقطّعت أوصالها لمدة سنتين بفعل حرب 15 أبريل. وبدَورها لم تسلم المكتبات في المدن الأخرى من لمسة الحرب المدمّرة، وإن كانت بعضها مثل عطبرة أفضل حظاً من غيرها.

وها هي الخرطوم تنهض من رمادها، وقد عاد إليها شيء من الأمان، لتبدأ تلك الشبكة المعرفية في الترابط مرة أخرى، ونشهد عودة المكتبات، وعودة القرّاء بعد غياب.

دار المصوَّرات للنشر

صورة لشباب المكتبة خالد وآدم بعد افتتاحها

في 31 يوليو 2025، أعادت دار المصوّرات افتتاح مكتبتها في موقعها ذاته بالخرطوم غرب، تقاطع شارع صالح باشا المك وشارع الشيخ مصطفى الأمين، واستأنفت العمل. متحدّثاً لـ«أتَـر» يسرد أسامة عوض الريّح، مؤسّس الدار، قصة العودة: «قبل الافتتاح، حضر شباب المكتبة لنظافة المحلّ وجمع الكتب المبعثرة، واستغرق الأمر عشرة أيام كاملة. لم تكن هناك خسائر كبيرة تُذكر، وإنما تلف بسيط. أول ما بدأت الحركة في شارع الحرية وسط الخرطوم، قرّرنا أن نبادر ونفتتح المكتبة رغم قلة الناس».

بدأت المصوّرات مكتبة صغيرة في مطلع العقد الفائت، ولم تلبث أن ازدهرت وتطوّرت إلى دار نشر بدءاً من 2013. وفضلاً عن توفيرها كلّ جديد من مطبوعات دُور النشر العربية، فقد طبعت دار المصورات المئات من الكتب وزوّدت بها عشاق القراءة والمعرفة عبر نشاطها الدائم في معارض الكتب داخل السودان وخارجه. وفي سبتمبر 2021، افتتحت فرعها بمدينة الأبيّض.

بهذه الخبرة العامرة في مجال النشر، يلمس أسامة في عودة نشاط المكتبات، خلال هذه الظروف الصعبة، مؤشراً على أنّ هناك بصيص أمل في الاستقرار والسلام، ويرى أنّ العاملين في حقل الثقافة هم الأولى بالمبادرة واستئناف العمل لاستعادة الحياة الثقافية والعلمية بجميع وجوهها، متوقّعاً أن تنفرج الأمور تدريجياً بعودة الجامعات إلى العمل، وقد شرعت بعضها في تهيئة مبانيها لاستئناف الدراسة: «لذلك نتوقّع أن تشهد الخرطوم مزيداً من النشاط الثقافي بحلول شهر أكتوبر. بعد ما حدث في الحرب، نأمل أن تحظى مسائل المكتبات والكتاب وتنمية الوعي بالأولوية. وللمكتبات والجامعات ومراكز البحث دَور كبير في التنوير، لأننا وصلنا إلى الحرب نتيجة للتناحر والتشظي القبَلي».

نشرت دار المصوّرات خلال العام 2024 أكثر من 10 عناوين جديدة في جميع المجالات، وأعادت نشر كتب قديمة، بصحبة مصمّمين ومحرّرين، وبعون من الأصدقاء والقراء والروّاد السابقين للمكتبة في السودان. ووصلت مطبوعات الدار في 2025 إلى 80 كتاباً شُحنت بالفعل إلى الخرطوم.

عند نشوب الحرب، تلقّت جميع مهن النشر والمكتبات ضربة قاسية، وأصبح الناشرون وأصحاب المطابع والمكتبات والورّاقون بلا دخل ولا مطبوعات. توجّه الناشر أسامة الريّح بأسرته وعمله إلى مصر، طلباً للأمان وفراراً من الحرب، وله علاقة قديمة بالقاهرة إذ كان يطبع فيها بعض إصدارات الدار مستعيناً بإمكاناتها في حقل الطباعة والنشر، ولا يغيب جناح المصوّرات عن معرضها السنوي للكتاب. وبفضل هذه العلاقة، يقول أسامة: «نجت كثيرٌ من مطبوعاتنا، إذ كانت محفوظة في القاهرة في مخازن الدار، الأمر الذي أعاننا على الاشتراك في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير 2024 بل وفي جميع معارض الكتاب في العواصم العربية الأخرى».

وقد نشرت المصوّرات خلال العام 2024 أكثر من 10 عناوين جديدة في جميع المجالات، من أدب وسياسة وفكر وتاريخ، وأعادت نشر كتب قديمة، بصحبة مصمّمين ومحرّرين، وبعون من الأصدقاء والقراء والروّاد السابقين للمكتبة في السودان ممن لجأوا إلى مصر بعد 15 أبريل. ووصلت مطبوعات الدار في 2025 إلى 80 كتاباً شُحنت بالفعل إلى الخرطوم لدعم حياة الكتاب في المدينة التي نُهبت كثير من كتبها وأحرقت أغلبها باعتبارها خسائر جانبية.

وعن خطط دار المصوّرات في الشهور المقبلة يقول أسامة الريّح: «نخطّط لإقامة معرض متنقّل سيبدأ من بورتسودان في شهر ديسمبر، لينتقل من ثمّ إلى جميع المناطق الآمنة بالسودان. ونخطّط أيضاً لإقامة معرض كبير في الخرطوم عام 2026. سنعوّض كلّ الخراب الذي ألمَّ بمكتبات الجامعات ودُور البحث ومكتبات الأفراد الخاصة، وسنوفر كتباً أكاديمية وثقافية، وسنحرص على أن تكون ميسورة وفي متناول الجميع. وعلى خارطة الطريق، ترتسم أمامنا مشاريع كبيرة للنشر ولمراكز ثقافية في الولايات».

يدرك أسامة حجم التحدّيات التي تقف أمام النهضة الحقيقية لنشاط المكتبات وغيرها من الأعمال في البلاد، مشيراً إلى أنّ فقدان الناس مدّخراتهم وأصولهم سيؤثّر على حركة البيع والشراء. وإزاء هذه التحديات، ينبّه إلى أنّ التنمية الثقافية في حاجة إلى التفاتة كبيرة من الحكومة ومن المؤسّسات لدعم الناشرين والمؤلّفين، قائلاً: «يجب أن تهتمّ الدولة بإنشاء المكتبات العامّة ومكتبات المدارس. إننا نحتاج إلى تعاون كبير لكي نستطيع أن نمضي إلى الأمام».

في زيارته إلى مكتبة المصوّرات بالخرطوم، التقى مراسل «أتَـر» بخالد التوم، الذي كان من روّاد المكتبة المداومين قبل نشوب الحرب، ومن أوائل الواصلين إليها بعد إعادة افتتاحها. يصف خالد ما اعتراه ما ألم، وقد كان شاهداً على كل ما جرى في الخرطوم التي لم يغادرها منذ نشوب الحرب، قائلاً: «انعدم كلّ شيء، ليس الثقافة وحدها، لقد مات في الناس معنى أن يكون المرء إنساناً، دعك من أن يكون قارئاً أو كاتباً. وذلك للارتباط الوثيق بين الثقافة والأوضاع السياسية في كل بلد. إنّ الثقافة تعني الحرية، ولن تبزغ نبتة لأي فكر أو ثقافة إلا في تربة الحرية».

لكن خالد يصف أيضاً ما اعتراه من أمل قبل أيام، قائلاً: «لقد عادت الرّوح نوعاً معاً إلى وسط الخرطوم المدمّر؛ عادت بعودة سوق الكتاب، عادت الدار السودانية للكتب، وسبقتها بأيام دار المصوّرات، وبعثتا فينا بعضاً من الأمل. ننتظر المعارض والندوات وورش العمل وغيرها من الأنشطة الثقافية. لن نتشاءم ونثق أنّ كل ذلك قادم. وعلى الدولة ممثّلة في وزارة ثقافتها أن تنفض ركام الماضي وتنظر إلى المستقبل».

الدّار السودانيّة للكتب

صورة للدار السودانية للكتب بعد الحرب

بعد أكثر من سنتين من الإغلاق الاضطراري، أعيد افتتاح الدار السودانية للكتب جزئياً في وسط الخرطوم يوم 17 أغسطس الجاري، بحضور وزير الثقافة ولاية الخرطوم، وممثّل عن والي الخرطوم، وممثّل لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف.

أُسِّست الدار السودانية للكتب عام 1964 على يد الراحل عبد الرحيم محمد مكّاوي في مدينة القضارف، ثمّ انتقلت إلى الخرطوم بحري عام 1968، ثمّ إلى موقعها الحالي بشارع البلدية عام 1971، وأصبحت من أعرق مكتبات السودان ومن أبرزها عربياً وإفريقياً. تضمّ مكتبة الدار طوابق عدّة، وكانت تحوي ما يقارب مليوني كتاب وأكثر من 55 ألف عنوان، وفقاً لمديرها أحمد عبد الرحيم مكّاوي، الذي روى في حديثه لـ«أتَـر» ما تعرّضت له عقب اندلاع الحرب من سرقة وتخريب ممنهج، قائلاً: «لقد فُقدَت كتب نادرة تصل قيمتها إلى مئات الآلاف من الدولارات، من ضمنها مصاحف وكتب إسلامية ووسائل تعليمية للأطفال وكتب مدارس. تعطّلت البنية التحتية للمكتبة، تضرّر النظام الكهربائي، وسُرقت المولّدات والكابلات والمكيّفات».

لقد فُقدَت كتب نادرة تصل قيمتها إلى مئات الآلاف من الدولارات، من ضمنها مصاحف وكتب إسلامية ووسائل تعليمية للأطفال وكتب مدارس. تعطّلت البنية التحتية للمكتبة، تضرّر النظام الكهربائي، وسُرقت المولّدات والكابلات والمكيّفات.

رغم الدّمار الذي خلّفته الحرب، لم تنطفئ جذوة الأمل. يقول مكاوي: «كان المشهد قاسياً؛ رفوف مبعثرة، كتب ممزّقة ومسروقة، بنية تحتية مهدّمة، وغبار الحرب الذي استمرّ لأكثر من سنتين يخيّم على المكان. لكن وسط هذا الركام، بدأ كفاحٌ صعب لإعادة الترتيب والتنظيم، خطوة بخطوة، بجهدٍ شاقّ وسواعد مؤمنة بأنّ المكتبة ليست محض جدران وكتب، إنما هي ذاكرة وطن، وروح شعب».

ويصف أحمد مكاوي كيف كان الطريق محفوفاً بالتحدّيات: «في ظلّ انقطاع الكهرباء والمياه في المنطقة، تطلّب الأمر صبراً طويلاً وإصراراً نادراً؛ تنظيف الرفوف وتنظيمها، وترتيب الكتب وفرزها حسب الموضوعات، وإصلاح ما يمكن إصلاحه، والبحث عن حلول بديلة لتعويض ما فُقد. لكنّ العزيمة كانت أقوى من اليأس، والإيمان برسالة الكتاب كان هو الوقود الذي أعاد إلى الدار أنفاسها. وهكذا تحوّل الألم إلى دافع، والفقد إلى منطلق جديد، لتعود الدار السودانية للكتب شاهداً على أنّ الثقافة قد تُقهر لكنها لا تموت، وأنّ الكتاب سيبقى حاضراً مهما اشتدّت العواصف، وأنّ الدمار والخراب لن يدوم ما دامت هناك أيادٍ تبني وتعمّر. يمثّل هذا الافتتاح بارقة أمل وانتصاراً ثقافياً، في مواجهة محاولات محو ذاكرة الأمة، ولتستعيد الدار مكانتها مركزَ إشعاع معرفي في العاصمة، يجسد قوة الثقافة وصمودها أمام ويلات الحرب والتدمير. إنه نصر للتراث، وللذاكرة الجمعية، ورسالة بأنّ الكتاب سيبقى منارةً للنهوض. وستبقى المكتبة منارةً للعلم والمعرفة والثقافة وجمع المجتمع السوداني تحت مظلّة الحبّ والسلام. وأخيراً لن يتطوّر أي بلد وأي حضارة إلا بالقراءة والعلم، وإن كانت مواردها شحيحة».

في يوم افتتاح الدار السودانية للكتب التقى مراسل «أتَـر» بحسن عمر بخيت وهو من روّاد المكتبة. أبدى حسن سعادته بافتتاح المكتبة ويُسر أسعارها، مستطرداً: «إنّ أول الأعمال في جهود إعادة الإعمار ينبغي أن تبدأ بالمكتبات، لأنّ القراءة هي أول درج للحضارة والعمران، بها تكتنز القيم والمعارف، وبها تصقل المهارات والقرائح».

عودة الورّاقين

أخبر الورّاق والكاتب عمر دفع الله، وهو صاحب خبرة طويلة وله صلات وثيقة بعالم الكتب في الخرطوم، «أتَـر» بأنه يخطّط لإقامة معرض تحت كوبري توتي، برعاية دار الورّاق، وبالتعاون مع مكتبة خالد علي  بالخرطوم. ولإنجاح المعرض، ينوي عمر أن يقدم دعوة مفتوحة للجميع.

كذلك تتهيّأ الخرطوم لعودة الورّاقين والورّاقات لعرض كتبهم في شوارعها وعبر الإنترنت. منهم الورّاق والكاتب عمر دفع الله، وهو صاحب خبرة طويلة وله صلات وثيقة بعالم الكتب في الخرطوم. أخبر دفع الله «أتَـر» بأنه يخطّط لإقامة معرض تحت كوبري توتي، برعاية دار الورّاق، وبالتعاون مع مكتبة خالد علي  بالخرطوم. ولإنجاح المعرض، ينوي عمر أن يقدم دعوة مفتوحة للجميع: «ستكون فرصة طيبة للبيع وتبادل الكتب بين الزوّار. هذه أولى خطواتنا لإحياء النشاط الثقافي وعودة الحياة الطبيعية إلى الخرطوم».

أما الورّاقة لمياء حسب الجابو حمد، صاحبة مكتبة قنديل، فإنها تعمل على ترتيبات العودة في منتصف سبتمبر المقبل. تقول لـ«أتَـر»: «سنبدأ نشاطنا في بحري أولاً، لصعوبة التوصيل إلى خارجها في هذه الفترة. كذلك فإن معظم الشريحة المستهدفة بشراء الكتب لم تعد إلى العاصمة بعد. وقد حصرنا العناوين المطلوبة في الساحة الثقافية الآن، في جميع المجالات، وتواصلنا مع الجهات التي ستجلب إلينا الكتب، ونتوقّع وصولها قريباً».

كان تأثير الحرب على لمياء الورّاقة كبيراً لأنها أوقفت عملها كلياً وبلا مقدّمات. أما لمياء القارئة فقد تغلّبت على ما جرّته الحرب على أغلب الناس من تأثير نفسي بالغ، على حدّ تعبيرها، إذ أتاحت لها وقتاً للقراءة أكثر ممّا كان يتيسّر لها في ما سبق: «تعرّفتُ على كتّاب جدد، وقرأتُ كثيراً من الكتب خلال السنتين الماضيتين على الشاشة بصيغة pdf، لأنني لم أجد مكتبات في المناطق التي نزحنا إليها».

تخطّط لمياء لتطوير عملها، وهي تدرك أنّ عليها البدء من نقطة جديدة: «لا أقول إنني سأبدأ من نقطة الصّفر، لكنها نقطة بداية جديدة، وتحتاج إلى جهد جديد».

Scroll to Top