أتر

مسنّو دار الضّو حجّوج: سنتان في دارٍ بديلة

منذ نحو سنتَيْن ونصف، يَعيش 20 مُسنّاً في دار إيواء بديلة في مدينة شندي بولاية نهر النيل، تحت ظروف إنسانية وحياتية مُتقلّبة. وصل المسنّون إلى مقرّهم الجديد بعد إجلائهم من دار الضو حجوج لرعاية المسنّين بمدينة بحري التي عاشوا فيها أكثر من شهرين تحت وطأة الحرب وكابدوا أوضاعاً صعبة أثناء تمدُّد رقعة القتال ودويِّ المدافع والمُتفجّرات وانقطاع الكهرباء والمياه، وتضاؤل المساعدات الإنسانية، وتقلّص الرعاية الصحية وإغلاق المستشفيات. وفي الرابع من سبتمبر 2023، أعلنت «منظمة حاضرين» اكتمال ترتيبات المقرّ البديل للمسنّين في شندي؛ وأنها هيّأت، بالتعاون مع السلطات المحلية في محليتَي بحري وشندي، داخليةَ مدرسةٍ ثانويةٍ لاستقبال نحو 28 مسنّاً، من أصل 36، قضى منهم ثمانية نزلاء نحبهم قبل نقلهم إلى مأواهم الجديد، وثمانية آخرون بعد نزوحهم إلى شندي، بحسب حديث أحد المتطوّعين الذين ظلوا يولونهم الرعاية لـ«أتر».

أُسِّست «دار الضو حجّوج لرعاية المسنّين» بادئ الأمر في عام 1928، في مدينة الخرطوم بحري، وكانت حينها تُسمّى «الملجأ»، إذ أنشأتها الإدارة الاستعمارية لإيواء العاملين والعابرين والمُسنّين، وواصلت عملها بعد الاستقلال بالجهد الشعبي والطوعي، إلى أن ضُمّت إلى إدارة وزارة الشؤون الاجتماعية والثقافية في عهد مايو باسم «دار العجزة والمسنّين». في العام 1984، تبرّع المحسن الضو حجّوج بإعادة تأهيل المبنى، لذلك سُمّيت الدار باسمه. تتبع الدار حالياً لوزارة الشؤون الاجتماعية بولاية الخرطوم، وكانت تُقدِّم حتى اندلاع الحرب خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية لكبار السنّ من الرجال، وتبلغ سعتها الاستيعابية 70 مُسنّاً. ووفقاً لإحصاءات مُنظّمة الصحة العالمية، فإنّ عدد المسنين في السودان يبلغ حوالي 4% من إجمالي عدد السكّان.

وفي الأول من أكتوبر كل عام يحتفل العالم باليوم الدولي للمسنّين.

ويُخبر المتطوّع في «حملة ما براكم» – لرعاية المسنّين التي أطلقتها «منظمة حاضرين» – محمد إبراهيم سخن، في حديثه إلى «أتَـر»، أنّ الحملة تكفّلت بإجلاء المسنّين من الخرطوم بحري إلى شندي. ويقول: «أدارت منظمة حاضرين المهام التشغيلية بالدار بعد تجهيزها بالكامل وتهيئة البيئة السكنية وجميع الحاجات الأساسية للمُسنّين من غذاء ودواء ورعاية إنسانية، بميزانية خاصة لأربعة أشهر، نشبت بعدها خلافات في عملية تشغيل الدار مع السلطات المحلية لمدينة شندي، اضطرّت معها المنظمة مرغمة إلى رفع يدها وترك الأمر برمّته بين إدارة المحلية ووزارة الشؤون الاجتماعية بولاية الخرطوم».

أوضاع ما قبل الإجلاء

بدأت الأوضاع تستقرُّ نسبياً في أعقاب تولّي «منظمة حاضرين» شؤون الدار في بحري، واستجابت قطاعات واسعة من المجتمع السوداني لدعم الدار عبر «حملة ما براكم». تلقّى النزلاء رعاية طبية لائقة، رغم النقص الحادّ في الكوادر الطبية من أطباء وممرّضين، وندرة كثير من الأدوية.

في أعقاب اندلاع الحرب في أبريل 2023، وجد نزلاء دار الضو حجّوج أنفسهم عالقين في دارهم ببحري بالقرب من ميدان عقرب، تحاصرهم المعارك ونيران الاشتباكات العنيفة وانقطاع سبل الحياة، دون أدنى سند حكومي أو شعبي آخر، سوى من بعض المتطوّعين من شباب الحي المحيطين بالدار، الذين نفذوا نفيراً للنظافة، ووفّروا ممرّضاً لمتابعة الحالة الصحية للنزلاء، وتتبّعوا النواقص الطبية والغذائية، مُحاولين توفير مواد تموينية ووجبات، وأطلقوا نداءات عامة للمساعدة وإجلاء النزلاء إلى مناطق آمنة. 

وصَف مدير دار الضو حجوج لرعاية المُسنّين السر عمر، أوضاعهم أثناء الحرب بالصعبة، وقال في حديث مصوَّر بُثَّ في مايو 2023، على وسائط التواصل الاجتماعي، ردّاً على ما شاع حينئذ بموتٍ يوميٍّ طال العديد من مُسنّي الدار، إنّ الأمور بالفعل تأزّمت كثيراً عقب اندلاع الحرب، فقد تدنّت المساعدات وعانت الدار نقصاً حادّاً في أدوية الطوارئ وفقدت خدمة النظافة، لتغيُّبِ المشرفات وتعذُّر وصولهن إلى الدار بسبب اشتداد المعارك: «فقدنا عدداً من المسنّين، ماتوا متأثّرين ببعض الأمراض المزمنة والتقرّحات. نشرنا أرقام حسابات، وأطلقنا نداءً عبر الميديا، استجابت له «منظمة حاضرين» التي نجحت سريعاً في استعادة الخدمات وتوفير الغذاء والمياه الصالحة للشرب والأدوية، خاصة أدوية الأمراض النفسية، وانتظمت الوجبات. واستجلبت المنظمة طبيباً مناوباً، ومندوباً مقيماً في الدار».

بدأت الأوضاع تستقرُّ نسبياً في أعقاب تولّي «منظمة حاضرين» شؤون الدار في بحري، واستجابت قطاعات واسعة من المجتمع السوداني لدعم الدار عبر «حملة ما براكم». تلقّى النزلاء رعاية طبية لائقة، رغم النقص الحادّ في الكوادر الطبية من أطباء وممرّضين، وندرة كثير من الأدوية، بعد استيلاء الدعم السريع وقتها على مناطق شاسعة من محلية بحري.

بعد اشتداد القصف المدفعي ودويّ الطيران الحربي وانقطاع شبكات الاتصال في مناطق واسعة من العاصمة الخرطوم ووفاة مُسنَّيْن إضافيَّيْن، دُفِنَا جوار الدار بسبب تواصل الاشتباكات العنيفة، بدأت «منظمة حاضرين» بالتنسيق مع الجهات المُختصّة، إجراء الترتيبات النهائية لإجلاء المسنّين من دارهم بالخرطوم بحري لمدينة شندي في ولاية نهر النيل.

المقرّ البديل يتهيّأ

خاضت «حملة ما براكم» والمجتمع الشبابي المحلّي لمدينة شندي جهوداً جبّارة لتهيئة داخلية ثانوية شندي للبنات بعد صيانتها وإعدادها على نحو أمثل، لتكون مأوىً بديلاً للمسنّين، وأتاحت الجهود التي بُذلت تركيب منظومة للطاقة الشمسية، إلى جانب توفير اختصاصي باطنية واختصاصي للطب النفسي وطاقم تمريض متكامل، لمتابعة حالات المسنّين في مقرّهم الجديد، والذي يَحوي أيضاً عيادة مُصغّرة، تتوافر فيها مواد إسعافات أولية ومطبخ تحت إشراف ضابط تغذية.

واكتملت عملية إجلاء نزلاء الدار ومتعلّقاتهم وجزء من الأثاثات، إضافة إلى الطاقم الإداري من بحري بوساطة فريق، ليصلوا إلى شندي في رحلة استغرقت ساعات طويلة نسبةً لتعنُّت نقاط التفتيش التابعة للدعم السريع وإصرار عناصرها على تفتيش الموكب، إذ نهبوا ما يقارب الـ 300 ألف جنيه سوداني، إضافة إلى الاعتداء بالضرب على مندوب الحملة المرافق للموكب في إحدى نقاط التفتيش.

انتكاسة

بعد أكثر من أربعة أشهر من التزام الحملة بتسيير العمل بدار الرعاية المخصّصة للنزلاء بشندي، اضطرّت «حاضرين» للتوقف نسبةً لقلة الدعومات وعدم تجديد الجهات المانحة لالتزامها، بحسب منشور على صفحة ناظم سراج، المدير التنفيذي لـ«منظمة حاضرين»، الذي نفى في حديثه لـ«أتَـر» الخلافات بين المنظمة والسلطات المحلية بمدينة شندي، وأكّد أنه «مع استمرار الحرب لم تكن التبرعات كافية لتشغيل الدار، لذا توقفنا، مثلما توقفنا الآن عن دعم التكايا والمطابخ المركزية».

لكن يؤكّد مصدر بوزارة الرعاية الاجتماعية ولاية الخرطوم، عمل مع المسنّين في فترتي الخرطوم وشندي، أنه خلال الأشهر الأربعة الأولى من دعم «منظمة حاضرين» للدار البديلة حدث خلاف كبير بين مدير الدار السابق ومندوب المنظمة في كيفية إدارة الميزانية، وهو السبب الرئيس الذي دفع «حاضرين» لرفع يدها، ووصل الأمر – بحسب ما يقول في حديثه إلى «أتَـر» – إلى أنْ فتحت إدارة الدار بلاغات للجهات الأمنية ضد المنظمة. وقال إنّ الوزارة طالبت إدارة المحلية بتولّي أمر الصرف وتحديد الميزانية، لكنّ المحلية لم تستجب لذلك. وبحسب المصدر، فإنّ الأمور تسير حالياً بمجهودات الأهالي والمتطوّعين في جميع مناحي الدار، بالتعاون مع الهلال الأحمر بمحلية شندي، ومع ذلك لا يستطيعون تغطية الاحتياجات.

حالياً بدأت الأمور تسوء من جهة الدواء تحديداً، خاصة أنّ معظم المسنّين يُعانون من الأمراض النفسية والباطنية المزمنة، ويَحتاجون إلى الدواء على نحو مستمر.

بدَورها تُخبر مُمرّضة مُقيمة بدار المسنّين في حديث إلى «أتَـر»، أنّ فترة إدارة «منظمة حاضرين» كانت جيدة مقارنة بالأوضاع الحالية. وعلى الرغم من أنّ الوزارة عيّنَت مديراً مُقيماً بالدار، لكن تظلّ مشكلات الميزانية وتوفير الغذاء والدواء قائمة. تقول شارحة الأوضاع: «حالياً بدأت الأمور تسوء من جهة الدواء تحديداً، خاصة أنّ معظم المسنّين يُعانون من الأمراض النفسية والباطنية المزمنة، ويَحتاجون إلى الدواء على نحو مستمر». وتضيف: «نقوم باللازم وفق الإمكانات المُتاحة».

يُبدي المدير الحالي للدار، مبارك شريف تحفّظاً في التحدّث إلى «أتَـر»، ومع ذلك يقول إنه حضر ممثلاً لوزارة الشؤون الاجتماعية لولاية الخرطوم في أعقاب انتهاء فترة «منظّمة حاضرين»، مُضيفاً أن هناك بعض المشكلات الناتجة عن شحّ الإمكانيات وضعف التمويل، لكنهم يجدون تعاوناً كبيراً من مستشفيات المدينة وبعض الصيدليات في التصدّي لكثيرٍ من الحالات الطارئة التي تنتابُ النزلاء، إضافة إلى ما تمكّنوا من تأمينه في صيدلية الدار من الأدوية الأساسية للأمراض المزمنة. ويضيف: «المجتمع المحلي وشباب المدينة يُحيطون المسنّين بالرعاية والاهتمام في حدود الاستطاعة».

يقول صالح، وهو متطوّع من أبناء المدينة، ومتابع لمسألة نزوح المسنّين منذ البداية، في حديثه لـ«أتر»: «نتعاون مع الأهالي في توفير وجبات وخلق برامج ترفيهية مرّة في الأسبوع على الأقل، ونُتابع مع إدارة الدار مسائل النظافة ومساعدة المسنّين في شؤونهم الخاصة». ومن ثمّ يضيف: «تحضر شابات من الأحياء المجاورة يومياً عشاء خفيفاً للمسنّين، مثل الأرز باللبن، واللقيمات، والشاي، ويحاولن خلق أجواء إنسانية بالحوار معهم والتخفيف من وطأة العزلة التي يعانون منها».

Scroll to Top