أتر

نـوتـة من عِـلْـم الكُونِكا (22)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية الفنانة مروة الدولية

حفّزت حرب القرم (1853-1856)، موضوعَ شغلِ المرحوم ماركس الصحفي الذي جمَعَتْه ابنتُه البارّة إليانور في كتاب «المسألة الشرقية»، على فحص عوالم المسلمين والإسلام موضوعاً للبحث، غرضُه الأول في ذلك مقارعة الإمبريالية في ميدان الأيديولوجيا، بوصفه كاتباً سياسياً في صحيفة أمريكية مرموقة، «نيويورك ديلي تربيون». وكان أول اعتماده في هذا الشاغل، على صفيِّه «الجنرال» إنجلز، مصدره في كلّ شأن حربي. تجد القارئةُ عند إنجلز إشاراتٍ للمُؤرّخين العرب؛ فقد اطّلع على القسط الأوفر من قسم التاريخ في موسوعة شهاب الدين النويري، المؤرّخ والعالِم الأزهري (1278-1333)، «نهاية الأرب في فنون الأدب»، وحدّث نفسه بتعلُّم اللغة العربية، لكن فضّل عليها الفارسية التي أحسنها حتى قرأ فيها شعر حافظ: «ما دمتُ متورّطاً في المسألة الشرقية لعدة أسابيع، فقد قرّرتُ انتهاز الفرصة وتعلُّم الفارسية. صدّتني العربية، بعِلّة بُغضي الباطن لجميع اللغات السامية، والعلّة استحالة تحقيق أيّ تقدم في هذه اللغة من غير جهد طويل، فالعربية لغة واسعة، لها أربعة آلاف جذر، وتاريخها يعود إلى نحو ألفي إلى ثلاثة آلاف عام. تبدو الفارسية بالمقارنة لهوَ أطفال. كنتُ لأدرس كامل النحو العربي في 48 ساعة لولا صعوبة الأبجدية العربية، حيث يبدو كلُّ كوم من الحروف مثيلَ الكوم الآخر ولا تُكتب الحركات حروفاً» (خطاب من فردريك إنجلز إلى كارل ماركس بتاريخ 6 يونيو 1853 في كارل ماركس وفردريك إنجلز، الأعمال الكاملة، م 39، لورنس ووشرت، لندن، 1979، ص 341).

اشترك المرحومان كارل ماركس وفردريك إنجلز في دراسة مصدرين آخرين وقرَّظاهما: الأوّل كتاب الدكتور فرانسوا برنيير (1620-1688)، الطبيب والرحّالة الفرنسي، «رحلات في الإمبراطورية المغولية 1656-1668» (باريس، 1670)؛ والثاني كتاب ستامفورد رافلز (1781-1826)، أحد أبرز أقطاب شركة الهند الشرقية ومؤسّس سنغافورة الحديثة، «تاريخ جاوة» (لندن، 1830). بل اعتمد الصديقان رأي برنيير أنّ العامل المشترك في تاريخ الشرق، وذكر تركيا والهند وفارس، هو غياب الملْكية الخاصة للأرض الزراعية. «هذا هو المفتاح الحقيقي، حتى إلى جنة الشرق» (خطاب من كارل ماركس إلى فردريك إنجلز بتاريخ 2 يونيو 1853، في المصدر السابق، ص 334). سطّر المرحوم إنجلز فرضيات أولية في هذا الشأن من باب التساؤل، لِمَ لَمْ يَبلغ أهل الشرق شأفة الملْكية الزراعية الواسعة، ولم ينشأ وسطهم الإقطاعُ شأنَ الإقطاع الأوروبي؟.

ردّ إنجلز هذا الغياب إلى عوامل جغرافية، فقال: العلّة في المناخ مزدوج وطبيعة الأرض، بخاصّةٍ الصحراء العريضة الممتدّة عبر الجزيرة العربية وفارس والهند وبلاد التتار، فالزراعة لا تقوم سوى بالري الاصطناعي. وتحمّس فخرج مما قرأ بعموميات: «طالما قام الحكم في الشرق على ثلاثة أعمدة لا غير: (1) المالية (السلب الداخلي)، و(2) الحرب (السلب الداخلي والخارجي) و(3) الأشغال العامة اللازمة لضروريات الإعاشة». عند إنجلز تُفسِّر حقيقةُ أنّ الزراعة كانت تعتمد بالكلية على الري الاصطناعي، واقعَ تدهور الزراعة متى ما طال الخراب جداول الري وأعماله؛ فحرب تدميرية واحدة يمكن أن تقضي على أقوام وزينتهم، شاهدُهُ على ذلك أنقاض جنوب اليمن وتدْمر جنوب الأردن والبتراء السورية، وفي كلّ منها جداول مائية محفورة في الصخر كانت شرايين حضارات زراعية مهيبة.

زاد إنجلز أنّ مثل هذا الخراب «ربما كان علّة تدهور تجارة جنوب الجزيرة العربية ما قبل العهد النبوي، بل هو الشرط الذي اعتبرتَه أنت [يا كارل ماركس] محقاً أحد المنابع الرئيسة للثورة المحمدية» (المصدر السابق، ص 340). خاطرةُ المرحوم إنجلز هذه إضافةٌ على ما كان المرحوم ماركس قد استخلصه قانوناً حاكماً لتاريخ العرب واليهود، فقال: لطالما كان مدارُ الصراع بين أمم الشرق؛ هذه العلاقة العامّة بين قوم أخذوا بحياة الاستقرار وأقوام ظلّوا على الرعي والبداوة، وإنّ العصر النبوي شهد تحوّلات مُعتَبرة في سبل التجارة من أوروبا إلى آسيا، بحيث تضرَّرت مدن الجزيرة العربية بتدهور تجارتها، وقد كان لها قسطٌ كبيرٌ من التجارة مع الهند. ومن ثمّ طرح المرحوم ماركس تساؤله الذي تصدّى له أكثر من مجيب منذ أن قرأه الماركسيون العرب في المجلدات السوڤييتية: «يمكن إذن تقليص السؤال عن الدِّين إلى صيغةٍ عامةٍ سهلة الإجابة: لماذا يبدو تاريخ الشرق كتاريخٍ للأديان؟» (المصدر السابق، ص 332).

لم يقرأ المرحوم كارل ماركس تاريخ عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406)، لكنْ كان الشيخ الإزيرق ليجد في ديالكتيك الحضر والبدو، الزراعة والرعي، ما يُعزّز فرضيتَه عن دورات الصراع في المشرق وتقلّبات الشوكة بين غالبٍ ومغلوبٍ، خلا، بطبيعة الحال، شبهة الأخروية عند المرحوم ماركس، التي يقوم التاريخ بموجبها خطاً متصاعداً، ولو بتعرُّج، من نمطٍ إنتاجيّ متأخّر إلى آخر متقدّم حتى يبلغ كماله المصيري قنقر بفولاذ الضرورة في الشيوعية الغرّاء، والله على كلّ شيء قدير. فتاريخُ ابن خلدون علمانيٌّ لا يفتح الباب لهذه الغائيّة في التاريخ البشري المُعاش، وإنما يؤجّلها إلى يوم حسابٍ خارج التاريخ. وموضوع ابن خلدون كما المرحوم ماركس، هو تقصّي معنىً وقانونٍ للاجتماع البشري لا سرد وقائعه، وقعت أم لم تقع، وأفرَد لهذا التاريخ جنائيِّ الطابع نقداً يتردَّد صداه في شاغل اليوم أمام أسئلةٍ ضَجْرَى مثل سؤال «الطلقة الأولى» قليل الحيلة: «ثمّ إذا تعرّضوا لذكر الدولة نسّقوا أخبارها نسقاً، محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً، لا يتعرّضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علّة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلّعاً بَعد إلى افتقاد مبادئ الأحوال ومراتبها، مُفتشاً عن أسباب تزاحُمها أو تعاقُبها، باحثاً عن المقنع في تبايُنها أو تناسُبها» (عبد الرحمن ابن خلدون، «المقدّمة في كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، الدار التونسية للنشر، 1984، ص 32).

والدورة الصراعية عند ابن خلدون تمضي من بداوة وعصبية إلى حضر وعمران ثمّ فساد وتدهور، وقد وطّنها ما بين نمطين للمعيشة، الزراعة والرعي، وهُما عند المرحوم ماركس كما في الإشارة السابقة مدارُ تاريخ الجزيرة العربية، ومفتاحُه عنده، نقلاً عن فرانسوا برنيير، غيابُ ملكيات خاصة واسعة للزراعة على سكة الإقطاع. يقول ابن خلدون:

«اعلمْ أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش، فإنّ اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروريّ منه وبسيط قبل الحَاجيِّ والكماليّ. فمنهم من ينتحل الفلح من الغراسة والزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الشاة والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها. وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة ولا بدّ إلى البدو، لأنه متّسع لما لم تتّسع له الحواضر من المَزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك. فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم، وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجات معاشهم وعمرانهم من القوت والكنّ والدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة. (…) ثمّ إذا اتّسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضّر» (المصدر السابق، ص 165).

كتب ابن خلدون «المُقدّمة» في القرن الرابع عشر، حوالي 1377، واخترع لعلمه فيها اسماً جديداً، «علم العمران» قاعدته النموّ الاقتصادي، الذي هو دالّةٌ لتقسيم العمل، الذي هو دالةٌ لزيادة السكان، والذي يتهيّأ بتراكم الفائض عن ضرورات إعادة الإنتاج والاستقرار السياسي: «اعلمْ أن ما توفر عمرانه من الأقطار، وتعدّدت الأمم في جهاته وكثُر ساكنه، اتّسعت أحوالُ أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك كلّه ما ذكرناه من كثرة الأعمال، وما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة، بما يَفضُل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته، فيعود على الناس كسباً يتأثّلونه، حسبما نذكر ذلك في فصل المعاش وبيان الرزق والكسب، فيتزيّد الرفه لذلك وتتّسع الأحوال، ويجيء الترف والغنى، وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق، فيكثر مالها ويشمخ سلطانها، ويتفنّن في اتخاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن، وتشييد الأمصار» (المصدر السابق، ص 441). ووقع ابن خلدون في تأمّله البليغ في فلسفة التاريخ على هيكل قانون قيمة العمل، القضية التي صارت بيد ماركس مفتاحاً لإدراك باطن الرأسمالية؛ ففَصْلُ «المُقدّمة» الخامس يبدأ بعنوان «في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأنّ الكسب هو قيمة الأعمال البشرية» (المصدر السابق، ص 459).

يُفرد ابن خلدون شرحاً لهذا التقرير، لا يشذّ عن قانون قيمة العمل، سوى أنه في عربية القرن الرابع عشر التي أعجزت إنجلز: «.. فاعلمْ أنّ ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتموّلات إنْ كان من الصنائع فالمَفاد المقتنى منه هو قيمة عمله، وهو القصد بالقُنْيَة، إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصودٍ بنفسه للقُنْيَة. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أنّ العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر. وإن كان من غير الصنائع، فلا بدّ في قيمة ذلك المَفاد والقُنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصّة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فإنّ اعتبار الأعمال والنفقات فيها مُلاحَظ في أسعار الحبوب كما قدّمناه، لكنه خفيّ في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة، فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبيّن أنّ المَفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية وتبين مسمّى الرزق وأنه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسمّاهما. واعلمْ أنه إذا فُقدت الأعمال، أو قلّت بانتقاص العمران، تأذَّن الله برفع الكسب. ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن، كيف يقلّ الرزق والكسب فيها، أو يُفقد، لقلّة الأعمال الإنسانية. وكذلك الأمصار التي تكون أعمالها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشدّ رفاهية كما قدّمناه من قبل» (المصدر السابق، ص ٤٦١). فبأي آلاء ربكما تكذّبان؟.

يُميّز ابن خلدون في طبقات الكسب نسبة إلى الإنتاج، فهي عنده درجات تحت عنوان «وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه»، إما فلاحة أو صناعة أو تجارة، تتقدّمها الفلاحة، فهي «أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة»، والثانية الصناعة «لأنها مركّبة وعلمية تُصرَف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخّر عن البدو وثانٍ عنه». وأفرَد عن هذين البابين للإنتاج واستخراج القيمة بوسيلة العمل التجارةَ التي هي السبيل الثالث عنده، سبيل الحيلة: «وأمّا التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب، فالأكثر من طرقها ومذاهبها، إنما هي تحيّلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع، لتحصّل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشرعُ فيها المُكاسَبة، لما أنه من باب المُقامَرة، إلا أنّه ليس أخذ المال الغير مجاناً، فلهذا اختص بالمشروعية، والله أعلم» (المصدر السابق، 462-463).

ربما فرّط المرحوم إنجلز باستنكافه تعلّم العربية، ولكان نفَع نفسَه وصديقَه الشيخ الإزيرق. ولا يُلام المرحوم كارل ماركس كثير العيال قليل المال. صدرت أول ترجمة لأجزاءٍ من «المقدّمة» إلى لغة أوروبية في الفرنسية عام 1863، وذلك من ترجمةٍ في التركية. ثم جاءت طبعتها الحديثة الأولى عام 1857 في مطبعة بولاق (القاهرة) ثم ترجمة فرنسية كاملة عام 1863. وصدرت لأول مرة في الإنجليزية بجهد فرانز روزنتال عام 1958. عاصر المرحومان ماركس وإنجلز هذه الترجمات الفرنسية للمقدّمة، لكن لا يقوم الدليل على أنّ أياً منهما اطّلع عليها مُختصَرةً أو كاملة، وعفّة قلم المرحوم ماركس أسطورةٌ بذاتها، ما أظنُّه كان يحرم قارئةً متأخّرةً هذا الاقتران؟ وتجد قارئةُ ابن خلدون عند العلّامة نقداً حارّاً لموظّف الدولة، الجندي والشرطي والكاتب، يزيد على التبكيت الشائع على البرجوازية الصغيرة، ويَفيض حتى شكّك في رجولة زول الميري بالمَرّة، بلا ماهية بلا كلام فارغ!

يُتبع…

Scroll to Top