أتر

نـوتـة من عِـلْـم الكُونِكا (19)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية الفنانة مروة الدولية

طمَس المؤرِّخ الاستعماريّ سيرة رحمة بن جابر الجلهمي تحت عنوان «القرصنة»، وكانت يا عرب. وهذه مكيدة أيديولوجية للشوكة ينقلب بها التاريخ سجلّاً جنائياً، مَن فعَله؟ هذا فعَله!. سيرة رحمة بن جابر منسوجة في تاريخ السيطرة الاستعمارية على الخليج. و«القرصنة» في وجهٍ من وجوهها عنوانٌ لصورٍ من مقاومة هذه السيطرة. لا غروَ إذن أنّ المؤرّخ الخليجي المعاصر، وجزءٌ من وظيفته اختراعُ تراثٍ تليدٍ لهياكل الدولة القومية القائمة، وَجَد في رحمة بن جابر عناصر لصناعة البطل القوميّ الخليجي، خَلا الأسر الحاكمة، سيّداً آخر: «لقد كان رحمة بن جابر، هذه الشخصية الجبّارة التي لا تعرف الهزيمة ولا الخنوع، مثالاً للمغامر العربي الشجاع الذي يفضِّل الموت على الاستسلام، لم يكن عدوّاً لبني عُتبة [العتوب، ومنهم خصومه آل خليفة وآل الصباح]، بل كان سيداً من ساداتهم، ولكنها العصبية والقبَلية وما ترتّب عليها من الأخذ بالثأر، فأوقفت رحمة بن جابر موقفَ العداء من قومه، ولكنّه كان في عدائه شريفاً». (الدكتور يوسف إبراهيم العبد الله، «رحمة بن جابر الجلاهمة وعلاقاته بالقوى السياسية في الخليج العربي»، مجلة وقائع تاريخية، العدد 9، 2009، ص 192).

لم يَقبل الدكتور العبد الله (كلية الآداب، جامعة قطر) من «القرصنة» سوى ظاهرها، وقَدَّرَ أنّ رحمة بن جابر كان بالدرجة الأولى سياسياً، «لم يكن يبتغي السّطو من غزواته ومعاركه البحرية، بل قصَد منها تنمية قوّته البحرية لتكون عوناً له في تهديد أعدائه من آل خليفة، ليستطيع أن يطالب بحقوق الجلاهمة، أو على الأقل ثمن معاونته لآل خليفة في السيطرة على البحرين، ولكن عندما تنكَّر آل خليفة له، واجهَهم بالعداء، واعتبرَهم مغتصبين للبحرين، وقضى سنوات حياته يبتغي القضاء عليهم والسيطرة على البحرين، ولذا كان يضع نفسه في خدمة أعدائهم». عدَّد الدكتور العبد الله غزوات رحمة بن جابر في الخليج من مصادر شتّى، بما في ذلك لوريمر وبلغريف، لكن قدَّمَها في سياق النزاع السياسي، فهي ليست عنده اعتداءات على الملكيّة في عرض البحر وكفى، وإنما وقائع سياسية ضمن صراعٍ على النفوذ (الدكتور يوسف إبراهيم العبد الله، المصدر السابق، ص 192-195).

الاستعمار شوكةٌ ومنظورٌ، ومنظورٌ للشوكة، فلا تجد عند مؤرِّخ للحكم في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين مثل أمين الريحاني، الأديب والمؤرّخ والرحّالة الذي قام شُغلُه على تلخيص المصادر العربية ومقابلات الملوك وحاشيتهم ومشاهدات المدن، ذكراً لقرصنة رحمة على الإطلاق. رحمة عند الريحاني عنصر من عناصر الملك، عزيزٌ في قومه لم يَدِن لآل خليفة، كان يسعى لانتزاع الإمارة من أيديهم (أمين الريحاني، «ملوك العرب: رحلة في البلاد العربية مزينة برسوم وخرائط وفهرست أعلام»، دار الجيل، بيروت، [1924] ط 8، 1978، ص 745).

جاء فوزي الغويدي، المؤرِّخ المعاصر للخليج العربي (زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط، قطر)، بصبغةٍ أخرى لرحمة بن جابر من جهة نشأة الدولة القومية وخرائط سيادتها. ارتبطت السُّلطة السياسية في التقليد المعهود باليابسة والوطن الذي تحدُّه حدودٌ يجاور بها أوطاناً أخرى تفرضها الجغرافيا. أما الكيانات التي يشكِّل البحر مجالاً لنفوذها فلا قَبْضَ ظاهراً لها، هي مجالٌ للسيولة في العلاقات السياسية والتملّص منها. يستحثّ فرضُ السيادة في المجال البحري تهمةَ «القرصنة» حيثما وقعت هذه السيادة في يد مستضعَفين. عليه، يمثّل رحمة بهذا المعنى تحدّياً للخريطة السياسية، وقد جعل البحر مركزاً لحكمه الذي قام بشبكةٍ من النفوذ امتدّت عبر ثلاث مواقع على شاطئ الخليج: خور حسّان جهة الزبارة، وبوشَهر، والدمّام، دون أن تقوم له على اليابسة دولة، فعاصمته كانت سفينته «الغطروشة» (فوزي الغويدي، «البحر مقابل الصحراء»، عمران، م 13، ع 50 (2024): ص 53-83).

عبّر الغويدي عن هذه السيادة بمفهوم «المشيخة البحرية» في محلِّ ما وَضَع المؤرّخُ الاستعماريُّ وصمَ «القرصنة» وسُبَّتَها الجنائية. رسم الغويدي خريطةً للخليج ضمن شبكة المصالح التوسّعية للبريطانيين منذ أواخر القرن السابع عشر، والتي قامت في أوّل أمرها على تأسيس محطات تجارية لشركة الهند الشرقية وصولاً إلى الحكم المباشر للتاج البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت أهميّة الخليج من أهمية الهند، فالخليج كان خطَّ الدفاع الأول عن السيطرة البريطانية على الهند ومسارات التجارة التي تربطها بفارس وأقاليم الدولة العثمانية، العراق والشام حتى البحر الأبيض المتوسّط. كان مسعى البريطانيّين، كما هو متوقَّع، تأمين هذه الهيمنة بأقلّ التكاليف ومنهجهم السيطرة على الممرّات البحرية دون التورّط المباشر في حُكم أقوام اليابسة. ولذا صنّفوا من هذا الباب كلّ ما كان وسائلَ معروفةً لحماية المصالح الاقتصادية المحلّية من منافسين طارئين، ضرائب ورسوماً بحريّة، وجريمة دولية: «قرصنة». جاء الغويدي في المقابل برأي المؤرِّخة السوڤييتية نتاليا نيكولايڤنا تومانوڤيتش في «قرصنة» مثل جابر التي عدَّتها صورةً من صور مقاومة أهل الخليج للاستعمار البريطاني، واعتمدت في ذلك على مصادر غيريّة للتاريخ سوى كُتّاب البلاط البريطانيين، لوريمر وبلغريف، فنقلت عن المؤرّخ الإيراني مانشور غورغاني صاحب كتاب «السياسة الإنكليزية في الخليج الفارسي وجزر البحرين» (طهران، 1946):

«والواقع أنه لم تتم في السابق ولا في الآونة الأخيرة إثارة قضية العدوان الإنكليزي على الخليج العربي بحجة ما يسمى مكافحة (القرصنة). وحسب المراجع التي تم التوصل إليها يمكن الحكم على أن المؤرّخ الإيراني (مانشور غورغاني) هو أول من تطرق إلى مسألة التدخل البريطاني في شؤون الخليج العربي. وقد ذكر في كتابه أن الإنكليز كانوا ينتهجون باستمرار (سياسة التعنت) في هذه المنطقة منذ 1800. وكان يتدخلون في شؤون الخليج العربي بشكل سمج وغير قانوني مما كان يزعج العرب. [يقول:] «عندما وجد العرب أن الإنكليز يتدخلون بشكل غير مسوغ في شؤون الخليج (العربي)، ويسعون للسيطرة على مياهه، التي لم يكن لهم الحق حتى في دخولها، أخذوا يشنّون الهجمات على سفنهم. وعندها عَدَّ الإنكليز الهجمات قرصنةً، وأطلقوا على العرب المسلّحين، الذين رفضوا التدخل في شؤونهم الخاصة، اسم (القراصنة)». ولقد تناول غورغاني هذه المسألة بصورة صحيحة ولكن ليس بالشكل الجدي والحاد كما ينبغي. فمثلاً هو لم يتحدث عن التزييف المتعمد للوقائع التاريخية؛ أي كان مثله بذلك مثل المستعمرين أنفسهم، وغيرهم من المؤرّخين البرجوازيين؛ كما أنه لم يسمّ كفاح السكان المحليين العادل بالنضال التحرّري الوطني، وغير ذلك». (نتاليا نيكولايڤنا تومانوڤيتش، «الدول الأوروبية في الخليج العربي من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر»، تعريب سمير نجم الدين سطاس، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي، 2006، ص 217).

وللقارئة أن تتأمّل كيف وَجَد مثل مركز جمعة الماجد، الذي قام بيَدِ قطبٍ من أقطاب التجارة في دبي والخليج العربي ومحسنٍ جامعٍ للكتب، ضالَّته في إحسان التاريخ عند مستشرقةٍ سوڤييتية من المدرسة الماركسية تتحرّى مواقع النضال التحرّري الوطني. قدَّم المترجمُ كتاب الدكتورة تومانوڤيتش (خريجة مدرسة الاستشراق لينينغراد 1950، دكتوراة التاريخ 1961) باعتباره «وجهة نظر روسية في تاريخ المنطقة، مقابل وجهة النظر الغربية»، وصَمَتَ عن منهج شغلها الذي تضمَّنَ فحصاً ثرياً لتوالي السيطرة الاستعمارية على الخليج العربي؛ البرتغاليّون ثمّ الهولنديون ثمّ الإنجليز، كصدىً للتحوّلات في علاقات التجارة الدولية وتبدُّل الغلَبة من رأس المال التجاري إلى رأس المال الصناعي:

«وصارت سيطرةُ هولندا التجارية في القرن السابع عشر (حتى في مستعمراتها)، التي ضَمِنت أسواق ترويج منتجاتها النسيجية المتزايدة، وتكديس رأس المال الأولي السريع، أساسَ تطورها الصناعي. إلا أنّ معامل النسيج الإنكليزية في بداية القرن الثامن عشر استطاعت التفوّق على نظيرتها الهولندية. وبذلك انتهى تفوّق هولندا سواء في الصناعة، أو في التجارة. يذكر كارل ماركس أن قصة انهيار هولندا تجَسَّدُ في إخضاع رأس المال التجاري إلى رأس المال الصناعي؛ حيث أن السيطرة التجارية إذا كانت في مرحلة صناعة المنسوجات تحدّد السيطرة الصناعية، فإنّ السيطرة الصناعية هي التي أدّت فيما بعد إلى السيطرة التجارية». (تومانوڤيتش، المصدر السابق، ص 110).

مهما كان مقصد مركز جمعة الماجد، فقد بثّ في تاريخ الخليج العربي بالجابس نَفَساً من «ماركسية» ماركس إذا جاز التعبير. ومن ذلك حِرْص المرحوم ماركس على الإحاطة بمسألةٍ من مصادر غير كتاب السّلطان وركاكة الحاشية. بثَّ الناشرُ، صاحب «مجموعة جمعة الماجد القابضة ش. ذ. م. م.»، نَفَساً ماركسياً في تاريخ الخليج انتفع به الغويدي وهو يرتّب بالتطبيق الخلّاق مفهوماً للمشيخة البحرية فخَّخَ به مفهوم «القرصنة» الإنجليزي. ولم يكن مفهوم «القرصنة» في تقديره من بيئة الخليج، بل كان استيراداً من الخيال الغربي طمَسَ به الموظّف الإمبريالي حقيقة الأعمال الحربيّة في الخليج ضمن أيديولوجية للسيطرة تصبح بها شركةُ الهند الشرقية؛ الشركة المسلّحة ببراءةٍ من بريطانيا العظمى، صاحبةَ حقٍّ في التجارة الشرعية، وأهلُ الخليج، «القواسم» وحلفاؤهم ومنافسوهم، محترفي «قرصنة» لا يشفون ممّا بهم سوى بالإخضاع الدموي. هذا بينما وقَعَت هذه الأعمال الحربيّة البحريّة ضمن سياق يَقبَل الفحص، كما اقترحت الدكتورة تومانوڤيتش «من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية تَدخُل في إطار طبيعة المعيشة في حوض الخليج وصراع القوى والكيانات السياسية». وانتهى الغويدي بهذا المفهوم الخلّاق إلى أنّ رحمة بن جابر كان صاحبَ سُلطة بحرية، رجل دولةٍ عاصمتُها سفينة، استنَد في نظامه السياسي على «قدرته على التحكّم في طرق التجارة البحرية، وعلى فَرْض الإتاوات وتحصيل الضرائب من السفن العابرة». استفاد الغويدي، كما فعلت الدكتورة تومانوڤيتش، من مصادر غير، وجاءَ من مؤرّخي نجدٍ لرحمة بن جابر بنسبةٍ غير، فهو عند أهله المجاهدُ الشجاع والقائد البحري المحبُّ للدعوة الوهّابية وخدمة الدِّين، وهو عند عثمان بن عبد الله بن بشر (1795-1873)، صاحب «عنوان المجد في تاريخ نجد» (دار الملك عبد العزيز، الرياض، 1982)، المؤرّخ الذي عاصَره، نادرةُ عصره بأساً وسطوةً وشجاعةً، وهو عند الكاتب والأديب خالد بن محمد الفرج (1899-1954)، صاحب «الخبر والعيان في تاريخ نجد» (مكتبة العبيكان، الرياض، 2000)، البطلُ الأسطورة والسندباد البحري وداهية القرصنة وبطل البحار والناسك المتعبّد وصاحب «الغطروشة». لم يطّلع ماركس على «عنوان المجد» لكنْ تحوم أطيافه في سماء دُبي.

يُتبع…

Scroll to Top