أتر

من حربٍ إلى بحرٍ لا يرحم: سودانيون يبحثون عن نجاةٍ مؤجلة في المتوسط

تعرَّض قاربٌ يحمل على متنه مهاجرين، معظمهم من السودان، إلى محنة وسط مياه البحر الأبيض المتوسط. وبعد خمسة أيام في عرض البحر دون طعام أو ماء، تمكنت سفينة الإنقاذ «هيومانيتي 1»، التابعة لمنظمة SOS Humanity الألمانية، من العثور على القارب وسط أحوالٍ جوية عاصفة. نُقل 39 شخصاً إلى برّ الأمان، بينما لقي اثنان منهم على الأقل حتفهم، ولا يزال ما يربو على سبعة آخرين في عداد المفقودين.

في ظهيرة الثالث من أكتوبر، رصد طاقم «هيومانيتي 1» القاربَ على بُعد نحو 60 ميلاً بحرياً جنوب جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. كانت عملية الإنقاذ في غاية الصعوبة؛ إذ بلغت الأمواج ارتفاع ثلاثة أمتار، فدفعت القارب المطاطي المُتهالك بعيداً عن السفينة مراراً، ما جعل الاقتراب منه شبه مستحيل. وبفعل الخوف من البحر الهائج والإرهاق الشديد، أُصيب بعض الركاب بالذعر. سقط أحد الرجال في الماء ولم يتمكّن الفريق من إنقاذه.

في الرابع أكتوبر، تمكّن الطاقم من إنقاذ شخصين، ليبلغ عدد الناجين 41 شخصاً، من بينهم امرأتان وطفل صغير وثمانية قُصَّر غير مصحوبين بذويهم. أغلب الناجين جاءوا من السودان، ولا سيما من دارفور، إضافةً إلى آخرين من الخرطوم ومدني. كان بينهم أيضاً مُهاجرون من غامبيا ومالي وإريتريا، حيث الفقر والعسكرة والعنف جزء من الحياة اليومية.

شهدنا زيادة ملحوظة في أعداد السودانيين بين من ننقذُهم، خاصةً خلال الأشهر الأربعة الماضية.

أفاد الناجون بأنهم بدأوا رحلتهم البحرية في 29 سبتمبر من مدينة زوارة الساحلية في شمال غرب ليبيا، المعروفة بانطلاق قوارب الهجرة منها عبر الطريق الأوسط في البحر المتوسط نحو إيطاليا. ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، فقد لقي أكثر من 25,500 شخص مصرعهم أو فُقدوا في هذا الطريق خلال العقد الماضي، ما يجعله أخطر ممرٍّ للهجرة في العالم. كما تُعرف قوات خفر السواحل الليبية، الممولة من الاتحاد الأوروبي والمكوَّنة من جماعاتٍ مسلحةٍ رسمية وغير رسمية، بانتهاكاتها العنيفة ضد المهاجرين، إذ تعترض القوارب وتعتقل المهاجرين وتُعيدهم قسراً إلى ليبيا، كما أظهرت كثيرٌ من التقارير.

تقول زينة ناصر، الوسيطة الثقافية على متن سفينة «هيومانيتي 1»: «شهدنا زيادة ملحوظة في أعداد السودانيين بين من ننقذُهم، خاصةً خلال الأشهر الأربعة الماضية». ويؤكد لوكاس كالدنهوف، أحد أعضاء فريق البعثة على متن السفينة: «في الشهرين المنصرمين فقط، عَبَر البحر الأبيض المتوسط عددُ أشخاصٍ يفوق العدد الذي قد سُجِّل في النصف الأول من العام بأكمله». وقد تجلَّى هذا الاتجاه المأساوي في حوادث وقعت مؤخراً؛ ففي مطلع سبتمبر، غرق قاربان يحملان لاجئين سودانيين قبالة طبرق شرقي ليبيا، نجم عن غرقهما مقتل ما لا يقل عن 111 شخصاً.

ومِن بين من أُنقذوا في الثالث من أكتوبر، مَنْ فرّ من أحدث جولات القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في دارفور، خاصة في نيالا والفاشر، واتجهوا مباشرة نحو الساحل في محاولة لعبور البحر. بينما كان آخرون يقيمون في ليبيا منذ فترة طويلة، لكنهم اضطروا إلى المغامرة بالبحر بسبب تصاعد العنف ضد المهاجرين، خاصةً الأفارقة من ذوي البشرة السوداء.

روت إحدى الأمهات الناجيات برفقة طفلتها البالغة سنتين، إنها قرَّرت الفرار من ليبيا فوراً بعد سلسلة من المداهمات والهجمات الأخيرة ضد المهاجرين. وأضافت بأسى أنها اضطرت إلى ترك زوجها وابنتها ذات الثلاث سنوات خلفها بسبب ضيق ذات اليد، على أمل أن يتمكَّنَا من اللحاق بهما لاحقاً.

وبحسب شهادات الناجين، كان القارب قد اقترب كثيراً من جزيرة لامبيدوزا حين نفد الوقود وتوقف المحرّك. حاول عدد من الركاب السباحة نحو الشاطئ طلباً للمساعدة، لكن القارب انجرف بعيداً إلى عرض البحر من جديد، ولم تؤكد أيُّ تقارير وصول أحدٍ منهم إلى اليابسة. وقال آخرون إن مزيداً من الأشخاص سقطوا في البحر أثناء الرحلة.

لو بقينا يوماً آخر في البحر لمات الجميع.

كان الناجون في حالة حرجة. أُصيب كثيرون منهم بحروق جلدية خطيرة بسبب اختلاط وقود القارب بالمياه المالحة لفترات طويلة، إضافة إلى انخفاض شديد في حرارة الجسم وجفاف حاد. متحدثاً لمراسلة «أتر»، قال شاب من نيالا وهو يتنفس بصعوبة: «لو بقينا يوماً آخر في البحر لمات الجميع».

انهار عدد من الناجين فور صعودهم إلى السفينة. حاول خفر السواحل الإيطالي تنفيذ عملية إجلاء طبي عاجلة، لكن الأمواج العاتية حالت دون اقتراب السفن من بعضها بعضاً؛ كما اضطرّت مروحية إنقاذ قادمة من مالطا إلى إلغاء مهمتها بسبب تدهور الأحوال الجوية. وفي لحظةٍ حرجة، عَلِقَتْ أسلاك الطائرة المروحية في سارية السفينة، وكان من الممكن أن تتحول الحادثة إلى كارثة، لولا أن أحد أفراد طاقم «هيومانيتي 1» تَسلَّقَ السارية بسرعة وتمكن من تحرير الكابل.

واصل الفريق الطبي عمله بلا توقف على متن السفينة، لكنّ رجلين من بين الناجين كانا في حالة ضعف شديد، وفشلت جميع محاولات الإنعاش، ليعلن الطبيب وفاتهما.

وفي وقتٍ متأخر من الليل، نجحت محاولة إجلاء ثانية نفذها خفر السواحل الإيطالي، نُقل خلالها خمسة أشخاص إلى لامبيدوزا لتلقي العلاج العاجل؛ كما انهار آخرون في السفينة لكن جرى إنعاشهم على متنها.

وفي الخامس من أكتوبر، أي بعد أقل من 48 ساعة من عملية الإنقاذ، نزل جميع الناجين في ميناء بورتو إمبيدوكلي في صقلية، حيث جرى نقلهم إلى مركز استقبال محلي لاستكمال إجراءات التسجيل وتلقي الرعاية.

Scroll to Top