أتر

نـوتـة من عِـلْـم الكُونِكا (25)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية الفنانة مروة الدولية

وُلدَ العالِم الفحل كارل بولاني، صاحب «التحوّل العظيم: الأصول الاجتماعية والاقتصادية لعصرنا» (دار نشر بيكون، بوستن، [1944] 2001)، في العام 1886 في ڤيينا النمساوية، بعد عامين ويزيد من وفاة الدكتور كارل ماركس في دار إيجار في كنتش تاون «المتوحّشة» في طرف قصيّ من العاصمة البريطانية لندن. إنْ كان المرحوم كارل ماركس قد خرج من طحن ثورات 1848؛ فقد قامت تجربة بولاني بحَرْبَيْن كونيَّتَيْن: الأولى خدم فيها ضابطَ خيّالة، والثانية عاشَ تاريخَها أستاذاً نازحاً في الولايات المتحدة الأمريكية. شرَع بولاني في شُغْل كتابه الثقة وهو في إنجلترا، التي جاءها في 1933 هارباً من الفاشية بعد أن صعَدَ حزبُها إلى السُّلطة في ألمانيا، وطغى نفوذها في النمسا حتى جرى «الدمج» بين القُطرين في ألمانيا واحدةٍ عُظمى عام 1938، وذلك بإرهاب أنصار الزعيم النمساويين ومؤامرات حزبية، ثمّ تهديد مباشر بغزوٍ «كَسِْحْ مَسِحْ». لم يَسْطَع كتاب بولاني حين نشره، لكن جاء زمانُه بالانقلاب النيوليبرالي أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، بحِرابٍ طوال شلَّعَت بها مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة، خوالدة دولة «الرعاية الاجتماعية»، وما كان استقرّ من تعاهُدٍ على ضبط قوى السوق بعد الحرب العالمية الثانية، خوفاً من تكرار الأزمات الاجتماعية التي كانت أول بواعثها. بَلَغَتنا هذه الحِرَاب الطوال باكراً في صيغة «روشتة» صندوق النقد الدولي، التي أعلن عنها الوزير بدر الدين سليمان في خطاب الميزانية لعام 1978-1979 تحت عنوان «برنامج التركيز الاقتصادي والإصلاح المالي».

كانت بشارةُ «البرنامج» الأولى، قرارَ الوزير عن الصندوق، خفضَ سعر صرف الجنيه السوداني بنسبة 13% في مقابل الدولار الأمريكي لأوّل مرة منذ نشأة الجنيه عام 1957؛ القرار الذي أنهى عهداً طويلاً من الاستقرار النقدي، ودشّن آخرَ من الجري والطيران وراء سعر الصرف «الموازي»، الذي أنشأه بِيَدٍ غير مرئية القرارُ نفسُه وعناوينه المتكرّرة، وما جاء تحت لافتة «برنامج إصلاح السياسات المتعلّقة بالنقد الأجنبي والتجارة الخارجية» في مؤتمرٍ صحفي عقده وزير المالية في 15 سبتمبر 1979، وأهمّها: (1) توحيد سعر الصرف الرسمي للجنيه السوداني بتضمين ضريبة التحويل وحافز المتحصلات؛ (2) إلغاء السعر التشجيعي لتحويلات المغتربين؛ (3) تطبيق سعرين للجنيه السوداني، أحدهما رسمي ويُطبَّق على الصادرات والواردات والتحويلات في الكشفين المرفقين، والآخر تشجيعي ويُحدَّدُ سعرُه حسب مؤشرات السوق، يُطبَّق على الصادرات والواردات والتحويلات بخلاف المضمّنة في الكشفين المرفقين؛ (4) السماح للمقيمين وغير المقيمين من السودانيين وغيرهم بفتح حسابات جارية بعملات أجنبية، ومنح السودانيين منهم أو الحاصلين على رخص استيراد أولوية لاستخدام أرصدتهم في تمويل عملياتهم؛ (5) يُسمح بشراء وبيع العملات الأجنبية لدى البنوك المرخّص لها بالأسعار الواقعية المرنة، وقد تحدّد سعر الدولار بـ 80 قرشاً سودانياً لهذه العمليات؛ (6) تُلغَى القيود  الحالية على إدخال وتحويلات العملات الأجنبية إلى داخل وخارج القطر وفقاً لإجراءات وضوابط مرنة واقعية. (الدكتور علي عبد القادر علي، «من التبعية إلى التبعية: صندوق النقد الدولي والاقتصاد السوداني»، [1990]، 2021، ص 44-45).

تكرَّر تخفيض سعر الصرف على عهدِ مايو الرِّدَّةِ وفي العهود التالية، من 2.87 دولار مقابل الجنيه السوداني في 1978 إلى 40 سنتاً عام 1985. وفي كل مرّة كانت النتيجة «شلب» ما تحقّق من «تراكُم» بالعملة المحلية لمصلحة الدولار، أي نقل الثروة «هوبلي» من السودان إلى خارجه، وبعث قلق دائب في السوق يقضّ مضجع المستثمر صاحب رأس المال، والمنتج والمستهلك على السواء، لا يعرف بأيّ سعر يُصبح، متى أمسى، وبأيٍّ يُمسي إن أصبح. تحقَّقَتْ للصندوق السيادة على الاقتصاد وأخَذ بخناق المستثمرين والمنتجين والمستهلكين على السواء في قرارات «البرنامج الاقتصادي الأساسي»، التي أعلنها الرئيس نميري يوم 9 نوفمبر 1981، وتستحقّ النقل بإسهاب رغم طولها، فهي في واقع الأمر قسطٌ عظيمٌ من بخرة «الكونكا» التي كان يخشى بولاني أن تفتك بالاجتماع متى ما انحلّ كُلُّ قيدٍ عن «انطلاقة» السوق في البشر والحجر والأرزاق:

«(1) يُوحَّد سعرُ الصرف للجنيه السوداني، بحيث يصبح سعر الدولار الأمريكي تسعين قرشاً سودانياً؛ (2) تعلن وزارة المالية حوافز لتشجيع الادخار وتعبئة الموارد الوطنية؛ (3) يُعدَّل قانون الجمارك وقانون رسم الإنتاج بحيث تُلغى أو تُخفض رسوم الإنتاج على الزيت والطعام والصابون والأحذية والغزل والمنسوجات والملابس الجاهزة وتُزاد الرسوم الجمركية على السلع المنافسة للصناعة المحلية وسلع الاستهلاك الكمالية، كما يُفرَض رسم إضافي على الواردات قدره 10% من القيمة؛ (4) يُسحَب الدعم فوراً من البترول ومشتقّاته ويتم سحب الدعم تدريجياً خلال ثمانية أشهر من القمح والسكر بعد ضمان وفرته وحسن توزيعه ويُفتح باب الاستيراد للسكر والدقيق للقطاع الخاص والقطاع العام على السواء؛ (5) يُخفّض الإنفاق الحكومي خلال الجزء الباقي من السنة المالية بما يُحقق وفراً قدره عشرين مليوناً من الجنيهات وعلى أساس انتقائي.. وفي هذا المقام يُخفّض عدد البعثات الدبلوماسية الخارجية ونفقاتها بكل أنواعها؛ (6) تُلغى أو تُخفّض الرسوم الجمركية على صادرات الفول والسمسم والكركدي والزيوت والضأن والماشية بما يُشجِّع الصادرات ويحفز الإنتاج؛ (7) تُعدّل رسوم الانتقال وبدل الميل للعاملين بالحكومة والقطاع العام بما يتناسب وارتفاع تكلفة المواصلات؛ (8) يُرفع الحدُّ الأدنى للإعفاء من ضريبة الدخل الشخصي إلى 1200 بدلاً من ألف جنيه على أن يستفيد من الإعفاء جميع العاملين بما في ذلك من تتجاوز مرتباتهم الحد الأدنى للإعفاء».

يتصل هذا الهذيان الوثني بعهود من عالم «سوف»، إجراءات «صارمة» و«ضابطة» و«لازمة» و«شاملة» تشرع السلطات مباشرة في تنفيذها، لكن لا يعلم «الرئيس» ولا موظفوه ما هي بالضبط وكيف تنفذ وبيد مَن، على مدى البيروقراطية الحكومية وعمقها، من مكاتب القصر حتى شفخانة في كلبس أو أم صميمة:

«(9) تُتّخذ إجراءات صارمة للسيطرة على مستويات التسليف من الجهاز المصرفي للحكومة والقطاع العام والقطاع الخاص.. ولتصفية المتأخرات بجميع الوسائل القانونية بما في ذلك البيوع الجبرية؛ (10) تُتّخذ الإجراءات التشريعية والتنفيذية والقضائية اللازمة لتحقيق الانضباط المالي الكامل وعلى الأخص حظر التصرف في أموال المعاشات وصندوق التوفير واستقطاعات الضرائب والإيرادات الحكومية لغير الجهة المصدق لها قانوناً بذلك؛ (11) تدفع المؤسسات والهيئات العامة الرابحة أرباحها سنوياً ابتداءً من العام المالي السابق للخزانة العامة على أن تخصص وزارة المالية الاحتياطي اللازم للتجديد والإحلال والتطور؛ (12) تُتخذ الإجراءات اللازمة للسيطرة على المديونية الخارجية والتصرف في القروض والمنح الاستهلاكية؛ (13) تُجرَد جميع المخازن العامة في الدولة والمؤسسات والهيئات، وتُتخذ الإجراءات اللازمة للتصرف في الفائض ويُصرف عائد البيع بالطريقة التي يقررها رئيس الجمهورية؛ (14) تُلغى مؤسسة العقارات ويُوضع برنامج خاص للاستغلال الأفضل لممتلكات الدولة العقارية؛ (15) يُوضع برنامج كامل للإصلاح الشامل لمؤسسات وهيئات وشركات القطاع العام والتأكد من تنظيم القطاع العام وإدارته على أفضل النظم التجارية؛ (16) يُطبّق برنامج استعادة التكاليف والحساب الفردي وفض الشراكة في الزراعة المروية ابتداءً من الموسم الجاري 1981/1982؛ (17) يُوضع برنامج تفصيلي مُتجدِّد للاستثمار العام يَقتصر على مشروعات التعمير، وتكملة المشروعات قيد التنفيذ ومشروعات البنية الأساسية والطاقة والمرافق العامة وتركيز الخدمات الاجتماعية».

وبطبيعة الحال، تصدر متى تيسر قرارات فوق القرارات من مركز القرار وقلبه لتنفيذ ما ورد من قرارات: «(18): تصدر رئاسة الجمهورية القرارات اللازمة لوضع هذا البرنامج موضع التنفيذ» (المصدر السابق، ص 49-52).

تتعرّف القارئة في سطور برنامج نوفمبر 1981 على عناصر «روشتة» دائمة لصندوق النقد والبنك الدوليين، كما «حبّة السَّلْفا» التي تقدّمها الشفخانة تلك، دواء لكل داء. وهي عناصر «أيديولوجية» لا تقبل الطعن أو الجرح والتعديل، موضوعها ألا سيادة لسلطة حكومية أو بنك مركزي على سوق داخلي أو عملة محلية. السيادة الحقة للمركز الإمبريالي، الولايات المتحدة والفائزون في أوروبا الغربية، وحساب ربحهم وخسارتهم. وكل ميدان آخر لا يجوز أن يقف عليه حارس، حرث متاح لهذه القوى ووكلائها، ببشره وحجره وماله. لهذه العناصر اسمٌ أذاعَهُ الاقتصاديُّ البريطانيُّ جون وليامسون في 1989 والاتحاد السوفييتي يودع الفانية «إجماع واشنطن»، العاصمة الأمريكية والمدينة المقر لكل من الصندوق والبنك. والرابطة أن «إجماع واشنطن» هو عند وليامسون رد فعل المركز الإمبريالي على دعوى وتجربة دور قيادي للدولة في التصنيع وإحلال الواردات، مشروع كلّ دولة استقلت عن الاستعمار، «الروشتة» المضادة إن صحَّ التعبير. جاء وليامسون بهذه العبارة في ورقة لمؤتمر أكاديمي بحث فيها ما استجدَّ في أمريكا اللاتينية من سياسات أطاحت بتعاقد «التصنيع» و«إحلال الواردات» الذي ساد في خمسينيات القرن الماضي. عدَّدَ وليامسون في ورقته سياساتٍ عشرٍ هي بعدسة بولاني أركانُ وثنيةِ السوق كما بشَّر بها بدر الدين سليمان وعبد الرحيم حمدي وإبراهيم البدوي وعبد الله حمدوك وجبريل إبراهيم: (1) تقليص الصرف الحكومي؛ (2) إعادة ترتيب أولويات الصرف العام؛ (3) الإصلاح الضريبي؛ (4) تحرير نسب الفائدة وسياسات النقد؛ (5) تحرير سعر الصرف؛ (6) تحرير التجارة؛ (7) رفع القيود عن الاستثمارات الأجنبية؛ (8) بيع وخصخصة مؤسسات ومنشآت القطاع العام؛ (9) تحرير حركة السلع والبضائع والخدمات من القيود والنظم؛ (10) تأمين حقوق الملكية (جون وليامسون، «تاريخ قصير لإجماع واشنطن»، ضمن نارسيز سيرا وجوزيف ستيغليتز (محرران)«إجماع واشنطن كرة أخرى»، دار نشر جامعة أكسفورد، لندن، 2008، ص 16-17).

كان شاغل المرحوم ماركس «الاستغلال» في نمط الإنتاج الرأسمالي، أما بولاني فكان شكه الأول في «السوق» نفسه آليةً للاجتماع، وراعه تجدُّد وثنية السوق التي ظن مخطئاً أن أصنامها قد تحطّمت بالكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين والحرب العالمية الثانية التي خرجت من رحمه. ويُقرأ كتابه الثقة بوصفه بياناً طويلاً ضد هذه الوثنية. لكن بين الاثنين مسافةٌ؛ إذ ظل بولاني على شك في «علمية» و«موضوعية» كل علم، فقَبل من ماركس نقد الرأسمالية، لكن لم يرضَ منه إلغائية الجبرية، الدوحة «الشيوعية» التي تنتظر البشرية في نهاية التاريخ حتماً ولو كره الكافرون، لكن أقرأ بولاني رسالة الشيخ «الإزيرق»، المرحوم كارل ماركس، إلى المناضلة الشابة ڤيرا زاسوليش ابنة قرية ميخايلوفكا؟

يُتبع…

Scroll to Top