«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية الفنانة مروة الدولية
عابَ صاحبُ عِلْمِ «العمران»، عبد الرحمن ابن خلدون، في «المقدّمة» على الأجير عند السلطان وأجهزته مثل هذا الرزق، وقال: «الخدمة ليست من المعاش الطبيعي»، وهي حَتْحَتَةٌ باكرةٌ من العمل المأجور. وربما أسرَفَ في هذا التبخيس، مسألتُه فيه أن الأجيرَ عند السلطان خادمٌ له وتابع، فالأميرُ ينبوعُ معاشِه. وزاد أنّ المترَفين كما الأمير، يترفّعون عن مباشرة حاجاتهم أو لا يستطيعون القيام بها لما حصل لهم من التنعُّم، فيتّخذون مَن يقضي عنهم حوائجهم أجيراً. «وهذه الحالة غير محمودة بحسب «الرجولة» الطبيعية للإنسان، إذ الثقة بكلّ أحدٍ عجزٌ، ولأنها تَزيد في الوظائف والخرج وتدلُّ على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولةِ التنزّهُ عنهما». وبهذا كالَ ابن خلدون للمستأجِر كما كالَ للأجير، والأجيرُ للخدمة عنده واحدٌ من أربعة أصناف: «إما مضطّلع بأمره وموثوق في ما يحصل بيده، وإما بالعكس فيهما، وإما بالعكس في إحداهما. والأول غنيٌّ عن الرتب الدَّنيّة باضطلاعه وثقته ومُحتقِرٌ لمنال الأجر من الخدمة، لا يستعمله إلا أهل الجاه العريض، والصنف الثاني لا ينبغي لعاقل استخدامُه، فهو لا مضطلع ولا موثوق فيه. وبذلك لا يبقى سوى موثوق غير مضطلع ومضطلع غير موثوق والترجيح بين الاثنين». (عبد الرحمن ابن خلدون، «المقدمة في كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، الدار التونسية للنشر، 1984، ص 463-464).
طَعَنَ العلّامة إذن، في علاقة العمل المأجور، فهي عنده مَفسدةٌ للطرفين. تجد القارئةُ مثل هذا الطعن في علاقة العمل المأجور في مجملها، من موقع نقد حصيف لاقتصاد السوق ذاتيّ التنظيم، أو السوق الحر في عبارة أخرى، عند مؤرّخ الاقتصاد وعالم الاجتماع العظيم كارل بولاني (1886 – 1964)، وعنده مَفسدةُ هذا السوق في تسليع العمل والأرض والمال، وهذه السلع الثلاث عنده «سلعٌ وهميةٌ» لا يصحُّ عليها تعريف السلعة. «إنّ السماح لآلية السوق أن تُحدّد بمفردها مصير البشر وبيئتهم الطبيعية، حتى إن اقتصر هذا التحديد على كمّية واستعمال القدرة الشرائية، سيؤدّي إلى تدمير الاجتماع. لا يمكن في واقع الأمر إكراه السلعة المزعومة «قوة العمل» أو استعمالها بإفراط أو حتى إهمالها وعدم استعمالها دون التأثير على الفرد البشري، الذي هو مكمن هذه السلعة الفريدة. فالنظام الذي يُهدِر قوة عمل البشر يُهدِر بالمناسبة كذلك الكينونة المعنويّة المُرتبطة بهذه القوة، أي الإنسان نفسه. ومتى ما انكشف عن البشر ستْرُ المؤسسات الثقافية التي تُحيط بهم، هلكوا من شدة العوار الاجتماعي، ماتوا ضحايا للاقتلاع الاجتماعي الحاد بوسائل الانحراف والفسوق والجريمة والجوع. تنحلُّ الطبيعةُ عندئذٍ إلى عناصرها، تتدنَّس الأحياء والمِهاد، تتلوّث الأنهار، تتهدَّد السلامة العسكرية، وتتدمَّر القدرة على إنتاج الغذاء والمواد الخام» (كارل بولاني، «التحول العظيم: الأصول الاجتماعية والاقتصادية لعصرنا»، دار نشر بيكون، بوستن، [1944] 2001، ص 76). خشية بولاني إذن، كما خشية العلّامة ابن خلدون، أن ينمَسِخَ الإنسانُ بمخالب السوق الناشبة في قوة العمل بوصفه سلعةً، وينفكّ ما يُحيط بهذه القوّة المُبدِعة من جبرٍ ثقافيٍّ، فلا يَبقى بعد إهدار هذا الجبر سوى الوحشية.
مسألة بولاني أنّ السوقَ ذاتيَّ التنظيم، السوق المَطلوق، حادثٌ بغير سابقةٍ في التاريخ البشري. والأسواق التي هي موقع التبادل، بحسب بولاني، ما كانت خلا إضافةٍ عالقةٍ على الحياة الاقتصادية، فالنظام الاقتصادي كان مُدمجاً في النظام الاجتماعي لا يقوم فوقه بقهر مُستقلّ، وإنما يَخضع له، يَخضع للثقافة، ويَتماثل وأنماط السلوك وقواعد الاجتماع السائدة لا ينبتُّ عنها. بل لم يتوسّع مبدأ التبادل الذي هو مدار هذا النظام خارج هذا الإطار المحروس بالثقافة، وبالوالدين إحساناً. ويضيف بولاني أن تطوّر النظام التجاري، كما في العصور الذهبية الإسلامية وتعقيده، قد ظلّ خاضعاً لإدارةٍ مركزيةٍ شجّعت دوماً على الاعتماد على الذات داخل الأسرة الزراعية وبأوسع من ذلك، «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع»، ومثل هذا الاستقلال هو الذي خشيَ عليه العلّامة ابن خلدون من أن يتخنّث بالاعتماد على العمل المأجور. بذلك، نمَت الأسواق وقواعد تنظيمها كتفاً بكتف، لم ينفرد السوق ولم يَنطَلق، وما فكرةُ السوق ذاتيّ التنظيم سوى ردَّة جبّارة عن هذا التطور الوئيد.
فما هو اقتصاد السوق الذي خشيَ ابن خلدون على «الرجولة» من توسُّعه ليبلغ قوة العمل، وعَدَّ بولاني انطلاقتَه بغير عقال مَفسدةً عُظمى ونظاماً اقتصادياً يتحكّم فيه وينظمه ويُوجِّهه سعر السوق، ويخضع فيه توزيع السلع لهذه الآلية ذاتية التنظيم، فلا فزع ولا نجدة ولا بِر ولا إيثار؟.
يقوم مثل هذا الاقتصاد على مبدأ أول، هو أنّ كلَّ سلوك الإنسان يجري لتحقيق أكبر قدر من المال. ويفترض كذلك أنّ عرض السلع، بما في ذلك الخدمات، بسعر مُحدَّد يُساوي الطلب على هذه السلع، كما يَفترض وجود المال الذي هو محلُّ القوة الشرائية لأصحابه. بذلك، تتحكَّم الأسعار في الإنتاج، ويَعتمد ربح القائمين على الإنتاج على هذه الأسعار؛ فالأسعار تُحقّق العوائد، ويعتمد توزيع السلع المنتجة بين أفراد المجتمع على هذه العوائد. تُؤمّن الأسعار وفقاً لهذه الافتراضات وحدَها إنتاجَ السلع وتوزيعها. أما السوق ذاتيّ التنظيم، السوق المطلوق، حلم الرأسمالية الطويل، فنموذجه أنّ هدف كلِّ الإنتاج هو البيع في سوق الله أكبر، وأن كلَّ دخلٍ مَصدرُه هذه المبيعات. وبذلك هنالك أسواق لكلّ عناصر الإنتاج، سوق للسلع والخدمات، وسوق كذلك لقوة العمل، وسوق للأرض، وسوق للمال، وأسعارها على التوالي أسعار السلع، والأجور والريع والربا. الربا سعر استعمال المال، ويمثّل دَخل من يمتلكون المال مُجرّداً؛ والريع سعر استعمال الأرض، ويمثل دَخل من يبيعون الأرض؛ وأسعار السلع تُساهم في دَخل من يَبيعون أعمالهم، ودَخلهم الربح، وهو الفرق بين أسعار السلع المنتجة وتكاليف إنتاجها، موضوع الحيلة التي قال بها ابن خلدون. صار مصدرُ جميع المداخيل إذا تحقّقت هذه الشروط هو البيع في السوق. وتبلغ هذه المداخيل بذلك من السَّعة ما يكفي لشراء كلِّ السلع المنتَجة، الكَمْدة بالرَّمْدة. تدخل في تكوين السوق المطلوق شروط وافتراضات أخرى من جهة الدولة وسياستها. لا يجوز أن تتدخّل الدولة بأيِّ صورة كانت لقمع تكوين الأسواق أو تنظيمها، ولا يجوز كذلك فتح الباب لتحقيق الكسب – الدخل – بأيّ وجهٍ سوى عبر المبيعات، كما لا يجوز التدخّل بأي صورة كانت في حركة الأسعار في مقابل شروط السوق، سواءٌ أكانت هذه أسعار سلع، أم أسعار قوة العمل، أم الأرض، أم المال؛ لا حجرَ على العَرْض ولا حجر على الطلب، ولا تنظيم لأيٍّ منهما أو تدخّل، سوق لأيّ زول، لأمّك وبت أمّك.
يعقد بولاني من موقع أنثربولوجيا السوق، المقارنةَ بين صورة السوق المطلوق هذه – كما تُراود نفس الرأسمالية المُعاصِرة، وإلى نموذجها تسعى – وبين ما انعقد في التاريخ البشري من شروطٍ لتقييدِ هذه الانطلاقة؛ ويتأمَّل بتفصيلٍ في النظام التجاري، كمثل الذي كان في العصور الوسطى الإسلامية، لكن في التاريخ الأوروبي: الإقطاع في الريف، والنظم النقابية الحرفية في الحضر. وكانت قوّة العمل كما كانت الأرض في هذه النظم السابقة للرأسمالية المُعاصِرة داخلةً في تكوين النظام الاجتماعي، لا تنفصلُ عنه. فالأرض أسُّ نظم الإقطاع وقاعدة قواعدها السياسية والإدارية والعسكرية والقضائية، تَخضع من حيث الوظيفة والحال للعُرْف والقانون، وليس السوق: امتلاكها ونقلها واستغلالها وتقييدُ هذا الاستغلال وأغراضه وحقوق الملكية وحدود هذه الحقوق وأنماطها، كلّ ذلك قائمٌ خارجَ حيّز البيع والشراء ويَخضع لقواعد ومبادئ مستقلة عن آلية السوق.
كذلك قوّة العمل. لقد ظلَّت دوافع وشروط وظروف وجوائز كلِّ نشاط إنتاجيّ، تحت النظم الحرفية وكلّ نظام اقتصادي سابق للرأسمالية في التاريخ البشري، مُدمجةً في التنظيم العام للمجتمع، لا تستقلّ عنه بتجريد. وقوّة العمل بهذا المعنى ليست «سلعة» تُباع وتُشترى، وإنما «قدرة» يرعاها الاجتماع في هيئة النقابة الحرفية لضبط العلاقة ما بين الأسطى والصبيّ المُتدرّب، وعدد هؤلاء المُتدرّبين وشروط عملهم وإجازة مهاراتهم وأجورهم. وكانت مساهمة النظام التجاري، كمثل الذي عاصر ابن خلدون، هو توحيد هذه القواعد وتعميمها. ورأي بولاني أنّ النظام التجاري، وإنْ تَوسَّعَ في التسليع، لم يُهاجم التدابير الاحترازية التي تحمي هذين العنصرين الأوليَّيْن من عناصر الإنتاج – الأرض وقوة العمل – من البهدلة في السوق. وكان حرص أيديولوجيا العالَم التجاري، كما يُعبّر عنها بدرجة من الدرجات ابن خلدون، هو زيادة «العمران»، وتنمية موارد البلاد دون المساس بالتنظيم التقليدي للأرض وقوة العمل. وغضب ابن خلدون على تخنيث المستأجر وخِنَى الأجير بعضٌ من سوء الظنّ بالسوق المطلوق.
حقيقة السوق المطلوق عند بولاني، أنه تقطيعٌ لأوصال الكُلِّ الاجتماعي، مطلبُه الفصلُ بين الاقتصاد والسياسة باعتبارهما مجالَيْن للاجتماع. لكن، هذا الاستقلال للمجال السياسي عن المجال الاقتصادي تدليسٌ أيديولوجي، إذ لا يقوم أي اجتماع بغير نظام لاستقرار إنتاج السلع وتوزيعها، ومتى ما استقلّ هذا النظام عن حاجات الاجتماع غَوى. فلم يكن هنالك تحت النظم الإقطاعية أو التجارية حيّز مستقل للاقتصاد، بل تفادَى الناس في اجتماعهم هذه الغواية حتى القرن التاسع عشر، حين انعزل النشاط الاقتصادي ليصير مجالاً خاصاً بدوافع ذاتية. والحكمة في الصدود الطويل عن هذه الغواية، بحسب بولاني، هو أنّ اقتصاد السوق بهذه الصورة، لا بدّ أن يشمل كلَّ عناصر الإنتاج، بما في ذلك الأرض وقوة العمل والمال، لكنّ قوة العمل والأرض هما البشر أنفسهم والطبيعة التي منها رزقهم، وإخضاع هذين العنصرين للبيع والشراء هو إخضاعٌ لكلِّ الاجتماع لهذا المبدأ.
لنَفْيِ بولاني السلعيةَ عن قوة العمل والأرض والمال تعليلٌ. فقوّة العمل ما هي سوى النشاط البشري، أو بعبارة أخرى لحن الحياة، ولحن الحياة ليس مُنتجاً للبيع، ولا يمكن فصلُه عن النَّفَس الطالع ونازل، كما لا يمكن تخزينه أو تفريغه. أما الأرض، فتعيينٌ آخرُ للطبيعة، وهي ليست مُنتَجاً بشريّاً، لم يأتِ بها أحدهم من دار أبيه. أما المال، البِرْقِشْ، فشارةٌ للقوة الشرائية، ولا يجري إنتاجُه على الإطلاق، وإنما ينشأ عبر آلية البنوك أو مالية الدولة (المصدر السابق، ص 71-76). المال بهذا المعنى في واقع الأمر صنمٌ من وعدٍ كاللّات والعُزّى ومَناة. لا يجري إنتاج أيٍّ من هذه العناصر الثلاثة، لا قوة العمل ولا الأرض ولا المال، للبيع في السوق. لذلك، لا يقبل بولاني بتعيين هذه العناصر سلعاً، بل هي عنده «سلع وهمية»، حقيقتها غير صورتها. وأحلّ الله البيع وحرّم الربا، فما رأيك دكتور ماركس؟، دكتور ماركس، هل تسمعني؟، يبدو أن الاتصال انقطع بالدكتور ماركس لسبب فني.
قال الرئيس دونالد ترمْب في خطابه أمام الأمم المتحدة بالأمس، إن الولايات المتحدة «تحظى بالاحترام على الساحة الدولية مُجدّداً كما لم يحدث من قبل»، وأضاف أن إدارته أجرت أكبر تخفيضات ضريبية وتنظيمية في تاريخها، مما جعلها «مُجدّداً أفضل دولة على وجه الأرض لممارسة الأعمال».
يُتبع…



