أتر

عرض كتاب: «الرّاحلون هُمُو: الماركسية السودانية» لـعبد الله علي إبراهيم

«نأيتُ بنفسي بعيداً عن جسدي».

– فرانز فانون

ما برح عبد الله علي إبراهيم يزّين جبين الكتابة بذكاء لِمَا يقرب من سبعة عقود، يُفتِّت اللغة تفتيتاً، ويعمل فيها نحتاً وتوليداً، ويصنع منها عوالم سردية باهرة. وبلُغةٍ متوغّلة في عربية أهل السودان وتراثها، يُبحر في مختلف أجناس الكتابة باللغتين العربية والإنقليزية، تشهد على ذلك كتبه ومقالاته المُثيرة وإنتاجه الغزير، من بحثه الرائد «الصراع بين المهدي والعلماء» (1968 الخرطوم، 1995 القاهرة)، وصولاً إلى هذا المصنّف الذي نحن بصدد عرضه «الرّاحلون هُمُو: الماركسية السودانية» (2025)، وبينهما بحوث علمية ودراسات وعشرات الكتب في التاريخ والسياسة والنقد الأدبي وسوسيولوجيا اللغة والخطاب بل وتحقيق التراث، إذ حقّق في مطلع السبعينيات «مذكرات عبد الكريم السيد»، أحد رموز حركة 1924، وقبلها بالاشتراك مع أستاذه عون الشريف قاسم حقّق أشعاراً غير منشورة للحاردلو، وحقّق أيضاً «جامع نسب الجعليّين» (1981)، وأصدر ثلاثة نصوص مسرحية «الجرح والغرنوق» (1981) و«السكة حديد قرّبت المسافات، وكثيراً» (1981) و«تصريح لمزارع من جودة» (1991)، ومجموعة قصصية واحدة. ومن أجمل ما كتب في عُرف كاتب هذه السطور «أُنْس الكتب» و«عبير الأمكنة»، إذ إنهما يقفان شاهدين على «ثورة» عبد الله علي إبراهيم في طرائق الكتابة والتأليف في السودان.

الرّاحلون هُمُو: الماركسية السودانية

هل هي سيرة ذاتية فكرية؟ سيرة ناشط وحركيّ لبضعة عقود في مؤسّسة الحزب الشيوعي؟ أم أنها خليطٌ من هذا وذاك؟ يحيل العنوان الرئيس «الرّاحلون هُمُو»، إلى بيت أبي الطيب المتنبي: «إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قَدَرُوا ألا تُفارقهم فالرّاحلون هُمُو»، فهل القارئ موعود بتراجم قصيرة لرموز حركة اليسار؟ ربّما. وربّما خليطٌ من هذا وذاك. ويبقى أنّ ما نُعوّل عليه هنا هو النصّ الجمالي، طرائق الكتابة والتأليف المفتوحة على التاريخ والمجتمع والدولة. وتجدر الإشارة إلى أنّ عبد الله علي إبراهيم قد أصدر «شِبه» سيرة في عام 2011 بعنوان «سنوات في دهاليز الحزب الشيوعي»، وقد أتى على ذكرها في هذا الكتاب.

وإن كانت هذه سيرة سياسية وفكرية، إلا أنّ «الماركسية السودانية»، ورقوقها وصحائفها، قد جمعت ذلك كله، بأسلوب متميّز يحذقه عبد الله، إذ يُطوّع لغة اليومي والمعيشي ويُعيد صوغها وفقاً للسياق ووفقاً لزمن الكتابة، فتظفر المفردات والتراكيب بالغةُ التعقيد بحياة جديدة، وتصل إلى قُرّائه المُحتمَلين كلماتٌ «راقصةٌ، ويهتزّ النصّ بكامله»، على قول رولان بارت. مسافة مرهِقة من الذات إلى الموضوع: هل يخرج الكاتب منه، من ذاته؟ وهل ينأى بنفسه عن جسده؟ كتب ع. ع. إبراهيم: «هذا الكتاب حوى كتاباتي الماركسية خلال عضويتي لثماني عشرة سنة في الحزب الشيوعي، منها ثمان تفرّغت فيها له بالكلية، وبعد خروجي منه لنيف وأربعين عاماً (…)، فالكتاب سيرة ذاتية بوجهٍ ما، رغبتُ أن يرى القارئ هذا التاريخ من وراء نصوصه. وهي سيرةٌ في السُّهد على قضية لم تُشتهَر أحزابُها بالإحسان إلى مثلها بالأريحية». من هنا يُمكننا أن ندلف إلى صحائف عبد الله، إلى متونه وحواشيه التي حشد لها كتابات عديدة منذ أزمان يرجع بعضُها إلى ستينيات القرن الماضي وحتى عهد قريب، البعض منها يُنشر لأول مرة، مثل بحثه «مسائل في التعليم الحزبي» أو كما يمسيه الكاتب أحياناً «نحو تطوير مدرسة الكادر»، إضافة إلى ردود واستجابات لآخرين، ثلّة من الأوّلين وثلّة من الآخرين.

من بَعد مقدّمة ليست بالقصيرة، أوضح الكاتب فيها آليات هذه الكتابة، ودوافعه في جمع هذا العدد الهائل من الكتابات والوثائق والردود والاستجابات، جاء الفصل الأول «المثقف والحزب» برسالة الكاتب إلى المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوداني (يوليو 2016) وبيّن فيها: «… لماذا خرجتُ على الحزب الشيوعي في 1978 بعد عضوية فيه منذ 1960 أنفقت منها ثماني سنوات بين الاعتقال التحفظي والمخابئ». يلخّص هذا الفصل كثيراً من هوامش هذا الكتاب، ويضيء متونه وحواشيه. يكتب في ختام رسالته: «اتْلَوَّم الحزب الشيوعي فيَّ وفي سائر كادره الثقافي، والفيهو اتعَرَفَت… ولا أريد من رسالتي هذه للحزب الشيوعي سوى استصحاب هذه الخبرة في تعزيز الثقافة والمثقّفين. لا أطلب شيئاً ولستُ نادماً علي شيء». ومرة أخرى يعود الكتاب، من بعد مقّدمته العامة ورسالته آنفة الذكر، إلى الحديث عن هذا الكتاب بصفته «سيرة في خدمة قضية غَِمار الناس»، وأنّ هذا الكتاب «… سيرتي في خدمةٍ لقضية الطبقة العاملة والكادحين في أروقة الحزب الشيوعي من 1960 إلى 1978». وبالفعل فصّل الكاتب في هذا الجزء وأفصح عما أراد أن يحشده هنا من «دفاتر الماركسية» أو الممارسة السياسية لعضوية مؤسّسة الحزب. وتراه مهموماً بالثقافي والممارسة الثقافية في أروقة المؤسّسة الحزبية، وأهمّ من كلّ ذلك، همّه الذي حملة لعقود من الشأن المعرفي وقضايا المعرفة النظرية والمفاهيمية لعناصر المؤسّسة.

في فصل بالغ العذوبة بعنوان «الغزل بجمع المذكّر السالم في الثورة»، وهي مقالة نُشرت في «أخبار الأسبوع»، وقد كُتبت بعد شهر واحد فقط من انقلاب مايو 1969. كتب ع. ع. إبراهيم:

«يا سُلطة العمّال والمزارعين والجنود والمثقّفين المعذّبين، كوني لعبد الله علي إبراهيم، الثوريّ طريقةً، الاشتراكيّ قبيلةً، والماركسيّ شيخاً، كوني له شهقةً ودهشةً، حلماً وحقيقةً، شهوةً وشهية». ومن بعدها، كعادته في الكتابة، تداعى في حديث حميم عن الثورة والمثقّف العضوي، بعنوان جانبي طريف «عبد الخالق إلّا كان يتقطّع!»، ومن بعدها دلف إلى سراديب وأروقة ذاكرته ينقّب فيها بلغة كثيفة، مع إيراد شواهده وأدلّته من منشورات المؤسّسة، ومن الصحف والمطبوعات المختلفة، خاصة أواخر ستينيات القرن الماضي، وبتركيز خاصّ على كتاباته في مطالع تجربته مثقّفاً شابّاً وحركيّاً تقاطَعَ بانفعالٍ مع مُنجز الخطاب النقدي الماركسي وتجلّياته في المحيط العالمي. وإحالتنا هنا إلى الفصل الذي أورد فيه: قضايا ما بعد المؤتمر الرابع وتقرير اللجنة المركزية، دورة 1968. أعقب ذلك، بسلاسة، عرضُه الباهر أيضاً لدراسته الراكزة حول قضايا التعليم الحزبي، أوردها الكاتب كاملةً في الصفحات 69 – 92. ويا لها من كتابة، وما أجمل استعادتها، وهي واحدة من عدد كبير من أوراقه التي لم تُنشر من قبْل، وظَهَرَتْ في هذا في هذا المُجلَّد الضخم الذي يَجد قارئه غير قليل من إشكالات التحرير والتوضيب والتنسيق والتنضيد. ومن بعدها يأتي عدد من مقالاته في مجلة «الشيوعي»، إكمالاً لحوافّ المتن، وفيها إضاءات على حيوات من كانوا فاعلين في المشهد وسكت عنهم التاريخ الرسمي، ثمّ وثيقته المثيرة للجدل «نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع والمبدعين» (1976)، ويورد هنا أيضاً متوناً وحواشيَ في الدفاع عن الإبداع والمبدعين؛ الفيتوري، ووردي، وحمّيد، وعوض عبد الرازق، وحسن سلامة، والخاتم عدلان، ومحمد إبراهيم نُقد، والجزولي سعيد، وحتى فكّ مغاليق العنوان الرئيس للكتاب المُقتبس من عجز بيت المتنبي، في جزء عنوانه «الزيلعي: عِزّة الشيوعيين باستقلالهم هراء»، والقائمة تطول. ونتوقّف طويلاً عند الجزء الخاص بعناوين أفريقية، حيث استعاد الكاتب مقالات من جريدة «الميدان» تعود إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي، ونجد في طريقة تسرّبها لكتابته، بتلك العين الفاحصة والعارفة والنجيضة، مُتعةً ذهنيةً خاصة.

علامات على الدرب صارت وحدات وعناصر لتحليل البنية برمّتها وإعمال التحليل والبحث فيها، ألا وهو ملامح من السيرة الفكرية للكاتب، الذي كتب قائلاً: «وهكذا ترى عشقي «للتجدّع» في تاريخي طالما رغب راغب، ولا أرفضه أو أقدل به حتى حافي حالق. وتعلم أنّ «حلاقتنا» ربانية وأقدم من فؤاد أم موسى». إلى أن نصل، وبسلاسة أيضاً، إلى كتابات أخرى تقف أواصر شاهدة على أنّ هذه الكتابة مترابطة في بنيتها العميقة، على الرغم من تشظّيها الظاهر. لا يفوتنا أن نقول إنّ الكاتب أكثَرَ من وضع الهوامش وبدقة متناهية، من إسكتشات بيوغرافية إلى إشارات توضيحية. إنها الصرامة البحثية، كما جاء في الكتاب.

في ذلك السياق، نبشٌ وإعادةُ تفكيرٍ في تجربة المؤسّسة وبأدوات النقد؛ من نقد تاريخي إلى إحالات للخطاب النقدي ما بعد الكولونيالي، إذ أفتى الكاتب في موضوعات وقضايا متنوّعة وتوغّل عميقاً وطرَح أسئلة معرفية وأيديولوجية قارّة لا تزال، وربّما ستظلّ مفتوحة، حيناً من الدهر، لكنها تمسّ جوهر أسئلة التاريخ والدولة والمجتمع؛ أسئلة ينبغي أن تظلّ مفتوحة حتى بعد أن يُسدَل الستار. تناولها الكاتب بطرائق «الرد بالكتابة» على «إمبراطوريةٍ» صَغُرت أم كَبُرت، وعلى سرديةٍ صَغُرت أم كَبُرت، فإنها ليست عصية، مطلقاً، على الكتابة. كيف تستعصي، والواحد يكتب فيقيم له بيتاً، على قول الشاعر الفرنسي – من أصل مصري – إدموند جابيس.

سياحة في زمن الرفاق، وجولة في خطاطات الخطاب الماركسي، مع عودة راتبة إلى زمن الحكي؛ وسيرة المؤلّف مشتبكة مع تلك الأزمنة، روح تائهة وكاتب يبحث عن معنىً في الرقوق والصحائف. وهذا قليل ممّا وَرَد في هذا الكتاب المختلف، ولكنّا آثَرْنا استراتيجية التشويق حتى نضاعف من عدد القرّاء المحتملين.

محبتي.

Scroll to Top