أتر

تغيير المناهج التعليميّة: ارتباك مع كلّ سُلطة جديدة

في 22 سبتمبر 2025، أصدر وزير التعليم والتربية الوطنية، د. التهامي الزين حجر، قراراً بالرقم (5) لسنة 2025، بتشكيل لجنة عليا لمراجعة مناهج التعليم العام «من حيث مواكبتها للظروف العامة للبلاد ومواجهتها للتحديات الماثلة»، بجانب «تحديد مدى قدرة المناهج الحالية على ترسيخ التربية الوطنية وتدعيم الوحدة الوطنية ومكافحة العنصرية وخطاب الكراهية، فضلاً عن تعزيز ثقافة السلام ونبذ العنف».

شُكلت لجانٌ ثلاثٌ استناداً إلى القرار، لمُراجعة مناهج التعليم قبل المدرسي والابتدائي، ومناهج التعليم المتوسط ومناهج التعليم الثانوي، كلٌّ على حدة، تحت إشراف لجنة عُليا برئاسة وكيل وزارة التعليم والتربية الوطنية. تَعمل اللجان الثلاث وفق خُططها وموجّهاتها «في ترسيخ قيم المواطنة، وتعزيز الانتماء الوطني، ومحاربة مظاهر التمييز والكراهية، إلى جانب دعم ثقافة الحوار والسلام داخل المؤسسات التعليمية»، بحسب القرار.

هكذا، مع كلّ دورة سياسية جديدة، وكلّ انقلاب في نظام الحكم في السودان، يتعرّض المنهج التعليمي العام في السودان للتغيير والمحو والتنقيح، ما يُخلِّف ارتباكاً في المؤسّسات التعليمية وبين الطلاب وأولياء الأمور. فمن جدل تعريب المناهج وتنقيحها من الأسس والسياسات الاستعمارية وتعديلها لتعزيز الهوية الوطنية والثقافة السودانية بُعيد الاستقلال، إلى تحديثها وربطها بسياسات إقليمية وتوسيع السلّم التعليمي في مرحلتيه الابتدائية والمتوسطة وإدخال مواد جديدة مثل التربية الوطنية والتعليم المهني، في حقبة ديكتاتورية مايو، خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، إلى تغيير المواد بالكامل لتشمل قيماً ونزعات إسلامية ودينية متشدّدة، في عهد الإنقاذ الشمولي، خلال عقد التسعينيات، بهدف إعادة صياغة توجهات الناس وتمكين رؤية أحادية صلبة في بلد هشّ، متنوّع ومتعدّد الثقافات واللغات، ما أدّى إلى فشل ماحق في بنية النظام التعليمي برمّته، مثلما يقول خبراء تربويون تحدّثوا لـ«أتَـر». وبعد ثورة ديسمبر 2018 جُوبه تغيير المنهج التعليمي بحملات وجدل واسع اضطرّ معه عمر القرّاي، مدير المركز القومي للمناهج حينها، لتقديم استقالته أمام حكومة الفترة الانتقالية.

تغيير ضروريّ لكنه متعذّر

لقد ظلّ التعليم النظامي يعاني من الاستغلال السياسي عبر تاريخه، وظلّت مؤسّساته الرسمية تشكلّ بيئة سياسية وأدوات للاستقطاب من قبل الأحزاب السياسية.

يرى الخبير التربوي والأستاذ السابق بكلية التربية، جامعة الخرطوم، الدكتور عمر هاشم إسماعيل، في حديثه لـ«أتَـر» أنّ المنظومة التعليمية في السودان، بمختلف عناصرها، خاصة المدخلات والمناهج الدراسية، تحتاج إلى إعادة بناء، بل وتطوير وتحديث. ويضيف معلّلاً: «المناهج الحالية لا تعكس الواقع الجديد ولا ترتبط به، فالحرب التي اندلعت في أبريل 2023 دمرت البنية التحتية وعطّلت التعليم ومناهجه الدراسية: مدارس مغلقة ومدمّرة أو غير صالحة للدراسة، ونقص في المعلمين وفي تدريبهم، ونزوح، وتوقّف الخدمات الأساسية، فضلاً عن التحديات الصحية والنفسية، والأمن». وينبّه إلى أنّ تحديث المناهج يمكّن المنظومة التعليمية من الاستجابة لهذه الظروف، بتصميم مناهج تراعي التنوّع الجغرافي والثقافي وتكون جزءاً من عملية الإصلاح الشامل، «بدلاً من أن تكون جامدة وغير ذات صلة»، على حدّ تعبيره.

لكن في الآن ذاته، يدرك الدكتور إسماعيل حجم التحدّيات والمحاذير التي تواجه عملية تغيير المناهج في الوقت الحالي، لأنّ الحرب الطاحنة والنزاعات الجارية والصراع على السلطة، تجعل من تشكيل أيّ لجان رسمية للقيام بعمل من هذا النوع أمراً عسيراً، إذ إنّ لجان تغيير المناهج تحتاج إلى متخصّصين، وموارد لتدريب المعلّمين، وطباعة الكتب، وتقييم الفاعلية، والتغلّب على التفاوتات بين المناطق. ويضيف: «إذا لم تكن الموارد متوفّرة أو كانت موجّهة إلى أمور أخرى، فالمشروع قد يفشل أو يُنفَّذ على نحو غير متوازن».

ويرى إسماعيل أنّ هناك أولويات أخرى أشدّ إلحاحاً، مثل الأزمة الإنسانية في نقص المياه والغذاء والخدمات الصحية التي تتطلب موارد ضخمة. ويفصّل قائلاً: «برغم أهمية التعليم، قد يرى البعض أن تغيير المناهج ليس أولوية ملحّة خلال الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد، وأنّ من الأفضل التركيز أولاً على ضمان استمرار العملية التعليمية كما هي، نظراً إلى عدم إمكانية تحديثها حالياً».

وفي غياب الاستقرار السياسي الكافي، يخشى إسماعيل، أن يُستخدم تغيير المناهج لأغراض سياسية بدلاً من أن يكون لأغراض التربية والتنمية المثمرة. ويردف قائلاً: «لقد ظلّ التعليم النظامي يعاني من الاستغلال السياسي عبر تاريخه، وظلّت مؤسّساته الرسمية تشكلّ بيئة سياسية وأدوات للاستقطاب من قبل الأحزاب السياسية».

بدَورها ترى فاطمة الطيب، وهي معلّمة بالمرحلة الثانوية بولاية نهر النيل، في حديثها لـ«أتَـر»، أن الغرض من تغيير المناهج يبدو سياسياً بالدرجة الأولى، في ظلّ استمرار الحرب، وانهيار كثير من أعمدة العملية التعليمية، «مثل تحطّم البنية التحتية من مدارس ومبانٍ تخصّ الوزارة والإدارات المختلفة، إضافة إلى فقدان نسبة مقدّرة من التلاميذ مقاعدهم بسبب الحرب، والنقص الحادّ في الكتاب المدرسي وغير ذلك من الوسائل التعليمية المهمة، وعدم تمتّع المعلّم بحقوقه المادية والأدبية وضعف تأهيله، وهي أولويات مهمّة يتعيّن أن تسبق تغيير المناهج». وتتمنى أن يجيء تغيير المناهج في مصلحة الطالب، وأن ترتبط بالواقع، وأن تكون لغتها مألوفة، وأن تكون المواد متناسقة وغير متشعبة.

وتصف فاطمة المنهج الحالي بأنه «سطحيّ ومباشر في كثير من المواد، وضعيف اللغة عموماً». تقول: «ينبغي أن تُزرع القيم الوطنية والأخلاقية العامة في المنهج بطريقة تعليمية غير مباشرة؛ من خلال قصص وطرق فنية وإبداعية تعليمية أخرى جاذبة للأطفال».

حبرٌ على ورق

يذهب عصام بابكر فايت إلى أنّ التحدي الفعلي هو استعادة الحد الأدنى من البنية التحتية وتمويل العملية التعليمية، وإلا كان أيّ تعديل للمناهج في غياب بيئة تعليمية مستقرّة «حِبراً على ورق». 

يكشف حسبو إبراهيم، من كلية التربية جامعة النيل الأزرق، في ورقة بحثية طالعتها «أتَـر»، عن علاقة وثيقة بين مناهج التعليم العام في السودان والتحوّلات السياسية وتمكين الأيديولوجيا الحزبية (في المدة من 1969م إلى 2019م). ووجَد أن المسؤولين عن التعليم يَميلون عند تغيير السياسات التعليمية إلى الأيديولوجيا التي تحكم مسيرتهم السياسية، وأنّ المناهج تفتقر إلى فلسفة تربوية قومية واضحة تعكس مبادئ التربية السودانية، لذلك خرَّجت أجيالاً ونخباً فكرية وسياسية غير متجانسة. وأوصت الورقة البحثية بتحديد فلسفة تربوية سودانية بعيدة عن الأيديولوجيا الحزبية وفلسفاتها التربوية الخاصة بها.

ويذهب عصام بابكر فايت، خبير تربوي عمل سابقاً في إدارة التعليم الثانوي بولاية الخرطوم، في حديثه لـ«أتَـر»، إلى أنّ التحدي الفعلي هو استعادة الحد الأدنى من البنية التحتية وتمويل العملية التعليمية، وإلا كان أيّ تعديل للمناهج في غياب بيئة تعليمية مستقرّة «حِبراً على ورق». ويرى أنّ الأولوية العاجلة هي إيقاف الحرب، ومن ثم إعادة تشغيل المدارس ودفع رواتب المعلّمين، ثمّ لاحقاً يمكن التفكير في مراجعة شاملة للمناهج.

شهدت بداية سبعينيات القرن الماضي ما عُرف بـ«منهج محي الدين صابر»؛  الذي يَعده بابكر مُحاولةً لتغيير المنهج اتّسمت بالعجلة وارتبطت بدوائر إقليمية، على حدّ قوله، وقد اهتمت بتبنّي التعليم الأساسي الموحّد، وإدخال إصلاحات ليست في صميم المناهج، لكنها عملت على تغيير المراحل الدراسية في ما سُمّي السلّم التعليمي. ومن ثمّ استمرّ التغيير والتنقيح في المناهج ردحاً من الزمان، حتى جاءت حقبة الإنقاذ، التي اتسمت المناهج فيها بتركيز أيديولوجيّ واضح، إذ أُدخلت مواد تعكس توجّهاً إسلامياً سياسياً، وأحياناً على حساب الكفاءة الأكاديمية والتنوّع الثقافي. ويستطرد بابكر قائلاً: «بعد ثورة ديسمبر المجيدة، أسنِدت إدارة المناهج بوزارة التربية والتعليم إلى دكتور عمر القرّاي، وقد سعى لتحديث المناهج وإعادة الاعتبار للتعدّدية الثقافية والفنية، لكنه واجه مقاومة سياسية واجتماعية شديدة، ما أدّى إلى تجميد كثير من مقترحاته».

ويُنبّه بابكر إلى أنّ تغييرات المناهج في السودان لم تكن يوماً بمنجاة من الصراع السياسي، فكلّ حكومة تسعى لطبع رؤيتها في الكتب المدرسية، ما جعل الاستقرار التعليمي هشّاً، وأضعف جودة المخرجات التعليمية، وقلّل من قدرة الخريج السوداني على المنافسة في سوق العمل الإقليمي.

ويختم قائلاً: «إنّ الإصلاح التدريجي في المنظومة التعليمية أمرٌ لا بدّ منه، ويكون عن طريق مراجعة شاملة للتعليم العامّ عبر هيئة مستقلّة مهنية بعيدة عن التغيير السياسي الدَّوري، مع مشاركة واسعة من الخبراء التربويين وأولياء الأمور والمجتمع المدني».

وفي ظلّ خطاب الكراهية والانقسامات، يؤكد بابكر أنه يَتعيّن أن تركّز المناهج على التربية الوطنية، وقبول الآخر، وبناء ثقافة السلام، لكن ذلك يتطلّب استقراراً مؤسّسياً وتمويلاً حقيقياً، لا قرارات وزارية مجرّدة، مع ضمان استقلالية العملية التعليمية عن جميع التجاذبات السياسية التي رافقت المحاولات السابقة، وضرورة التعرّف على تجارب العالم المختلفة.

Scroll to Top